ياسر عقاوي هناك في زاوية أحد الشوارع الرئيسية للعاصمة، حيث مقهى المثقفين، هكذا أسماه الحاج عبد الصمد، لازال يصر أن يطلق عليه الجميع لقب الحاج، و ويل لمن صادف للسانه يوما أن أخطأ و لم يناديه به، لقب يرفع شخصه حد السماء في اعتقاده… اسم جميل و لبق، و أقصد هنا اسم المقهى، قلائل هي المرات التي نجد فيها مقاهي تتجلى في حلة تليق بأسماءها، ربما مقهى الحاج من بينها، فغالبية رواده من أرفع أفراد المدينة ثقافة، كونه يتمركز وسط المدينة، حيث الشركات و الإدارات العمومية، حيث يقطن من يملك دريهمات إضافية لابتياع الجرائد و الكتب التي ينتشي قراؤها في حضرتها و حضرة القهوة، يعتقدون دائما أن القهوة مفتاح الكمال الروحي، ونيس للكتاب ربما، ليكون خير ونيس بدوره لهم. كما هي كل صبحيات المدينة، و بينما تسير الهياكل الحديدية جيئة و ذهابا على مر الشارع، يجلس كما العادة في الركن الأيمن لذات المقهى نفس الأشخاص الذين كانوا جالسين هناك صباح البارحة و اليوم الذي قبله، و هكذا إلى زمن لا يعد بالأيام بسهولة عده بالأشهر،أحد الموظفين الحكوميين، و صاحب شركة الملابس الكائنة قبالة المقهى، و شاب عاطل عن العمل. أما الأول فكما هم جل الموظفين، شبه أنيق و شبه شاحب، شبه سعيد و شبه مغتاظ، لا تفارقه ربطة العنق، يكاد يخنق نفسه لدرجة أنه يحاول إرخاءها في كل مرة يود النطق بكلمة، طبيعة عمله تسمح له بساعة للراحة قبل الظهيرة، و ربما يسمح لنفسه بذلك بدل طبيعة عمله، ليرتاد المقهى و يدخن بضع سجائر و ينفث دخانها على الجريدة اليومية التي يقرؤها، دائما ما يجد هناك صاحب شركة الملابس، له متسع وقت أكبر من صديقنا الأول، ففي نهاية الأمر هو رب عمل نفسه، يعمل وقتما شاء و يرتاح كيفما يحلو له، يفضل الجلوس بالمقهى و لا يظهر في الشركة إلا وقت المشاكل، ذو بنية منتفخة و رأس كروي كبير، يعتمر قبعة تضفي على جسده هيبة غير هيبة وزنه الزائد، هذان الشخصان لم يكونا يوما أول الواصلين للمقهى دائما يجدان هناك ذاك الشاب العاطل عن العمل، يغازل كوب القهوة السوداء قطرة بقطرة، ينعي أيام دراسته التي ألقت به إلى ضفاف البطالة و أبواب المقاهي و معاقرة السجائر، لا يوجد ما يوصف به أكثر من كونه عاطلا، نعم، هناك بالضبط حيث نقطة العدم. ها هو الطفل مراد ذو العشر سنوات يأتي حاملا صندوقه بيد و فرشاة الأحذية بيده الأخرى،صغير البنية أشعث الشعر، متسخ الهندام، تماما كما كان البارحة، يقولون أن الكثير من الأشياء قد تحدث بين ليلة و ضحاها لكن حال هذا الصبي لم تتغير منذ فترة ليست بقصيرة، و لا يبدو أنها تنوي ذلك في القادم من الأيام، يمر على المقاهي لينظف أحذية مرتاديها عله يعود بما يشفع له لدخول بيت الصفيح، فكما تعلمون، ااه نسيت أنتم لا تعلمون، زوجة والده السكير لا تسمح له بدخول البيت إلا إن جاء حاملا لما يرضي أباه و زوجته من نقود… لا يمر يوم علر مراد دون أن يمر بمقهى المثقفين، شاءت الصدفة أن أصدقاءنا الثلاثة الذين يجلسون في الركن الأيمن للمقهى هم الوحيدون الذين يطلبون من مراد مسح أحذيتهم… دائما ما يهرول الطفل و ينحني لمسح حذاء صاحب الشركة، فريسة سهلة، و غنيمة لا يريد تضييعها إن بدأ بأحد الصديقين الآخرين. -هاه! أنت هنا مجددا أيها المسخ الصغير!؟ حذائي يحتاج للتنظيف على أي حال، هيا باشر عملك! لا أريدك أن تترك بقعة واحدة، و لو تطلب الأمر أن تلعقه بلسانك. طبعا لا يريد مراد أن يفقد أي ريال مما قد يجود عليه به الرجل الضخم، فهو صاحب شركة في نهاية الأمر، أما ماسحو الأحذية فهم منتشرون في كل مكان. رغم أن الشاب العاطل قد رمقه بنظرة حقد على ما خرج من فاه من قذارة، لكن جرأته تقف عند هذا الحد، و لا تسمح له بالعتاب أو التأنيب. -ياللسخرية! قالها الموظف صارخا، بينما وجه الجميع أنظارهم إليه كما لو ينتظرون منه أن يبرر غضبه، فاستطرد قائلا: -هته الصحف لا تكاد تنشر خبرا دون الاستخفاف بعقولنا، أتصدقون؟ يقولون هنا إن الأسعار مرتفعة. -و أين الغريب في الأمر؟ و ما الداعي للدهشة؟ الأسعار مرتفعة و الجميع يعلم ذلك، يمكنك حتى أن تسأل الأجنة في بطون النساء فتخبرك بذلك. (هكذا أجابه الشاب اليافع) -ليس هذا ما يغيظني، يقولون هنا إن الإجراءات الحكومية على قدم و ساق للتخفيف من هذا الارتفاع، وَيْحَكُم، أوتدرون ماذا؟ لقد كانوا يقولون نفس الشيء منذ أشهر… ما قولك في هذا سيدي؟ فتوجه إليه صاحب الشركة بأنظار متأبطة بالشرور و صاح في وجهه: -اااه، ما أن تتاح الفرص لكم يا رجال الطبقة المتوسطة حتى تثوروا كلاما و قهقهات فارغة، تزيد الحكومة في رواتبكم فتفرحون و تهللون لها، ترفع الأسعار لتوازي بها ما أفرغته في جيوبكم فتفيضون غيضا و احتجاجا، جلودكم كجلد الحرباء، لا تميلون ميلة واحدة ولا تريحوننا من ضجيجكم، بئس الأمر أمركم، هاه.. تطلب رأيي، ها هو ذا. ثم أشاح عنه بنظره ليعود لقراءة مجلته في دهشة واضحة على معالم الموظف، بينما الطفل يحني رأسه أرضا و يضحك لما شهد عليه من موقف يثير الضحك. -ما بك أيها الخنفس القذر؟ ما بك تضحك؟ كفاك مسحا لحذائي، لا أريد منك أن تستغرق اليوم بطوله هنا. رماه ببضع دراهم لينكب الطفل بعدها على الأرض لالتقاطها، ثم أشار إليه الشاب العاطل بيده مناديا إياه لكي يمسح حذاءه، استجاب الطفل و شرع في تلميع حذاء صديقنا الشاب، يبدو في حالة يرثى لها رغم صغر سنه، حتى الطفل الصغير لم يخفى عنه ذلك، في منتصف عشرينياته كما يبدو، لكن تعابير وجهه و تجهم خديه و ازرراق شفتيه لا توحيان بغير البؤس الذي يطال تفاصيل أيامه، لكنه مع ذلك يلمع حذاءه كل يوم، مثير هو هذا الأمر للعجب ثم السخرية! -هل أستطيع أن أسألك يا سيدي؟ -لست سيد أحد، أنا مجرد شاب، لست سيد نفسي حتى، ثم يمكنك أن تسأل ما تشاء، فأنت حر، قد أجيبك، و قد أترك سؤالك معلقا… لاحظ بعدها الشاب علامات التعجب متجلية على محيا الطفل الصغير -ما أريد قوله أن سؤالك قد يجد جوابا عندي، وربما لا، لا يملك الإنسان الأجوبة لكل شيء، فكما تدري، الإنسان في علاقته بباقي الأفراد في مجتمع بنيوي… و قبل أن يتم كلامه لاحظ أن علامات التعجب لازالت لا تفارق تعابير وجه الطفل: -عذرا، أعلم أنك لا تفقه شيئا مما أقول، تعودت على طريقة الحديث هذه، هكذا كنا نغني نقاشنا أنا و الرفقة القديمة. -الرفقة القديمة إذن هاه! ماذا حدث لها؟ -حسنا، لقد كنا نتم دراستنا في الجامعة، وكما تعلم فبعد تلك المرحلة يواجه كل منا سؤال صعب؛ ماذا بعد؟ فأما أصدقائي فأغلبهم قد وجد الجواب، أما أنا فقد تقاذفتني الأيام، و لولا ذلك ما كنا نخوض في حديثنا هذا… فابتسم ابتسامة صفراء كما لو أنه يعتبر الأمر من محاسن الصدف، بينما هو يخفي حقدا أسودا و يندب حظه العثر. -دعني أسألك ما كنت أريد سؤاله قبل قليل: هل أنت تعيش حياة سعيدة؟ -دعني أخبرك عن السعادة، أنت طفل في أوائل سنوات عمره، السعادة بالنسبة لمن هم في سنك أن تلعبوا الكرة وتتسابقوا في الشوارع، تطاردون السيارات و تشاهدون مسلسلات الكرتون، في حالتك هاته أنت مضطر لمواجهة العالم القذر بصندوقك الخشبي هذا، بعيدا عن حجرات الدراسة و حتى عن جلد مدور يتقاذفه باقي أبناء حيك بينما أنت لا تجد حتى ما تسد به رمق جوعك، هل أنت سعيد؟ دعني أجبك، لست بسعيد، لكنك على قيد الحياة، هذا يكفي، العالم لم يجلبنا إليه لنكون سعداء، و هذا ينطبق عليك و علي أيضا، السعادة أن تفعل ما تحب وقتما أحببت، هل نفعل ذلك؟ دعني أجبك على هذا أيضا، لا، يكفي تلميعا لحذائي هذا اليوم، خذ أجرتك و انقلع من أمامي. هكذا تغير مزاج الشاب فجأة و حشر أنفه في جريدته دون أن ينبس ببنت شفة بعدها، حتى الطفل لم يجبه، فقد فهم ما فهمه من كلمات العاطل، العاطل حتى عن الحياة، دار هذا الحوار المثير بينهما بأصوات خافتة… ليجر الصبي بعدها خطواته المتثاقلة لمسح حذاء الموظف، و بينما هو منهمك في عمله أخذ الموظف ينفث بكل ما أوتي من نفس حار دخان سجائره قبل أن يباغته الصبي: -هل أنت سعيد؟ -انحصر دخان السيجارة في حنجرة الموظف و انفجر سعالا قبل أن يستطرد ضاحكا: -السعادة إذن !؟ ههه، أنت تضطرني لأعود بك إلى أيام شبابي، اااه يا لها من أيام، أتدري أنهم كانوا ينادونني بفحل المدشر، تبا كم كانت الفتيات تحوم حولي كما الجواد الأصيل حينما يحاط بإناث جنسه، أوتدري يا فتى، لقد كنت.. هنا بالضبط قاطعه مراد: هل أنت سعيد؟ -حسنا يا فتى، لا يبدو لي أنك تملك وقتا للتفاصيل، لدي طفلان، أترى هته الصورة؟ ولداي، ااه، لا أفخر بشيء أكثر من كوني والدا لهذين المحبوبين. تمعن الفتى في صورة ابني الموظف، يبدوان في عمره كما قدر ذلك، وابتسم ابتسامة خفيفة: -والدي أب لخمسة أطفال، لم يبدو لي سعيدا في أي يوم من الأيام. أعاد الموظف الصورة لمحفظته بتعابير تفيض حزنا يتجلى في أبهى حلل النفاق، و قبل حتى أن يجيب الطفل استرسل هذا الأخير كلامه: -و ها قد انتهى التنظيف، أقبل بدرهمين كحد أدنى، و إن تضف شيئا فجزاؤك عند ربك. أخذ الطفل ما أخذه و تناول صندوقه الخشبي و فرشاة التنظيف ثم هم بالانصراف، و قبل أن يخرج من الباب استدار عائدا باتجاه صديقنا البدين، نعم صاحب الشركة: -هل أنت سعيد؟ -كنت سعيدا قبل أن أرى وجهك هذا الصباح، أنا غني، أتفهم؟ أنا غني، لا أحتاج السعادة، أنا أخلق السعادة، أنا رب السعادة، أما أنت فمجرد ماسح أحذية، انصرف من هنا الآن! هيا! -حسنا، أنت سعيد إذن. آخر ما دار من كلام تلك الصبيحة في ذاك الركن من مقهى المثقفين كان سلاما من الصبي لمرتادي المقهى، قبل أ ن ينطرد إلى حال سبيله، متجها إلى منزله بعدما أنهى صبيحة عمله ببضع دراهم قد يقنع بها زوجة أبيه، طيلة الطريق التي كانت قصيرة في معظم الأيام، والتي طالت على صديقنا في يومه ذاك، يتساءل إن كان سعيدا أم لا، لم يعد يدري ما معنى السعادة أصلا، طال الطريق لكن غابت الشمس سريعا ذاك اليوم… في اليوم الموالي و في صباح مشمس آخر من أيام مدينتنا عرج الصبي على مقهى المثقفين كما عادته، وجد الموظف و صاحب الشركة في مكانهما المعتاد، بينما الشاب غائب على غير عوائده، انحنى مراد لتنظيف حذاء السمين كما العادة، و بينما هو آخذ في قراءة الجريدة، علا صوته فجأة: -إنه هو!! ثم أرى الجريدة للموظف بجانبه، و بعدما استغرق وقتا ليس بطويل في القراءة،انفجر في دهشة منه هو الآخر: -حقا! لا شك، إنه هو، انظر يا فتى انظر! أره الجريدة يا سيدي أره! ثم أدار الجريدة لتقابل وجه الصبي، اختلطت عليه الأمور و انفلتت من يده فرشاة التنظيف: -لقد مات!!! تفاجأ الجميع بخبر انتحار الشاب العاطل عن العمل، رحل هكذا و فقط، دون أدنى ضجيج يذكر، لم يكن سعيدا، خلق الأمر هالة من الرعب في نفس الطفل، لا يريد أن يعيش في معزل عن السعادة بعد اليوم، لا يريد أن يموت في ريعان شبابه، لا يريد أن يفني طفولته في مسح الأحذية لكي يوفر ما يشتري به حبلا يشنق به نفسه، قلبه يرتعد خوفا من كل هته الزوابع التي بعثرت أفكاره عن بكرة أبيها، كل هذا دار في خلد الصبي بعيدا عن ثرثرة صديقينا الآخرين، قبل أن يوجه البدين كلامه إليه: -و لكن أخبرني يا فتى، كيف علمت أن الشاب قد مات؟ كل ما فعلته أني أريتك الجريدة، هل تعرف القراءة؟ -لقد رأيت صورته مشنوقا يا سيدي، أما القراءة فبعدي عنها هو بعدي عن السعادة، فكما تعلم، لست سوى ماسح أحذية.