في العلم الاجتماعي للثورة، أصبح يمكن التمييز بين أنواع، وليس درجات، من أحوال التحرك الجماهيري إزاء أنظمة الحكْم. هنالك في المنطلق نوع الاحتجاج الذي قد يكتفي بإبداء الآراء واتخاذ المواقف المعبّرة عن حال عدم الرضى عن إجراءات أو قرارات معينة قد تتخذها بعض أجهزة السلطة. وقد تكون لهذا الوضع أسبابه العارضة أو النسبية القابلة للمراجعة والتصحيح السريع. وغالبا ما يكون المحتجون أفرادا متقاربين أو متعارفين، يشكلون فئات محدودة منتشرة في فضاء اجتماعي معين؛ وقد ينقلب هؤلاء المحتجون إلى نوع المعارضين شبه المنتظمين أو المتابعين لنشاطات حركية عرضية ومتقطعة، كما هو الوضع في المجتمعات المتقدمة، إذ يمكن للمعارضة، في أبسط الحدود، أن تشكل جماعات مدنية تعبّر عنها أحزاب قانونية معترف بها بنيويا في صميم الحياة السياسية للدولة والمجتمع معا، فلا يمكن فهم بنية الدولة المعاصرة المتقدمة دون الكشف عن آلية تكوين السلطة، في ما يُعبَّر عنه بمبدأ تداول السلطة الذي يفترض أساسا أن السلطة هي لفريقين، الحاكم والمحكوم معا. والتداول لا يعني فقط تغيرا بين أسماء الحكام وشخوصهم، إنه إمكان المحكوم أن يصير حاكما كذلك، إذ تصبح السلطة وظيفة، تكليفا، وليست امتيازا سرمديا لأحد، فالتكليف لا يتحقق اعتباطيا، بل هو المحصلة الإيجابية التي تقررها القاعدة المجتمعية، حيثما يرتكز إليها صراعُ الفريقين من أهل الموالاة وجماعات المعارضة، غير إن وضعَ العصيِّ في عجلة هذا الصراع هو الباعث على توالد النوع الثالث من الحراك الجماهيري، الذي يمكن أن يوصف بالتمرّد. إنه مجرد رد فعلٍ هيجاني غضبي ينتاب الفئات الفاقدة لقواعد الحوار، وبحثا عن توافق حول بنود إصلاحات إجرائية مباشرة. وجماهيرنا العربية دخلت حقبة التمرّد الذي تعددت مظاهره، فكانت (الثورة) هي مخاضه الأخير. مع الثورة، يتجاوز الجمهور انحباسه ضمن منطقة رد الفعل ليغدو منتظما في إطار سلوكيات إرادوية جماعية، فالثوار لم يعودوا مجرّد متمردين، ولا هم متوقفون عند حدود معارضة الرأي بالرأي، تلك مرحلة كانت السلطة خلالها لا تزال متمتعة ببعض شرعيتها المعترف بها حتى من قبل المعترضين أنفسهم. أما عندما يتطور الاختلاف مع السلطة إلى مستوى الخصومة العلنية ضدها، ومع شعور المجتمع الغاضب بصعوبة التغيير المطلوب بإرادة الحاكم نفسه، يصبح محتوما السعي إلى الخلاص من كلية السلطة واستخدام الوسائل المتاحة من أجل تحقيق هذا الهدف. ولعل الوسيلة المباشرة، المتاحة أو المكتسبة، هي قوة الشارع الفائض بالحشود الجماهيرية. ولقد علمتنا ثورات التاريخ، قديمه وحديثه، أن التغيير الجذري في حياة الأمم هو ثمرة فريدة لا تُنْضجها إلا شجرة الثورة الشعبية. في المدينة العربية المعاصرة، تُحرم الجماهيرُ من امتلاك هذه القوة، فالشوارع غاصّة بحراس الحاكم، على مختلف تشكيلاتهم العسكرية والأمنية وحتى الأهلوية. والمدينة العربية أعاد مركبُ الاستبداد/الفساد بناءَها سجنا كبيرا لسكانها، وقلعة صمّاء لجنوده، وأسواقَ بغاءٍ بكل الأموال والقيم المسروقة والقَذِرة. «جماهير» الحاكم المحتل لعاصمة الأمويين (دمشق) يفرض على أولادها أن يصبغوا وجوههم النضرة بشعار: الأسد أو لا أحد، الأسد إلى الأبد. في حين أن شبيبة المدن الشامية وأريافها لا تكفّ ليلا نهارا، ومنذ أكثر من ستة أشهر، عن ترداد اسم الثورة: الشعب يريد إسقاط النظام! فالحالة الثورية تجاوزت أساليب الاحتجاج الصامت أو الرمزي أو المباح لماما، تخطت أشكال المعارضة السياسية أو الفكرية، بارحت مرحلة التمردات الآنية، فرديا أو فئويا. كل هذه الأعراض هي من أحوال الانشطار والانقسام العمودي بين سلطة أضحت تسلطا إرهابيا عاريا من آخر المبدئيات المستهلكة، وبين شعب لم تقهر حيويته شيخوخة استسلام طويل للطغيان، فاستيقظ فتيا جديدا مع أرتال شبابه المكتشفين لروعة الغضب، الأب الشرعي لمولد الحرية والحداثة. هؤلاء الثوار هم الطائفة الأخيرة من قافلة طويلة، ابتدأت بطلائع المحتجين المترددين والمتفرقين؛ ومن بعدهم جماعات المعارضين الالتباسيين عند ذواتهم، والمضطهدين بأدوات القمع، ما بين السجون والهوامش والمنافي؛ وبعد هؤلاء وأولئك تتوالى نماذج المتمردين الفردانيين غير الفاعلين؛ ولكن في نهاية رحلة العسف المجنون المقترن بالصلف الأجوف، يحين وقت نادر للثورة أو لاستسلام البحر الإنساني العظيم لمصير المستنقع شبه الحيواني العقيم. إذا كان العصر العربي قد بلغ لحظة الحقيقة، مشفوعة هذه المرة ببذل الأعظم من رهانات الأمم التاريخية المشهودة، في استعادة سيادتها كاملةً غير منقوصة، فإنها تجازف بأجيال شبابها، أبطالا وشهداء، للفوز بكرامة الحرية والحداثة لهم ولأبنائهم من بعدهم، تعويضا عن مذلة آبائهم وأجدادهم من قبلهم. تغدو الثورة هكذا، دفعة واحدة، قضيةً شخصية وجماعية في وقت واحد، فالفرد لم يعد مجرد محتج أو معارض أو متمرد، إنه طامح إلى أن يكون فاعلا جذريا في المصير العام، إلى درجة التضحية بالحياة نفسها بعد أن فقدت آخر آمالها في العيش الكريم. عندما يتلاقى الناس على مختلف أهوائهم ومشاربهم حول ضرورة واحدة مطلقة، قد تعادل ما يشبه الاختيار القطعي بين الطاعة والاستسلام لشظف العيش واستلاب الكرامة، وبين الانتفاض على مسببي الكارثة العامة، تكون الثورة على طريق الحق، ويوصم النظام المستبد بكونه باطل الأباطيل رغم تمتعه بأسباب الوجود الإكراهي ضدا على إرادة الغالبية العظمى من شعبه الغاضب. هذه المعادلة اللاعقلانية بين دولة قائمة، هي لحكامها فقط بدون المحكومين، وبين الدولة الغائبة الموعودة التي هي وحكامُها نتاج المجتمع، لا يمكن أن تستديم وتسيطر إلا كمحصلة فاشلة كئيبة لنصف قرن من تعجيز نهضة الاستقلال الوطني عن تنمية الوعي المجتمعي، وحتى النخبوي منه، بأحقية الحرية ما فوق كل أهداف السياسات الظرفية والطارئة. الانحدار الهمجي لأخلاقية السلطة العربية نحو كل موبقات التخلف، وجعل هذه الموبقات نفسها معاييرَ للأمجاد والثروات وجرائم الحق العام، يؤكدان النتيجة المحتومة لتراكمية التخلف، فقد طردت كل محاولة نهضوية لإعطاء سلطة موضوعية لثقافة العقلانية، فلم يكن الاستبداد ليُكتب له وحدَه النصرُ على مختلف إيديولوجيات التغيير، التي اعتنقتها أصناف من مثقفي الاحتجاج أو المعارضة أو التمرد، لولا أن صنف الثوار الحقيقيين كان هو الأصعب والأشقّ في التكوّن وفي ممارسة أدوار انعطافية مأمولة، فالاستبداد كان هو المختطِف الأسرع لسلطة كل تغيير سياسوي أو عسكري لم يبلغ، ولو لمرة واحدة، مستوى العقلانية النزيهة في قيادة شؤون الناس، كأنما لم يكن ثمة مكان لثورة ناجحة، إن لم يكن هناك عقل قادر ومُدبّر. ثورات التاريخ لم تكن ناجحة إلا عندما ثبتت مراحل حاسمة في القضاء على لاعقلانيات التخلف والظلمة والهمجية؛ ذلك كان هو التحدي المركزي الأصعب الذي تخاذلت دونه أغلب أشباه الثورات العاصفة بمنعطفات الخمسين عاما المنقضية من التغيير العبثي العربي، حيثما كان ثوارنا الأشاوس يصارعون أخيلة لهم منعكسة في مرايا، ولم يكونوا مرة واحدة أَجْرأ في قشع بعض أقنعة التخلف عن وجوهه الشوهاء. ثوارنا الشباب الجدد مدعوون إلى قيادة حراكهم اليوم، ومجتمعاتهم غدا، قيادةً معرفية؛ فقد أثبتوا حتى الآن أنهم قادرون على تكذيب أسطورة النصر الأخير للاستبداد. حطموا البعض الأخطر من أصنامه المنهارة، وأفقدوا الباقين منهم ثقتهم بأنفسهم التافهة، بالمناعة والديمومة.. إنهم المبشرون بمعجزة الحداثة، بإعادة بناء مجتمع البشر الأحرار، ضدا على مجتمع الأذلاء المهانين والطائعين، غير أنه لا أحد يخدع عقله ثانية، معتقدا أن صباحات الصحارى تأتي معها بواحات الجنات الموعودة بسهولة ويسر، فالحدث العظيم غير المتوقع هو عودة الثوار العرب إلى مقدمة مسارح السياسة في أوطانهم، سواء تظاهروا أو تجمعوا أو تفرقوا وتداولوا حول مصائر الثورية العقلانية الصاعدة. لكن الثورة العربية تقفز إلى دور الطليعة لعصر أممي شبابي مختلف، مبشّرةً بربيع عالمي بعد الربيع العربي، كأنما لم يولد في وطنه صدفة إلا لكونه يجيء لموعد مع الكوني. هكذا تتعثر أنظمة الحكم الأوربية والأمريكية في معالجة مفاعيل الاقتصاد المالي المدمِر لاقتصاد الإنتاج والإنسان. يصيح شباب العواصم: لم يعد أحد يُمثلنا، نريد ديمقراطية حقيقية. ألم يقل شباب العرب من قبلُ إن لصوص المال والسلطة سرقوا ديمقراطية النهضة، فجعلوها مسخا رديفا للتخلف بغير اسمه. لكن شعار الثورة صار سيد الموقف الشبابي: «الشعب، العالم يريد إسقاط النظام!»، من كان يحلم بأن يسابق الواقعُ شعاراته، وألا يأتي وطنيا أو قوميا فحسب، بل يشع ويتحقق إنسانيا، وكان لسانه الأول عربيا.