أمن طنجة يوقف شخصًا اعتدى على متشرد.. والمواطنون يطالبون بعدم الإفراج عنه رغم شهادة اضطراب عقلي    الكعبي وأوناحي يتألقان في اليونان    طنجة.. الأمن يوقف لصين ظهرا في فيديو يوثق محاولة سرقة وسط المدينة    "أسود القاعة" يتوجون بلقب الدوري الدولي بعد فوز مثير على البرتغال    حملات شرسة بطنجة .. الجريمة تحت الحصار    "الأشبال" يستعدون للقاء كوت ديفوار    طنجة تستعد ل"كان 2025″.. انطلاق أشغال توسعة الطرق المؤدية إلى الملعب الكبير    المنتخب الوطني المغربي في المجموعة الثانية برسم منافسات كأس الإمم الإفريقية لأقل من 20 سنة لكرة القدم    الجيش ينفرد بوصافة البطولة المغربية    مقاييس التساقطات المطرية خلال ال24 الساعة الماضية.. وهذه توقعات الإثنين    مهرجان فاس في قلب برشلونة    تأنيث ضمير اللغة    اختراق رقمي يهز المواقع الرسمية .. والمغرب 24 في قلب العاصفة السيبرانية    القفز على الحواجز.. الغالي بوقاع يفوز بجائزة ولي العهد الأمير مولاي الحسن    حمزة إيغامان يقود ريمونتادا رينجرز أمام أبردين    إحداث مراكز الدراسات بسلك الدكتوراه في العلوم التمريضية وتقنيات الصحة ابتداء من الموسم الجامعي المقبل    رغم الأمطار.. آلاف المغاربة في مسيرة من أجل فلسطين والتأكيد على وحدة التراب الوطني    الجزائر تدافع عن مشتبه به في جريمة محاولة اغتيال... وتتهم الآخرين بالتآمر    علماء ودعاة مغاربة يُدينون رسوّ سفن أمريكية تحمل عتادًا موجّهًا للاحتلال الإسرائيلي    اسبانيا .. تفكيك شبكة تهرب المهاجرين من المغرب إلى إسبانيا عبر رومانيا    مندوبية السجون تنفي صحة مزاعم وردت على لسان السجين السابق (ع. ر)    تحقيق دولي لواشنطن بوست يكشف: إيران جنّدت مقاتلي البوليساريو في سوريا لتهديد أمن المغرب    الاعتداء الخطير على بعثة "المينورسو" في تيفاريتي يدفع للتعجيل بتصنيف بوليساريو على قائمة الارهاب الدولي    إدريس لشكر بدون لغة خشب : «وطنيتنا هي التي تملي علينا مواقفنا»    اللجنة المشتركة المغربية العمانية: شراكة متجددة تعكس عمق العلاقات الثنائية    تافراوت : مجهودات جبارة لرجال الوقاية المدنية ساهمت في إنجاح النسخة ال 12 لمهرجان اللوز    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    مؤشر الحرية الاقتصادية 2025.. غياب النزاهة الحكومية وتصلب سوق الشغل يُفرملان نمو الاقتصاد المغربي    المغرب يطلق مبادرة إنسانية جديدة لدعم الأطفال الفلسطينيين في غزة والقدس    وفاة أستاذة أرفود متأثرة بإصابتها بعد الاعتداء الشنيع من طرف أحد طلابها    قطاع مكافحة سوء التغذية يحذر من «كارثة»    في ورقة لمركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي .. مرسوم دعم المقاولات الصغيرة خطوة تعيقها معضلات التوزيع والبيروقراطية وهذه توصياته    في قبضة القصيدة الأولى: ذاكرة النص الأول بعيون متجددة    بينبين مستاء من تغييب وزارة الثقافة له خلال معرض الكتاب بباريس    الصين تدعو الولايات المتحدة الى "إلغاء كامل" للرسوم الجمركية المتبادلة    عبد الوهاب الدكالى يعود بجمهور الرباط إلى الزمن الجميل    مكتب الصرف يحقق في تهريب العملة من طرف منعشين عقاريين    طبيب: السل يقتل 9 أشخاص يوميا بالمغرب والحسيمة من المناطق الأكثر تضررا    درهم واحد قد يغير السوق : المغرب يشدد القيود على واردات الألواح الخشبية    محاميد الغزلان ترقص على إيقاعات الصحراء في اليوم الثالث من مهرجان الرحل    من خيوط الذاكرة إلى دفاتر اليونسكو .. القفطان المغربي يعيد نسج هويته العالمية    'واشنطن بوست': إيران دربت مسلحين من البوليساريو وسوريا تعتقل المئات منهم    المغرب وسلطنة عمان يؤكدان عزمهما على تطوير تعاونهما في شتى المجالات    الدورة السابعة للجنة المشتركة المغربية–العمانية تُتوّج بتوقيع مذكرات تفاهم في مجالات متعددة    دراسة: الجينات تلعب دورا مهما في استمتاع الإنسان بالموسيقى        المغرب يستقبل 4 ملايين سائح في الربع الأول من 2025    تحسن ملحوظ في نسب امتلاء سدود المغرب مقارنة بالعام الماضي    مسرحية ديموغرافية بإخراج جزائري: البوليساريو يخدع الأمم المتحدة    مستقبل الصحافة في ظل التحول الرقمي ضمن فعاليات معرض GITEX Africa Morocco 2025    التكنولوجيا تفيد في تجنب اختبار الأدوية على الحيوانات    غموض يكتنف انتشار شائعات حول مرض السل بسبب الحليب غير المبستر    الذئب الرهيب يعود من عالم الانقراض: العلم يوقظ أشباح الماضي    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دوامة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 24 - 01 - 2025

منذ أن فتح عينيه هذا الصباح وهو يدور في دوامة مغلقة من الأفكار والهلاوس، لا يعلم أين هو ولا ماذا يفعل في هذا المنزل الغريب، ذكريات كثيرة تطارده، صور باهتة تومض في ذهنه كفلاشات آلة تصوير قديمة، بحث في أركان البيت عن والديه، عن إخوته الصغار، لم يجد أحدا، نظر إلى المرآة، هاله المنظر:» من هذا العجوز الذي يطل علي بأخاديده وتغضناته ولحيته البيضاء؟ !» تحسس وجهه بيدين مرتجفتين ثم تراجع إلى الوراء، كان هناك صندوق صغير موضوع قرب الباب، حمله وخرج.
في الشارع شعر بغربة أكبر، لا يعرف أحدا في هذا المكان، أهي مدينة منسية هاته التي وجد نفسه فيها؟ ! جلس عند السور ليستعيد أنفاسه، نظر إلى الصندوق ثم فتحه، داخله فرشاة وعلبة دهان سوداء وخرقة بالية،» أه»…تذكر،هذه الأشياء تستعمل لمسح الأحذية وتلميعها، تساءل،» أأنا ماسح أحذية؟؟»، دون أن يفكر مرتين قرر أن يباشر العمل فورا، لعله يطرد تشوش الذهن الذي أصبح ميزة مرافقة ليومياته، مر النهار وهو إما جالس قرب المقهى أو متجه إلى إحدى الإدارات القليلة المنتشرة في هذه المدينة الغريبة، ينظر إلى الأرض منكسا رأسه، ليس ذلا أو استكانة، بل بحثا مضنيا عن ضالته بين عشرات الأقدام التي تمر أمامه منتعلة أحذية رياضية من كل الأصناف والألوان، ولا واحد بينها محتاج لتلميع، «متى تخلى الناس عن أحذيتهم الجلدية الأنيقة؟» تساءل وعيناه تدوران بجنون، قادته قدماه إلى مدخل الحي القديم قرب دار الصانع، أحس أنه يعرف هذا المكان، جلس هناك واضعا صندوقه الخشبي أمامه آملا أن تلفظ سيارات مكيفة بعض السياح، ربما يكون بينهم من يحتاج خدماته، مرت الدقائق تلو الأخرى ولا سائح ظهر أمامه إلا بضع زوار مغاربة يهيمون بين الأزقة المتربة والمباني الآيلة للسقوط «ما الذي سيأتي بهؤلاء ؟» تساءل بمرارة.
أيقظته نسمة رقيقة من تأملاته، نهض متثاقلا وقد سرى خدر مزعج في أوصاله، يوشك ستار الليل أن ينسدل ولا درهم دخل جيبه، لا يعرف إلى أين يتجه، حتى البيت الذي استيقظ فيه صباحا فقد اتجاهه، لم يعد يشعر بالجوع أو العطش فقط برغبة ملحة في أن يعود إلى مكان آمن قبل حلول الظلام .
هام على وجهه بين الطرقات المتربة للحي القديم .تذكر أنه قضى جل أيامه فيه، عادت به ذاكرته إلى الوراء، يبدو أنها لا تتذكر إلا كل قديم مر به، هنا خطا أولى خطواته، هنا لعب وضحك وتعارك مع أقرانه على ضفة النهر، هناك راقب الصيادين وهم يملؤون قفافهم بسمك طازج شهي، ذلك السمك الشريف 'الفْقير' كما كان يسميه المغاربة، لكنه هجر أزمور والمغرب إلى الأبد، هنا حفظ القرآن في مسجد القصبة، الذي حوله البرتغاليون كنيسة لهم، ثم عاد جامعا يرفع فيه آذان المسلمين بعد ذهابهم، وهناك قامت جارتهم راشيل بصب سطل كبير من الماء على رأسه من شرفة منزلها لأنه، صحبة ابنها موشي وبقية أصدقائهما، لم يجدوا إلا ساحة ضريح «رابي ابراهام مول النيس» ليلعبوا الكرة ويملؤوا المكان بأصواتهم وصراخهم فأزعجوا راحة الولي .
استند بظهره إلى زاوية سيدي أحمد الضاوي لدلائل الخيرات المطلة على نهر أم الربيع، كانت الشمس تستعد للملمة أشعتها الدافئة لتفرد المكان لظلام صقيعي. ذكره بذلك الحلم البعيد الذي لم يكتب له التحقق، حلم السفر عبر النهر، ألحت عليه تلك الفكرة لمدة أيام، وفي أحد الصباحات الخريفية بدأ التنفيذ دون أم يجهز نفسه لما ينتظره، سيسافر عبر النهر، لن يتجه غربا نحو المصب، بل في الاتجاه المعاكس حتى يصل المنبع، هناك في الأطلس المتوسط، لطالما سمع عن منابع أم الربيع، كان يريد أن يشرب ماء زلالا من المصدر، تلك العيون المباركة التي ينبع منها نهر كان دوما مصدر رزق وخير كبير، ظنها قريبة ولن يستغرق وقتا طويلا في الوصول إليها، كانت فكرة غريبة من تلك الأفكار التي كانت تدغدغ أحلام يقظته، ولكنه في غمرة حماسه لم يفكر لحظة أن تنفيذها مستحيل تماما، بل لم يخبر أحدا بما ينوي القيام به، كان والده يسلمه قيادة المركب أحيانا ليساعده في نقل زائرات «عايشة البحرية»، لذا شعر وهو ابن الثانية عشرة أنه أصبح رجلا قادرا على اتخاذ قراراته بنفسه. مع أولى نسمات الصباح سمع الصيادون صرخات طفل يصارع الغرق والبرد تحت القنطرة متشبثا بقاعدة أحد أعمدتها العملاقة بعد أن غمرت المياه مركب والده الخشبي المهترئ .
عاد إلى حاضره، تحسس صندوقه الخشبي الصغير، تذكر أنه كان قد طلب من أحد النجارين صنعه له، كان صيادا مثله لكن عند أفول نجم الصيد بالنهر عاد إلى حرفة أجداده التي كان يتقنها تماما، أما هو فلم يجد بين يديه سوى فرشاة وصندوق خشبي وعلبة دهان قرر أن يبدأ بهم حرفته الجديدة، أرجعته هذه الذكريات إلى أزمنة غابرة من حياته، تذكر عندما ألحت عليه الظروف في شبابه، حين سكن في أحد الدواوير المتاخمة للبحر بمدينة الجديدة، محاولا الاشتغال كمعظم سكانه في جمع الطحالب الحمراء وبيعها بثمن بخس للشركات الكبرى، لكنه بعد عدة أسابيع، لم يستطع مجاراة الأيادي المتمرسة لهؤلاء الغواصين، فعاد أدراجه حاملا أمل رجوع السمك إلى موطنه كما رجع هو، لكن هيهات، لقد هاجر السمك إلى غير رجعة .
في غمرة يأسه وجد نفسه دون أن يشعر أمام مدخل الحي العتيق، جلس تحت نخلة باسقة قرب محطة الحافلات لا يعلم أين يتجه، هل يركب الحافلة أم يجلس منتظرا حتى يتعرف عليه أحدهم ويقوده إلى بيته، مرت أمامه مجموعة من النساء من مختلف الأعمار، كن يغطين أجسادهن حتى أخمص القدم بملابس أكلت لونها شمس المزارع الحارقة، وجوههن مغطاة بشالات لا تظهر من ورائها سوى الأعين المتقدة، ورغم قضائهن اليوم كاملا في جمع محاصيل الخضر، إلا أن ضحكاتهن حين رأينه رنت في أذنه كموسيقى شعبية صاخبة مليئة بالبهجة والحياة، طردت من أعماقه بغتة كل موجات الخوف التي أغرقته، ألقين عليه التحية ومضين إلا واحدة رمقته بهدوء، ثم تقدمت من الصندوق وحملته، كانت امرأة لا يعرفها، أو لا يتذكرها، لكنها تبدو له مألوفة ، أهي زوجته، أم جارته أم ربما تكون إحدى قريباته؟ رفع نظره إليها محاولا تذكر من تكون، لم يسعفه ذهنه الذي فقد البوصلة منذ زمن، ظل جالسا في مكانه ينظر إلى سرب طيور يتجه في نظام بديع إلى الغابة المجاورة : «غدا سأواصل البحث أو ربما قد أعيد طلاء مركب والدي القديم !»، ثم قام يتبع مرافقته التي سبقته بأمتار ، كأنه قارب شارد وسط بحر تيهه اللامتناهي !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.