يجوبون شوارع المدينة حاملين، بالإضافة إلى صناديق خشبية، ثقل الزمان على كاهلهم، تتركز أعينهم على الأقدام مترقبين بشوق كبير أحذية جريحة بأحزان الرصيف مثلهم. ينحنون أمام أقدام الزبناء بدونية وذل وانكسار لتلميع أحذيتهم. جلس (سمير-ه) على كرسي صغير أمام البوابة رقم 6 لسوق الأحد، وبدأ على التو في ترتيب أدواته إعلانا عن بدء عمله واضعا أمامه صندوقا خشبيا وقطعا من قماش رديء وبعض العلب من «السيراج»، أخذ يراقب حركة شارع 2 مارس المقابل للسوق، يقول سمير «الحركة تكون غير عادية طوال هذا اليوم مقارنة بباقي أيام الأسبوع، وها أنت ترى معي أن الحركة في اتجاهات عديدة والناس يتقاطرون على السوق الأسبوعي، مما سيغير الرتابة التي نعيشها خلال بقية أيام الأسبوع». يرتدي سمير سروال «دجين» متسخا وقبعة تغطي رأسه الصغير وينتعل حذاء بلاستيكيا في قدميه الصغيرتين. عرفنا منه أنه يفضل المجيء كل يومي سبت وأحد إلى المكان ذاته، يشرح أسباب ذلك قائلا: «السوق كيعمر نهار الأحد والسبت، وكيعرف الرواج، والناس حين كيخرجو من السوق كيبغيوا صبابطهم إكونو نقيين». يبلغ سمير من العمر 13 سنة، يتحدر من أسرة فقيرة تقطن بمرتفعات «إغيل أضرضور»، توفيت والدته قبل عام وقرر، منذ ذلك التاريخ، أن يساعد والده الذي يعمل حارسا لأحد مواقف السيارات بشارع الحسن الثاني، يقول باعتزاز شديد «أنا ما كنسرقش وما كنسعاش، أنا كنخدم في أيام العطل باش نعاون الأسرة ديالي». سمير تلميذ في القسم الخامس ابتدائي، وفي أوقات الفراغ أو العطل المدرسية يلجأ إلى بيع السجائر بالتقسيط وبيع الأكياس البلاستيكية، وكان قبل ذلك يحمل أغراض الناس على كتفيه في سوق الأحد، قبل أن يشتري العدة اللازمة لحرفته كماسح أحذية والمتمثلة في صندوق خشبي ودهانات بألوان مختلفة وفرشاة ومنديل للتلميع وكرسي خشبي صغير.وقد اعتاد، منذ عام تقريبا، التجوال أمام المقاهي وقرب الإدارات باحثا لنفسه عن زبائن . بوجه بريء وبنية ضعيفة وذراعين نحيفتين، يقاوم (رشيد –خ) قساوة البرد أمام سوق الأحد، ينظر إلى أحذية المارة ويدق على صندوقه الخشبي ويصيح بين الفينة والأخرى: «تسيري .. تسيري». اقترب منه أحد المارة طالبا منه مسح حذائه.. فرح رشيد بهذه الدعوة وأخرج العدة في همة متناهية وبدأ يمسح الحذاء الجلدي، مرة تلو الأخرى قائلا للزبون: «أنا غدي نرد ليك هاد الصباط بحال إلى عاد شرتيه»، ضحك الزبون وانتظر حتى نهاية عملية المسح، مد يده إلى جيبه وأخرج 5 دراهم، منحها لرشيد وانصرف مبتسما، جمع رشيد عدته ونظر إلى النقود مبتسما بدوره وعلق قائلا: «تعلمت من هذه المهنة الصبر، وحسن معاملة الزبون، أستقبل أشكالا متعددة من الناس من طباع مختلفة، منهم الكريم ومنهم البخيل، منهم القاسي ومنهم المتعاطف .. اتجه ثلاثة أطفال من أعمار مختلفة لعبور الشارع صوب مقهى لافونتين وسط المدينة، دخل أحدهم منتظرا دعوة زبون لمسح حذاء، نظر إليه نادل المقهى ونهره قائلا : «سير بحالك».. انصرف الطفل الصغير غاضبا مبتعدا عن المقهى كما طلب منه ودون أن ينبس ببنت شفة، وأخذ يبحث عن زبون آخر أكثر تفهما لحاجته إلى العمل يجنبه هذا الصد القاسي الذي تلقاه قبل لحظات. ووسط زحام المارة، سار أمام المقاهي المتراصة كالفطر على طول الشارع المؤدي نحو مسرح الهواء الطلق وعيناه ترقبان بتمعن الجالسين على طاولات بعض المقاهي. في هذا الوقت بالضبط، انزوى الطفل الثاني أمام المتحف البلدي ووضع صندوقه الخشبي بجانبه تم انحنى واضعا رأسه فوق يديه متأملا المارة، فيما عبر صديقه الثالث شارع الحسن الثاني بعدما فكر في ضرورة الاتجاه نحو سوق الأحد، حيث يبيع سلعة أخرى بالموازاة مع حرفة مسح الأحذية. يفضل الحسن-د، ذو ال14 سنة، أن يغير نشاطه كلما شعر بالوقت «عيانة»، على حد تعبيره، إذ يعمد إلى بيع أكياس البلاستيك يوم السوق الأسبوعي ويلجأ الى غسل السيارات في الصيف. ورغم صغر سنه، يبدو كشخص بالغ ويفكر كرجل مسؤول. يتحرك هذا الطفل أمام بوابات سوق الأحد بنشاط بالغ محاولا تناسي وضعه راسما على محياه ابتسامة، فهو بالنسبة إلى الآخرين أفضل حالا مادام يملك أسرة ومسكنا، ولا تأتي الساعة السابعة مساء إلا ويكون قد اختفى من موقعه ولم يعد له أثر، يقول الحسن: «أسكن بعيدا، لذلك أضطر للمغادرة حتى لا يفوتني موعد الحافلة الأخيرة، وحتى لو لم أكن أقطن بعيدا فلن أبقى لأن ما فوق السابعة مساء يبدأ اكتساب عادات سيئة كشم السيليسيون أو لعب القمار أو الشرب .. في لقاء جمعنا بهؤلاء الأطفال، عرفنا أن فئة منهم تدرس وفي العطل أو أوقات الفراغ تبيع الجرائد وأكياس بلاستيكية، بينما فئة أخرى انقطعت عن الدراسة كما هو الحال بالنسبة إلى سعيد، 15 سنة، الذي يبدو أنه غير سعيد تماما، فبعد طرده من المدرسة ونظرا إلى وضع أسرته الفقيرة لجأ إلى مسح الأحذية وبموازاة ذلك يبيع «الديطاي» بمواقف الحافلات العمومية وبالمحطة الطرقية، لا يعرف شيئا عن أسرته بعد أن أقدمت السلطات على هدم براكتهم بمنطقة بيكران، يقول عن تجربته التي يريد نسيانها: «كان معلم العربية يكرهني ويضربني بلا سبب، وينعتني بأوصاف تجعل زملائي يسخرون مني، لقد استطاع هذا الشخص أن يخلق عندي عقدة اسمها المدرسة»، وبنبرة حزن زاد يحكي: «قررت الهرب من المدرسة بسبب المعلم، ومن البيت بسبب الخوف من أبي، تعرضت للعنف والمضايقات وللتحرش الجنسي»، طأطأ رأسه وامتنع عن المزيد .. سمير ورشيد وسعيد ليسوا سوى نماذج لمجموعة كبيرة من الأطفال والشباب ممن كشر الزمن في وجوههم عن أنيابه الساحقة الماحقة، فوجدوا أنفسهم يمتهنون حرفة مسح الأحذية وحرف أخرى هامشية، منظرهم أصبح جزءا عاديا من الحياة اليومية في المدينة، يحتلون أرصفة الشوارع الرئيسية وساحات الطاكسيات بالبطوار والسلام أو ممرات طالبورجت، يفترشون الأرض الصلبة والمتسخة، يقتسمون في ما بينهم همومهم ومشاكلهم غير آبهين إلى نظرات المارة، أحيانا تجدهم في مجموعات ثلاثية أو رباعية تجوب الشوارع، لكل منهم قصته ولكل سببه الخاص الذي دفعه إلى امتهان هذه الحرفة. يتسابقون في ما بينهم للحصول على أكبر عدد من الزبائن، أحيانا ينشب بينهم خلاف أو شجار حول زبون أو خلال لعبهم في أوقات تخف فيها الحركة، عددهم بدأ يتكاثر مؤخرا بشكل لافت في أرجاء المدينة، يقطن بعضهم بأنزا وأورير والبعض الآخر بتراست والخشايشة، ومنهم من لا أسرة له ورمت به الأقدار في الشارع. حالات عديدة وكل طفل يحمل قصة ومعاناة، حين اقتربنا من هؤلاء الأطفال امتنع البعض عن الحديث ربما لخوفه، إلا أن أسباب انتشار الظاهرة عموما، حسب جمال الساهل، فاعل جمعوي، تكمن غالبا في الفقر والعنف الأسري وجفاف المناهج التربوية وعلاقتها بالرسوب والهدر المدرسي. ويرى هذا الناشط الجمعوي أن امتهان الأطفال لحرف تحط من كرامتهم بدل وجودهم بالمدرسة هو البوابة الرئيسية لولوج عالم الشوارع أو ما يصطلح عليه عند عوام الناس بالتشمكير. ويضيف الساهل: «قد يدفع الفقر الطفل إلى محاولة المساهمة في توفير بعض نفقات الأسرة، بيد أن الخطير يتجلى في كون هذه المهن تعرض الأطفال الذين يمارسونها لمضايقات من طرف بعض المارة أو أصحاب المقاهي أو العاملين بها، كما أن بعضهم يتعرض للعنف ويخضع للاستفزاز والبعض الآخر ينحرف ويضيع مع التائهين في هذا العالم بعد أن يكون قد اكتسب عادة شم السيليسيون واعتراض سبيل المارة لممارسة السرقة والنهب». من جهة أخرى، يرجع الدكتور(حسن – ت) انحراف هؤلاء الأطفال إلى شعورهم بالتذمر، يقول موضحا: «على المستوى النفسي، فإحساسهم بالدونية يلازمهم طويلا، إما بسبب انقطاعهم عن الدراسة أو لغياب مرحلة مهمة من حياتهم وهي طفولتهم التي يحتاجون فيها إلى حنان الأم والدفء العائلي. صحيح أن لكل منهم ظروفه الخاصة، لكن يبقى افتقادهم الحماية الأسرية سببا رئيسا في الانحراف، ولاسيما في مدينة تفتقر إلى مراكز اجتماعية تؤوي الأشخاص في وضعية صعبة من مشردين ومن لا ملجأ لهم»، وهو ما يساهم، حسب المصدر ذاته، في استفحال انتشار عمالة الأطفال وامتهان هذه الحرف الوضيعة لضمان بقائهم على قيد الحياة.