أطفال يعانون في صمت من أمراض مجهولة لدى الأطباء وأسر يشغلها هَمّ تأمين مصاريف أدوية باهظة الثمن للتخفيف من آلام فلذات أكبادها، في انتظار الأجَل المحتوم. حالات كثيرة لم تُكشَف إصابتها بأحد الأمراض النادرة إلا بعد معاناة طويلة في أجنحة العمليات الجراحية في المستشفيات المغربية. بعضهم أجْرَوا ثلاث عمليات جراحية وآخرون خضعوا لأكثر من هذا العدد من العمليات، دون أن يتغلبوا على مرضهم، قبل أن يعلموا، بعد سنوات من المعاناة، أنهم مصابون بأمراض لا دواء لها، وبالتالي لا شفاء منها. ومع ذلك، تُصرّ أسر مغربية تحدّت النظرة الشعبية، التي «لا تنظر بعين الرضا» إلى الطفل المُشوَّه، أيا كان السبب، على بذل الغالي والنفيس كي يتلقى أبناؤها العلاجات، على أمل أن يسبق التوصل بالدواء الناجع الأجل الحتوم. خضع محمد أمين، قبل أن يبلغ السنة الثانية من عمره، لثلاث عمليات جراحية لعلاج فتق في البطن. باءت جميع العمليات بالفشل واستمر الفتق وازداد بطنه انتفاخا، ثم تبين، بعد سنوات من الفحوص، أنه مصاب بمرض نادر مُصنَّف ضمن قائمة أمراض «الليزوزموم»، يدعى «أورلير». طفل مراكشي اكتشف والداه مبكرا أنه «غير عادي»، لكن الأطباء الكثر الذين أحيل عليهم وأخضعوه لسلسلة فحوص لم يتمكنوا من اكتشاف طبيعة المرض الذي يعاني منه. ظل والداه تائهَيْن بين طبيب وآخر وفحص وآخر.. إلى أن نُصِحوا بالتوجه إلى فرنسا، وهناك اكتشفوا، أخيرا، أن ابنهم مصاب بمرض نادر يُصنَّف ضمن فصيلة المتلازمات. طفلة أخرى من المدينة الحمراء أُخضعت لعمليات جراحية عديدة في مستشفى الشيخ زياد في الرباط، لأن أصابع يديها ورجليها كانت ملتصقة وكان لزاما فصلها عن بعضها البعض. بعد معاناة، من عملية جراحية إلى أخرى، اكتشفت أسرة هذه الطفلة أنها مصابة، بدورها، بمرض نادر من عائلة «المتلازمات». في العيون، فطنت الصغيرة الرياضي، مبكرا، إلى معاناة ابنتها خولة من مرض نادر لم يستطع الأطباء المغاربة تشخيصه أو تحديد طبيعته. قررت عرض خولة على أطباء إسبان، وبيّنت الفحوص أنها تعاني من مرض نادر يُطلَق على المصابين به «أطفال القمر»، لأن أشعة الشمس «محظورةط عليهم.. كانت خولة محظوظة مقارنة مع شباب آخرين لم يكتشفوا مرضهم مبكرا وظلوا عرضة لأشعة الشمس سنوات طويلة.. ولأنهم ألِفوا التحرك بكل حرية، فقد استعصى عليهم التأقلم مع خصائص هذا المرض بعد اكتشاف إصابتهم به وصار الموت في أعينهم أرحمَ من العيش في جنح ظلام دائم.. هذه نماذج من معاناة أطفال يعانون من أمرضا نادرة. وإلى حدود الساعة، لا يتوفر المغرب على قاعدة معطيات خاصة عن هذه المعطيات ولا وجود لإحصائيات رسمية عن حالات الإصابة بأمراض يعجز الأطباء أنفسهم عن تشخيصها في المغرب. وتؤكد الجمعيات الناشطة في مجال محاربة «الأمراض اليتيمة» أن نسبة هذه الأمراض في شموليتها مرتفعة، وإنْ كان الشائع اعتبارها نادرة من حيث تعدد هذه الأمراض داخل العائلة الواحدة. فقد أحصت المختبرات الغربية عشرات الأمراض في عائلة «أمراض الليزوزوم» وحدها. يؤكد إبراهيم مادو، الكاتب العامّ ل»جمعية أمل للتغلب على أمراض الليزوزم»، أن الجهل يبقى العائقَ الرئيسَ الذي يعترض مجهودات محاربة الأمراض النادرة. ويشمل هذا الجهل محطات عديدة تبتدئ بصعوبة تشخيص هذا النوع من الأمراض في وقت مبكر، علما أن اكتشاف الإصابة ببعضها مبكرا يرفع احتمالات التعايش معها لوقت أطول وتجنيبَ المريض معاناة تلقي علاجات لا تجدي نفعا في مواجهة المرض الذي يعاني منه. يمتد الجهل بوجود هذه الأمراض ليشمل، أيضا، أسر المرضى. ففي المغرب، ما تزال خصائص المحيط الاجتماعي، حسب أحمد الحسوني، الكاتب العام للجمعية المغربية للطفولة والأمراض اليتيمة، الكائن مقرها الرئيس بمدينة مراكش، تمنع بعض الأسر، خصوصا في المناطق القروية، من المبادرة إلى عرض أبنائها، الذين يولَدون غير عاديين، على أنظار الأطباء. أسر كثيرة ترتئي «التسليم بالأمر الواقع» اتقاء ل«نظرات الآخرين». وكثيرا ما تتحمل الأم عبء الطفل المريض في هذه الحالة. ويتناقل الأطباء، أيضا، قصص نساء طلّقهن أزواجهن لمجرد إنجابهن أطفالا معاقين.. وحكايات أخرى لأزواج أصرّوا على تكرار محاولات الإنجاب، رغم تلقيهم تحذيرات من إمكانية ولادة أطفال معاقين، مجددا. المعاناة لا تتوقف عند تشخيص المرض وتحديد طبيعته. فبعد تجاوز هذه المرحلة، يبدأ فصل جديد من المعاناة، يتمثل عنوانه الرئيس في البحث عن الأدوية الناجعة، مهما كلّفت من ثمن. أغلبية الأمراض النادرة لا دواء لها، والمتوفر من الأدواء لا يواجه جوهر المرض، وإنما يهاجم بعضا من أعراضه ويعجز عن القضاء على أعراض أخرى. كما أن اهتمام البحث العلمي بها لا يرقى إلى مستوى تطلعات الجمعيات الناشطة في هذا المجال. وفي المغرب، يضطر أغلبية المصابين بهذا المرض إلى جلب الدواء الخاص بهم من الخارج. لم يتم التوصل إلى أدوية أمراض «الليزوزوم»، على سبيل المثال، إلا في سنة 2005. ومع ذلك، ما تزال الصيغة المتوفرة من هذا الدواء، إلى حدود الساعة، غيرَ ذات فعالية، إذ يُلزَم المريض بأخذها مدى الحياة، مع العلم أن مفعولها لا يمتد إلى الرأس، وهو ما يجعل هذا العضو، الحساس بالنسبة إلى نمو الأطفال، يتأثر بشكل كبير، مما يُعجّل بوفاة الطفل المصاب قبل أن يكمل ال18 من عمره في المغرب وال25 في بعض البلدان الغربية، مثل فرنسا. وإضافة إلى غياب الأدوية الناجعة، تلتقي الأمراض النادرة، أيضا، في غلاء هذه الأدوية، إذ إن تنقلا واحدا نحو الديار الفرنسية كلّف أسرة طفل مراكشي مصاب بمرض ب«متلازمة فايزر» ما لا يقل عن 30 مليون سنتيم!.. أما مرضى «الليزوزم»، وتحديدا من صنف «أورلير»، أمثال محمد أمين من سلا، فيتناولون دواء لا تقل تكلفته الشهرية عن 30 مليون سنتيم، بمعدل مليون سنتيم في اليوم الواحد.. وفي ظل هذه الوضعية، تطالب الجمعيات الناشطة في مجال محاربة الأمراض النادرة وزارة الصحة بتعميم التغطية الصحية لتشمل جميع الأمراض النادرة، وإنْ كانت صعوبات التعرف على هذه الأمراض تعترض عملية من هذا القبيل. عبد الرحمن بن مامون، رئيس قسم الأمراض المتنقلة في مديرية الأوبئة ومحاربة الأمراض، أكد وجود هذه التغطية الصحية، غير أن الجمعيات تدق ناقوس الخطر بخصوص مرضى الأسر التي لا تتمتع بنظام حماية اجتماعية. وإذا كان الفاعلون المدنيون في هذا المجال ينتقدون، أيضا، تجاهل وزارة الصحة الأنشطةَ التي يقومون بها، فإن بن مامون كشف، في لقاء مع «المساء»، توجه الوزارة نحو بلورة خطة وطنية لمحاربة «الأمراض اليتيمة» دون أن يحدد جدولة زمنية لإخراج هذه الخطة إلى حيّز الوجود. وفي انتظار ما ستأتي به هذه الخطة من جديد، ستضطر هذه الفئة من المرضى إلى أن تعيش على «أمل» ما قد يحققه البحث العلمي من تقدم في هذا المجال وحدوث تغير في نظرة المجتمع المغربي إلى المريض وأن يسبق التوصل إلى الدواء الناجع الأجَل المحتوم..