أصبح الربيع العربي استعارة رمزية، لكن دلالتها المفهومية هي أنها تعبير عن مناخ تاريخي اجتماعي، محايث لأوضاع شعوب، بقصد التغيير الجذري لبنيتها السياسية، كمدخل وحيد لاستئناف نهضة متعثرة، كانت فاقدة لقيادتها الحرة العادلة منذ انطلاقتها، ما عدا بعض الرموز من الروّاد النادرين في لحظات عابرة من مسيرتها الشاقة. فقد كان الاستعصاء التاريخي متمثلاً في عجز أو تعجيز النهضة عن إنتاج أو إنضاج ثورتها السياسية بقوى شعبية خالصة، مباشرة؛ كانت هناك أشباه ثورات كثيرة تستثمر الشعاراتِ العمومية لصالح الفئويات. كان الانسلاب الإنساني المتوارث، جيلاً خائباً بعد جيل آخر، أشد خيبة، بل غضباً، كان مقترناً مشروطاً بالانسلاب السياسي، بما يدفع إلى القول بأنه ليس من شعب عربي حَكَمَ نفسه بنفسه منذ عصور. فُجاءة الربيع أنه الأول من فصول الدهر العربي السحيق، الذي يأتي واعداً بإنهاء قاعدة الهرم إلى مشارف القمة، دون أو قبلَ أن يحتلها تماماً. تونس الخضراء كانت العصفور الأول المبشّر بقدوم الربيع، ثم أصبحت هي الأولى كذلك بين شقيقاتها من الدول الثائرة، الناهضة بثورة الشعب العمومية إلى مستوى ثورة السلطة في قمة الدولة. ذلك هو المقياس الأهم الذي سوف يميز عصراً للربيع الإنساني، وليس العربي وحده، لِما بعد أمبريالية الاستبداد/الفساد، شرقاً وغرباً معاً. إنه مبدأ الحرية العمومية للشعوب يريد أن يكون هذه المرة منعكساً في مختلف مناحي حياتها اليومية، بدءاً من استتباب السلطة العليا لجاهزيات إرادة المشاركة الأوسع كمّاً ونوعاً، بحيث لا يكون ثمة ما هو خاص لأحد أو فئة إلا بما هو حصة مقررة، مشرعنة ما تحت إرادة المشاركة الأوسع هذه. الترحيب بالربيع العربي من قبل شبيبة أوربية وأمريكية غاضبة، ومستوطنة شوارعَ المدن الكبرى ما بين اليوم والغد، يفسره مفكرون غربيون بكونه تعبيراً عن يأس من ديمقراطية متواطئة مع رأسمالية مريضة بأوبئة الاستبداد والفساد معاً. كأنما أصبحت الإنسانية قطعاناً من الغنم مسوقة للذبح والسلخ في قصور الإقطاع المالي الفلكي. فالأزمة العالمية الراهنة، خاصة في وجهها الغربي الملتبس بالتأويلات المغلوطة، ليست مرضاً لاحقاً بالرأسمالية من خارجها، بل كان تاريخ الرأسمالية سلسلة من الأزمات دفعت البشرية، والغرب في المقدمة، تكاليفها الكارثية حروباً عالمية وإقليمية متلاحقة، وصولاً إلى صورتها القصوى عصرياً في نوع الحرب الافتراضية بأرقام الأصفار اللامتناهية، التي لا يستوعبها قلم أو ورقة، سوى كتابة الفضاء اللامنظور. كأنما الوحش المالي الرقمي تغلّب على سادته، حتى بدت حكومات الغرب نفسها أضعف من أن تضع حدّاً لسلطانه. أمسى همُّها الأخير ابتكارَ المناهج الأنجح في إدارة إفلاسها المحتوم. كأنما يجيء الربيع الشبابي، العربي العالمي، ليطرح الحل الحيوي الإنساني، ما بعد كل الحلول الاقتصادوية الفاشلة التي تمخَّضَ عنها عقلُ حكومي بيروقراطي عقيم؛ فلم يتبقَّ لديه، بدلاً من إعلان الاستسلام، سوى فرض سياسات التقشف على مجتمعاته التي (كانت) مرفهة، ثم صار عليها أن تتنازل أولاً عن مكتسبات الرعاية الاجتماعية، حتى حدّ الحرمان من حق العمل أو تعويض البطالة. إذ كيف سترعى حكومات مفلسة جيوشَ المطرودين من وظائفهم. ما يعنيه الحل الشبابي هو إعادة تحرير الديمقراطية من تبعيتها الالتباسية للرأسمالية، الفاقدة أخيراً لجوهرها الإنتاجي الاجتماعي، هذا التحرير لن تلوح آفاقه إلا مع استعادة مجتمع الاستهلاك لبقية طاقته الحيوية، باستلام وتسليم زمام السياسة لأصحابها الطبيعيين، للغالبية المنتجة، ممثَّلةً هذه المرة بطلائعها الشبابية، كفكر وقيادة وإدارة. ذلك هو ما يميز الربيع العربي، الصائر عالمياً، عن تاريخٍ لثورات الأيديولوجيا الطبقية منها أو القوموية، وهو امتياز لم يكتبه تجريدٌ تأملي سابق، وإنما جسّده المايحدث الربيعي طيلة العام الأول من انطلاقته، التاريخية حقاً. لا ضرورة لتعداد انتصارات منجزة كاملة. فالأهم هو أنه لم يعد ثمة مجتمع عربي سجيناً في قمقم الخوف والخرس. ليس ثمة زلزال، في طبيعة الإنسان، أقوى وأخصب من غضبة العبد على ذاته أولاً، مادام مُذلاً مُهاناً، قبل ثورته على السيد المستبد وفساده. هذه الخاصية في الفارق بين غضبة المذلّ على ذاته، وثورته على المتسبب في هوانه، لا توفرها إلا إرادة حيوية صاعدة، غير مستنفدة بعدُ في تقاليد الهوان المتمادي، كحال الشيوخ المتآلفين مع طقوس القهر وانحناء الظهر.. إنها خاصية اللحم والدم الفوّار في الجسد الفتي، في القامة المنتصبة ورأسها المرفوع ما فوق الصدر المفتوح لتلقّي الرياح الحرّة، رغماً عن رصاص العدو الجبان. سنةٌ أولى من عمر الربيع العربي أثبتت مجدداً أن الحرية والشبيبة إنْ تلاقيا أحدث التاريخُ معجزته النادرة، في انبعاث قوة التغيير ما فوق كل مذلة من نفايات الاستبداد/الفساد.