أشرت، قبل أشهر قليلة، إلى اعتقادي بأن الولاياتالمتحدة تعمل، في مواجهة تحديات عالمية متعاظمة، على إقامة علاقات من نوع مختلف مع شعوب المجال العربي، وأن هذا التوجه يقع في أصل الموقف الأمريكي من الثورات العربية. وفي الخامس من يناير الجاري، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما استراتيجية أمريكية جديدة، هي الأولى منذ الاستراتيجية التي أعلنتها إدارة بوش الابن في نهاية 2002. ولأن الولاياتالمتحدة تظل، بالرغم من صعوبات متزايدة، تلعب الدور الأهم والأبرز في حقل العلاقات الدولية، والعلاقات العربية الغربية على وجه الخصوص، لا بد أن تستدعي الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة عددا من الملاحظات. يعتبر صدور بيان استراتيجي مناسبة للإعلان عن تحول كبير في التوجهات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة، لا يرتبط بالضرورة بمن يمسك مقاليد الحكم في البيت الأبيض. هذه استراتيجية أمريكية، وليست استراتيجية ديمقراطية أو جمهورية، والمتوقع أن تصبح الإطار المرجعي لمؤسسات الحكم الأمريكية المعنية بالشأن الدولي طوال سنوات قادمة، ما لم تتغير المعطيات الاستراتيجية وموازين القوة على الساحة الدولية في صورة تفرض مراجعة من الحجم نفسه، مما يجعل من هذا البيان مؤشرا بالغ الأهمية على طبيعة وتجليات السياسة الأمريكية الخارجية خلال الأعوام القليلة المقبلة. ما طرحه البيان كان واضحا وصريحا، ولا يحتمل التأويل: تعتبر الولاياتالمتحدة أن مركز الثقل الاستراتيجي، من وجهة نظر المصالح الأمريكية العالمية، بات شرق وجنوب شرق آسيا وحوض الباسيفيك، وأن المقدرات الأمريكية العسكرية والسياسية ستوجه بالتالي إلى هذه المنطقة من العالم، وبصورة أكبر من السابق. كلمة السر في البيان الاستراتيجي الأمريكي الجديد هي، بالطبع، الصين التي ستعمل الولاياتالمتحدة على محاصرتها بعدد من القواعد العسكرية، تمتد من شمال أستراليا إلى اليابان. ومن أجل زيادة الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، أعلن الرئيس الأمريكي عن خفض ملموس في عدد القوات الأمريكية الموجودة في القارة الأوربية. وفي شكل مواز، ستعمل الولاياتالمتحدة على إقامة عدد آخر من التحالفات السياسية في الجوار الصيني، ولاسيما مع الهند وأندونيسيا، تضاف إلى التحالفات القائمة الآن مع اليابان وكوريا الجنوبية. بل إن الدفء المتزايد في العلاقات مع مينامار (بورما)، وإعلان وزيرة الخارجية الأمريكية عن قرب استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، يجب أن يفهم في هذا الإطار. لم يكن خافيا، في البيان الاستراتيجي السابق، الذي أصدرته إدارة بوش الابن في 2002، أن ما بات يعرف في بعض الدوائر الأمريكية بالشرق الأوسط الكبير، يمثل الأولوية الأمريكية. والمقصود بالشرق الأوسط الكبير المجال المتصل من باكستان إلى شمال إفريقيا، بما في ذلك دول وسط آسيا المستقلة عن الاتحاد السوفياتي. وبالرغم من أن الحرب الأمريكية على أفغانستان سبقت إعلان إدارة بوش الاستراتيجي، فقد أوحى الإعلان بتدخل أمريكي سياسي وعسكري واسع ومديد في الشرق الأوسط. وهذا ما حدث بالفعل، ليس بغزو العراق واحتلاله وحسب، ولكن أيضا بحربين أخريين في لبنان وقطاع غزة، وضغوط متفاوتة على عدد كبير من الدول العربية، وعلى باكستان، وبتعزيز الوجود العسكري الأمريكي، المباشر وغير المباشر، في باكستان وعدد من الدول العربية ودول وسط آسيا. وضع الشرق الأوسط في مرتبة الأولوية الاستراتيجية لم يكن يعني أن الولاياتالمتحدة قررت الانسحاب من مناطق العالم الأخرى. وليس ثمة شك في أن القلق الأمريكي من الصعود الصيني المتسارع دفع الولاياتالمتحدة، منذ أكثر من عشر سنوات، إلى اتخاذ إجراءات جديدة على مستوى انتشار أسطول الباسيفيك والمقدرات المتاحة لقيادته، وعلى مستوى تعزيز العلاقات الأمريكية الهندية ومحاولة احتواء التقارب الباكستاني الصيني، بل إن بعدا هاما من أبعاد النشاط الأمريكي السياسي والعسكري في وسط آسيا كان موجها ضد الصين، أكثر منه لخدمة أهداف «مكافحة الإرهاب». ولكن الولاياتالمتحدة ليست قوة عالمية مطلقة المقدرات. وبالرغم من أنها الدولة الأكثر قدرة على نشر القوة على مستوى العالم، فهناك محددات ملموسة ومتزايدة لمقدرة الولاياتالمتحدة على نشر القوة. ولذا، فمن غير الممكن، ولا المتوقع، أن تستطيع الولاياتالمتحدة العمل في الشرق الأوسط وفي حوض الباسيفيك وفي أوربا، في وقت واحد وبدرجة واحدة من الاهتمام وتكريس الموارد والأدوات. ولذا، فإن إعطاء الأولوية لمنطقة ما يعني بالضرورة أن تتراجع الفعالية الأمريكية ويضيق هامش المناورة في مناطق أخرى. على سبيل المثال، وصل تعداد القوات الأمريكية المنتشرة في القارة الأوربية في ذروة الحرب الباردة إلى أكثر من 277 ألف جندي، لينخفض تعداد هذه القوات خلال العقدين الماضيين إلى 40 ألف جندي. والمتوقع، في ضوء الإعلان الاستراتيجي الجديد، أن يتم سحب 10 آلاف جندي آخر، وإرسالهم إلى حوض الباسيفيك. والمؤكد أن الولاياتالمتحدة، كما أغلب الدول الغربية، تعاني من صعوبات اقتصادية بالغة التعقيد، لا يتوقع أن يتم تجاوزها خلال فترة قصيرة. وتضيف هذه الصعوبات محددات أخرى على قدرة الولاياتالمتحدة على نشر القوة، بمعنى أن صعود حوض الباسيفيك إلى مرتبة الأولوية في الاستراتيجية الأمريكية العالمية، لا بد أن تصاحبه ترتيبات للتعامل مع المخاطر والمصالح المتعلقة بمناطق العالم الأخرى. مثل هذه الترتيبات بالتأكيد لا يمكن أن تكون بحجم وثقل الترتيبات المتخذة في منطقة الأولوية. في أوربا، مثلا، حيث تراجعت المخاطر الأمنية والسياسية إلى حد ملموس، ربما ستترك واشنطن لحلفائها في القارة مزيدا من الهامش لبناء علاقات من نوع جديد مع روسيا، في الوقت الذي تواصل فيه بناء حائط مضاد للصواريخ، يمتد من تركيا إلى بولندا. أما في المنطقة العربية فالوضع مختلف. تعتبر هذه المنطقة، منذ أخذت ملامحها السياسية الحالية في نهاية الحرب العالمية الأولى، واحدة من أكثر بقاع العالم قلقا. وإلى جانب نصيبها الكبير من صادرات النفط، فقد جعل منها الموقع الوسيط ساحة لصراعات القوى العالمية وتدافعاتها. وفوق ذلك كله، هناك الدولة العبرية. وبينما يمكن للولايات المتحدة الاطمئنان إلى علاقاتها التحالفية مع أغلب الدول الأوربية، فإن هشاشة العلاقات الأمريكية مع دول المجال العربي لا تدعو إلى الاطمئنان. لذا، فإن الولاياتالمتحدة لن تنسحب كلية من المنطقة العربية، هذا أمر مفروغ منه، ولكنها أيضا لا تستطيع المحافظة على وجودها كما هو. لا الإمكانيات الاقتصادية تسمح باستمرار مثل هذا الوجود، ولا آلة الدولة الأمريكية تستطيع التعامل مع حوض الباسيفيك والشرق الأوسط بمستوى عال من الاهتمام لفترة طويلة. بصدور البيان الاستراتيجي يكون الخيار الأمريكي بإعطاء حوض الباسيفيك الأولوية قد تحدد. وربما كان قرار الانسحاب من العراق وبدء المفاوضات مع حركة طالبان، مؤشرات أولية ومسبقة على ذهاب واشنطن إلى خيار الباسيفيك. والسبب خلف هذا الانتقال الكبير من أولوية شرق أوسطية إلى أولوية شرق آسيوية يتعلق بحجم التهديد. تواجه الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط منذ عقود تحديات ملموسة لسياساتها، وصلت في بعض الأحيان إلى مستوى التهديد المباشر، كما حدث عندما بدا وكأن عراق صدام حسين يوشك بسط سيطرته على منطقة الخليج الغنية بالنفط، وعندما اخترقت مجموعة إرهابية إسلامية صغيرة جدار الأمن القومي الأمريكي. وبتزايد احتمالات امتلاك إيران للسلاح النووي، ستواجه الولاياتالمتحدة تحديات من نوع جديد. كما أن رياح التغيير والثورة التي تعصف بجنبات المجال العربي كله قد تودي إلى بروز أنظمة حكم شعبية، بالغة العداء للولايات المتحدة. هذا كله صحيح، ولكن أيا من هذه التحديات والمخاطر لا يمثل تهديدا وجوديا للولايات المتحدة، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الاقتصادي. أما عسكريا، فلا يوجد شك في أن الشرق الأوسط لا يشكل أي نوع من التهديد للولايات المتحدة، حتى إن استطاعت بعض دوله امتلاك السلاح النووي. الصين، من جهة أخرى، تمثل خطرا وجوديا على الولاياتالمتحدة، وعلى الكتلة الغربية الأورو أطلسية ككل. والمقصود هنا ب«الوجودي» أن الصعود الصيني يوشك على الوصول إلى مستوى يهدد قيادة الولاياتالمتحدة والكتلة الغربية للشأن العالمي. لم تعد الصين قوة اقتصادية متسارعة النمو فحسب، بل قوة اقتصادية تحتل تدريجيا، وبصورة حثيثة، العديد من الأسواق التي كانت دائما أسواقا ملحقة بالقوى الاقتصادية الغربية. وتعمل الصين، من خلال صفقات مساعدات وتجارة وتنمية واستثمار متعددة، على توسيع نطاق وجودها السياسي والسياسي الاقتصادي في أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك أمريكا اللاتينية. وبتعاظم الفوائض المالية، ستصبح الصين أكثر حرية في بناء مقدراتها العسكرية، وقدرة على تهديد حلفاء الولاياتالمتحدة في شرق وجنوب شرق آسيا. هذا، إن لم تحاول الصين في النهاية التصرف كقوة عالمية كبرى، وتمد ذراعها العسكرية إلى ما هو أبعد من مجالها الاستراتيجي المباشر. لمواجهة هذا الخيار الصعب، تحاول الولاياتالمتحدة، منذ اندلعت حركة الثورة العربية، أن تعقد مصالحة تاريخية مع شعوب المجال العربي، بمعنى التضحية بأنظمة الاستبداد، حتى تلك المعروفة بتحالفها مع الولاياتالمتحدة، من أجل بناء علاقات صحية وطبيعية مع القوى السياسية المرشحة لقيادة الأنظمة الديمقراطية الجديدة. وقد تخلت واشنطن بالفعل عن عدد من هؤلاء. وليس من المستبعد أن تدير ظهرها لآخرين، في حال وصلت رياح الثورة إلى قصورهم. تأمل الولاياتالمتحدة أن تساهم هذه السياسة في تقليل حجم التهديدات النابعة من المجال العربي، ولاسيما في ما يتعلق بالمصالح الحيوية الأساسية، مثل تدفق النفط وأمن طرق المواصلات. هذا لا يعني، بالطبع، أن واشنطن لن تسارع إلى التدخل المباشر في المنطقة إن واجهت تهديدا ملموسا للمصالح الحيوية الأساسية. كما لا يعني أن السياسة الأمريكيةالجديدة ستنجح في تحييد المسألة الفلسطينية. لا يقدم هذا المتغير في أولويات الولاياتالمتحدة تفسيرا للموقف الأمريكي من حركة الثورة العربية وحسب، بل ويتيح فرصة استراتيجية للدول العربية، منفردة وكمجموعة.