يعرف العالم الافتراضي «حربا» حقيقية تعبّأت قوى عديدة لمواجهتها في الآونة الأخيرة. برزت في العديد من الدول مجموعات منظمة للقراصنة المعلوماتيين تعمل على توجيه ضربات للمواقع الإلكترونية حسب القواعد المتحكمة في عمل كل مجموعة. غالبا ما يضرب القراصنة بقوة موقعا إلكترونيا «يحصدون فيه اليابس والأخضر»، ثم يحتمون من المتابعة القضائية بأسماء مستعارة لا تخلو من الغرابة، مستفيدين من خبراتهم في تضليل الأمن المعلومياتي، الذي يوشك أن يصير جزءا أساسيا من الأمن القومي للدول. تعرف شبكة الأنترنت في الآونة الأخيرة حربا ضروسا، مواجهات بين مجموعات حرب افتراضية تبدّت خسائر أطرافها على أرض الواقع. يُشكّل القراصنة الجدد طرفا رئيسيا في هذه المعارك. إنهم لا يملكون فقط قدرات كبيرة على المواجهة وكفاءة كبيرة على تغيير أماكن ضرب «العدو» وتكتيك الحرب، بل إنهم كوّنوا قدرة على تحديد هدفهم بأنفسهم، ومن ثمة ينضاف إلى عاملي الكفاءة والخبرة في مثل هذه المواجهات الافتراضية عامل المباغتة، وهو ما يحسم المواجهات لصالح القراصنة، إلى حدود الساعة.. لا تحمل كلمة «القراصنة»، دائما، حمولات سلبية، إذ لم تعد المجتمعات تصور القرصان، بعد تسريبات الموقع الشهير «ويكيليكس» ودور رواد الأنترنت في «الربيع العربي» الحالي، بوصفه «مراهقا» يمارس شغبا من جديد، «مسلَّحاً بشاشة حاسوب. لقد صار القراصنة يُقدّمون أنفسهم، في أغلب الأحوال، ك»مناضلين» افتراضيين يطالبون بإقرار الشفافية وترسيخ الحق في الحصول على المعلومة.. لكنهم قليلا ما يتجرؤون على المطالبة بذلك علانية، ولذلك تجدهم يتخفّوْن وراء أقنعة وأسماء يعملون جاهدين لتحويلها إلى رموز للشفافية والمصداقية والوضوح. وإلى حدود الساعة، لم تصدر في أرجاء العالم قوانين فعالة من شأنها أن تضع حدا لنشاط القراصنة. يرفعون شعار الدفاع عن حرية التعبير وينْبرُون للفضح، وإن كان ذلك وفق أساليب تخالف القانون.. حرب الأسماء المستعارة «سونكي» هو الاسم المستعار لقرصان فرنكفوني، ولا أحد يعلم اسمه الحقيقي ولا حتى سنه أو مقر إقامته أو وظيفته.. لا يتواصل إلا عبر بريده الإلكتروني ويُصرّ على إبقاء جميع المعطيات المتعلقة به طيَّ الكتمان. انغمس في عالم قرصنة المواقع الإلكترونية قبل سنوات. «كان الأمر، في البداية، مجرد فضول، أما الآن فقد صرتُ مؤمنا بما أقوم به وأسخّر جميع إمكانياتي من أجل القرصنة»، يقول «سونكي». إمكانياته معلموماتية، بالأساس. أما «إيمانه» فيشمل قناعات بضرورة «الدفاع عن حرية التعبير بصفة عامة، والحريات عبر شبكة الأنترنت بشكل خاص، ولا سميا الحق في الاحتفاظ بسرية المعلومات وعدم تدويلها». وقد انضم «سونكي»، مؤخرا، إلى الحركة الهجومية للقراصنة، وهي حركة متخصصة في قرصنة المواقع الإلكترونية الحكومية والاستحواذ على الملفات المُصنَّفة داخلها، في أفق تسريبها في إطار شعار «الشفافية»، الذي ترفعه هذه المجموعة. بعد انصرام فترة دوامه، يتقمص «سونكي» دور القرصان ويشن هجوماته على مواقع يتولى اختيارَها بنفسه أو «تُملى» عليه أسماؤها من «قيادة» المجموعة.. تتعدد أهداف الهجومات بين الفضح والتنديد والاحتجاج، وفي بعض الأحيان، تتخذ طابعا تهديديا. غير أن «سونكي» يتميز داخل مجموعته بذهابه إلى أبعد الحدود في الهجومات التي يشنّها على المواقع التي تحلو له «الإطاحة بها». لا يكتفي بتغيير المواد المنشورة في الصفحات الرئيسية لهذه المواقع، وإنما «يمسح» جميع مواد هذه الصفحة وينشر مكانها لائحة أشخاص، مرفقة بجميع معلوماتهم الشخصية: أسماؤهم الحقيقية وعناوينهم وأرقام هواتفهم وأقنان بريدهم الإلكتروني، إضافة إلى أقنان بطاقاتهم البنكية. وكان مجموعة من القراصنة الفرنكفونيين مجهولي الهوية هاجموا المواقع الإلكترونية لشركة فرنسية احتجاجا وتنديدا على إقدامها على إغلاق مصنعها في مدينة لييج على الحدود الفرنسية -البلجيكية. كما أنهم عمدوا إلى نشر وثائق سرية لشركة «فيفاندي» تنديدا واحتجاجا على إغلاق «ميغابلواد»، أحد أكبر مواقع التحميل على شبكة الأنترنت، الذي وجهت لمؤسسه اتهامات بالقرصنة ويواجه شبح الاعتقال وغرامات مالية ضخمة. يعترف «سونكي» بأن ما يقوم به مخالف للقانون ويعي، تمام الوعي، المخاطر التي قد يواجهها مستبقلا في حالة تم التوصل إلى هويته الحقيقية، غير أنه لا يبالي بكل هذه الأمور ويكتفي بالتأكيد بأن «ثمة رسالة يجب إيصالها إلى من يهمهم الأمر».. المتعطفون مشبته فيهم يقدم بييريك دوجون نفسه تحت اسم «تريكسيل». شاب يبلغ من العمر 29 سنة، يعاني من العطالة. تُوجَّه لهذا الشاب تهمة القرصنة الإلكترونية، حيث يوشك أن يؤدّي ثمن كشف هويته الحقيقية غاليا. ففي تمام السابعة من صبيحة يوم 24 يناير 2010، اقتيد من طرف عناصر من الإدارة المركزية للاستعلامات الداخلية الفرنسية إلى مقر هذه الإدارة. وفي اليوم ذاته، صدر قرار يقضي بوضعه تحت الحراسة النظرية لمدة 45 ساعة، كما تُرِك وحيدا في زنزانة في قبو قصر العدالة في باريس لمدة تناهز 15 ساعة، والتُّهمة: مهاجمة موقع إلكتروني والحيلولة دون الولوج إليه. ينفي محاميه، جوزيف بريهام، التّهَم الموجهة لموكله «تريكسيل» جملة وتفصيلا. وفي هذا السياق، يقول بريهام: «سيواجه بييريك التّهمَ الموجه له، وسندفعها عنه بمقتضى القانون، ولا يد له في مهاجمة الموقع الإلكتروني الذي يُتابَع بتهمة إلحاق أضرار به». ورغم تأكيد المحامي براءة موكله، وهذا مألوف لدى المحامين في جميع أنحاء العالم، فإن دوجون، من جانبه، لا يخفي تعاطفه المطلق مع قراصنة الأنترنت. ويتجلى هذا التعاطف في فتحه منتدى يملكه أمام منتديات «الربيع العربي» في السنة الماضية. فقد قبل، دون تردد، إيواء هذه المنتديات في وقت كانت مواقع إيواء أخرى تتردد في قبولها وترجئ النظر في الطلبات المتقاطرة عليها من الدول العربية إلى «حين وضوح الصورة في العالم العربي».. أما دوجون فقد قبل إيواء منتديات «ثورية» من تونس ومصر وليبيا ولم يُبالِ بالتحذيرات التي تلقّاها من مغبة الإقدام على هذا الأمر. عكس العديد من مواقع الإيواء في العالم الافتراضي، بادر «تريكسيل» إلى إيواء المنتديات العربية «الثائرة» وعبّر، علانية، عن إعجابه ب»الربيع العربي». ويعلق على العتاب المُوجَّه له في هذا الإطار قائلا: «كيف يُساءَل مستخدمُ حانة على المناقشات التي عرفتها الحانة وروادها سكارى؟!».. بعد أن أطلق سراحه بعد انقضاء مدة الحراسة النظرية سالفة الذكر، تلقى دوجون استدعاء جديدا للمثول أمام القضاء في 8 مارس الماضي، على خلفية القضية نفسها. خرج محاميه بتصريحات أكثر انتقادا: «لا يخلو الاهتمام الإعلامي المفرط بهذه القضية من أغراض دنيئة. كيف تفسرون تكليف عناصر من الأمن السري باقتياد موكلي إلى المحكمة؟ وحتى إذا فرضنا أن التهم المُوجَّهة له صحيحة، فهل تعتبر مواجهة موقع إلكتروني جريمة إرهابية؟».. القراصنة «الوطنيون».. «فورتي» شاب تركي دخل عالم القرصنة الإلكترونية من أوسع الأبواب، قبل أن يكمل ربيعه الثالث والعشرين. يعمل هذا الشاب في مجال البرمجة المعلوماتية في إحدى الشركات. وعلى غرار «سونكي»، ينزع عنه صفة مبرمج معلومياتي ليلا ليتحول إلى قرصان متعطش إلى «الحرب الافتراضية».. لا تمنع صفته الافتراضية، بطبيعة الحال، من تكبيد الطرف المهاجم خسائر على أرض الواقع. بعد أربع سنوات من الاشتغال بشكل منفرد وتقديم نفسه بصفته «قرصانا هاويا»، قرر هذا الشاب التركي ولوج عالم القرصنة «الاحترافية».. وهكذا، انضمّ، في سنة 2009، إلى المجموعة التركية «ألكينسار». وفي أقل من سنتين، صار «قائد» هذه المجموعة. تتكون المجموعة من «مئات من رواد الأنترنت الذين يتعبؤون لمواجهة المواقع الإلكترونية والمنشورات الرقمية المعارضة للمصالح التركية والماسة بالدين الإسلامي»، يقول «فورتي». قامت هذه المجموعة، تحت شعار «الدفاع عن القيّم»، بمهاجمة 6 آلاف موقع إلكتروني حتى الساعة، ويعمل قادتها على تطوير إمكانياتها من أجل ضرب المزيد من المواقع التي تعارض تركيا أو تمسّ بالإسلام. وعلى هذا الأساس، لم تتردد المجموعة في مهاجمة موقع الصحيفة الفرنسية «شارلي إيبدو» حين نشرت هذه الأخيرة رسوم كاريكاتير لنبي الإسلام، محمد. وبالموازاة مع ذلك، ضربت المجموعة الموقع الإلكتروني الرسمي للنائب البرلماني عن حزب الاتحاد من أجل الأمة، باتريك دوفيدجيان، الذي قاد حملة لدعم البرلمان الفرنسي للتنديد بما يسمى «المَجازر التركية في حق الأرمن». يتحول القراصنة، في بعض الحالات، إلى جواسيس: كثيرا ما يعمدون إلى مهاجمة مواقع إلكترونية إسرائيلية أو موالية لتل أبيب والبحث فيها عن ملفات سرية. يهاجم القراصنة الأتراك، أيضا، المواقع المُوالية لحزب العمل الكردستاني، ذي الميول الانفصالية. وتتحدث مصادر عديدة عن قيام هذه المجموعة بإحالة الملفات السرية التي تتمكن من وضع أيديها عليها على الحكومة التركية من أجل «القيام بما يلزم».. رسميا، لا يحظى هؤلاء القراصنة، الذين يصفون أنفسهم ب»الوطنيين»، بأي دعم من السلطات الحكومية التركية. وعلى غرار تركيا، تتكون مجموعات قراصنة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هناك أوجه مشتركة كثيرة بين قراصنة تركيا ونظرائهم الإيرانيين، وإن كان الأتراك، بحكم تمتعهم بالسبق في هذا المجال، يبقَوْن أكثرَ قوة من الفارسيين. تتشكل، أيضا، مجموعات قراصنة على الطريقة ذاتها في كل من الصين وألبانيا. «تتجه هذه المجموعات إلى الحصول على دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تعمل واشنطن على توجيه مجموعات القراصنة في تلك الدول لخدمة مصالحها. ومن شأنه الدعم الأمريكي في هذا المجال أن يُمكّن هذه المجموعات من شن هجومات أكثرَ دقة وأشد فتكا»، وفق فرانسوا باجي، الباحث في شؤون الأمن المعلومياتي. عبقرية القراصنة فطن ماتيو سويش بولعه بالبرامج المعلوماتية قبل بروز القرصنة الجديدة بمدة ليست بالقصيرة.. انطلق اهتمام هذا الشاب، البالغ من العمر حاليا، 23 عاماً، بعالم البرمجة المعلوماتية قبل 11 سنة. «لم أكن أرمي في البداية إلى الانضمام إلى مجموعة قراصنة معينة، وإنما كنت أهدف، من خلال الهجومات التي كنت أشنها من حين إلى آخر على بعض المواقع الإلكترونية، إلى اكتشاف جميع الأخطاء الموجودة في عالم الأنترنت والوقوف على نقط ضعف الشبكة العنكبوتية»، يقول سيوش، قبل أن يسترسل: «كان الأمر في البداية أشبهَ بتحدٍّ بالغ الأهمية على المستوى الشخصي، فقد كنت تلميذا فاشلا وكانت شبكة الأنترنت بالنسبة إليّ عالما بديلا عن المدرسة لإثبات الذات».. كاتن سويش يقضي أوقاتا طويلة أمام حاسوبه، محاولا فك شفرة البريد الإلكتروني، وما يزال يتذكر كيف كان على شفا تعطيل أزيد من مليون حاسوب عندما توصّلَ، بعد أشهر من التجارب، إلى فيروس معلومياتي قويّ للغاية». في آخر لحظة، قرر سويش التراجع إلى الوراء، حيث وجّهَ رسالة لشركة «مايكروسوفت» يحيطها فيها علما بخصائص فيروسه وبأساليب مواجهته، وتلقى شكرا وتنويها من الشركة الأمريكية.. يؤكد سويش أنه لم يُسخّر إمكانياته المعلوماتية أبدا لأغراض غير سوية: «لم أشُنَّ، طيلة السنوات التي اشتغلت فيها في البرمجة المعلومياتية، أيَّ هجوم ضد المواقع الإلكترونية». ويبدو أن سويش تمكنَ، فعلا، من كسب التحدي. حقق في مجال المعلوميات نجاحا كبيرا وذاع صيته، حيث لا يختفي وراء أسماء مستعارة، كما يفعل القراصنة المتوجسون خيفة من المتابعات القضائية. يشتغل ماتيو سويش اليوم باحثا في الأمن المعلومياتي في شركة «غوغل». يقول إنه يحصل على راتب يُغنيه عن شن هجومات في العالم الافتراضي لضمان لقمة العيش في العالم الحقيقي. «تبتدئ الأجور في «غوغل» عند عتبة 92 ألف أورو سنويا»، يوضح سويش دون أن يكشف عن قيمة راتبه.. في الطريق إلى الالتحاق بفريق عمل شركة «غوغل»، كان سويش قد انتقل، قبل 3 سنوات إلى هولندا، ونجح في بلاد «الأراضي المنخفضة» من إقناع مسؤولي وزارة العدل بمؤهلاته. وبعد أشهر من العمل في وزارة العدل الهولندية، عاد إلى بلده -الأم فرنسا، وأسس شركة متخصصة في الاستشارات المعلومياتية.. بعد ذلك، أسس شركة أخرى في ولاية كاليفورنيا، الأمريكية. المثير أن سويش، رغم رفضه نعته ب»القرصان»، فإنه يحتفظ بصورة إيجابية عن قراصنة العالم الافتراضين يقول عن ذلك: «لا تقتصر اهتمامات القراصنة على المجال المعلومياتي.. القرصنة فلسفة وفضول يقودان إلى البحث في التفاصيل، تفاصيل تنير الطريق نحو كل الوجهات»، دون أن يحدد طبيعة هذه «الوجهات»: هل تنم عن خير أم قد تتسبب في «حرب افتراضية»؟!.. عن «لونوفيل أوبسيرفاتور»
هل يرفع القراصنة أقنعتهم ويكشفون هوياتهم؟ رغم أن القراصنة يُبدون حرصا كبيرا على إبقاء هوياتهم الحقيقية في طي الكتمان، فإن هذا لم يمنعهم، في مناسبات معينة، من التخلي عن الجلوس أمام الحواسيب طلية اليوم من أجل المشاركة في التجمعات الكبرى للقراصنة عبر العالم. وتعتبر تجمعات القراصنة، المُنظَّمة في إطار اتفاقية «ديف كون»، أبرزَ التظاهرات التي يحج إليها القراصنة من مختلف بقاع العالم. تقام هذه التظاهرات في مدينة لاس فيغاس، الأمريكية، وتعرف، على نحو مثير، مشاركة ممثلين عن الوكالات الأمريكية الحكومية، التي «تتربص» بمثل هذه التجمعات من أجل استقطاب عباقرة الأمن المعلومياتي في العالم وتقديم عروض تغريهم بالعمل لصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية.. تعرف القارة الأوربية، كذلك، تظاهرات مماثلة. ويتم تنظيم أكبر هذه التظاهرات على المستوى الأوربي في مدينة فينوفورت، التي تبعد عن العاصمة الألمانية برلين بنحو 50 كيلومترا. تقام هذه التظاهرة كل أربع سنوات. وفي دورتها الأخيرة، أفلحت في تجميع حوالي 3 آلاف شخص في قاعدة عسكرية سابقة. وفي فرنسا، تُعقَد أبرز تجمعات القراصنة في إحدى مدارس المهندسين الموجودة في قلب العاصمة باريس.. وليست هناك معلومات مدققة عن أعداد الأشخاص الذي يشاركون في هذه التجمعات، في صيغتها الفرنسية..