منذ بداية العام الحالي، يسود أوساط بعض المثقفين شعور جديد بأن الركود الأوربي، فكريا واجتماعيا، قد لا يأتيه الحراك من داخله قريبا. هذه هي المرة الأولى، ولعلها الثانية بعد تأميم قناة السويس (مطلع خمسينيات القرن الماضي)، التي يرى فيها أهل الشمال شيئا مختلفا في الضفة الجنوبية من البحيرة المتوسطية المشتركة. هذا (الاختلاف) الجنوبي لن تفصله البحيرة طويلا عن بقية شطآنه الشمالية. المايحدث هناك يسميه هؤلاء المثقفون اضطرارا أنه ثورة. وهي لن تظل محصورة إقليميا، بل مرشحة للانتشار جيوسياسيا، متجاوزة ضواحيها وما بعدها. لا يعني هذا أن الغرب أمسى مفتقرا إلى ثورة عبيده السابقين، أو على الأقل قد يتأمل يساره التائه باستيلاد ما يناظرها، إذ يعتبر أن الثورة العربية تصلح ردا، غير مقصود في ذاته، على مأزق الرأسمالية المتخبطة ما بين تجارب الحلول الفاشلة لأزمتها الاقتصادية المستمرة، لكنها (الثورة) هي الرد الموجه إلى واحد من نتوءات هذه الرأسمالية خارج وطنها الأصلي، فيما يشكل أسوأ منتوج لليبرالية المالية العقيمة، المتحصلة من الفوائض النفطية ذات الأرقام الفلكية. ما أحدثته الليبرالية النفطوية أنها أعادت صياغة المجتمعات العربية بصورة هندسية رأسية حادة لا مثيل لها، انهارَ التراتب الطبقي القديم لهرم كل مجتمع على حدة، انحدرت غالبية سكانه إلى قاع طبقة دونية واحدة، مضغوطة فيما يشبه بروليتاريا البطالة أو مشتقاتها الرثة. وقد جثم على صدر هذه الطبقة الهائلة سلطان أسطوري خارق أحادي، أشبه بالوحش (لوفياثان) الذي مثل الدولة، عند الفيلسوف هوبز. لكن وحشنا (القومي) المعاصر ليس هو الدولة أو أية مؤسسة كيانية أخرى، إنه بالأحرى أصبح صانع الدول، إنه نظام أنظمة التسلط العربي، هو هذا الشيء المجرد الأقصى، والمادي الأقصى، هو الذهب بلونيه الأصفر والأسود، هو أرقامه الفلكية المالكة لعقول مالكيها وإراداتهم. الكلام الغربي عن كون الاقتصاد المالي هو الذي فتك بالرأسمالية وأوصلها إلى أزمتها المزمنة، المستعصية على كل حل، قد يجد مثاله الواقعي في لوفياثان المال النفطوي الذي أصبح الحاكمَ بأمره المطلق في واحد من أفقر عوالم الأرض، الذي هو عالم العرب والإسلام. ههنا أنتج المال دولا وكوّن مجتمعات، جعل بعضها القليل بمثابة البؤر المفرطة لليبرالية الاقتصاد الريعي الذي زحف على عمق المجتمعات العربية الفقيرة الأخرى، ملتهما تطوراتها الذاتية، ومُعَمِّما عليها آليات صراع طبقي فريد من نوعه، إذ تغدو الطبقة المستغلة هي عينها الفئة المستولية على الحكم. ليست هي البرجوازية، كما في الغرب، المنتجة للسلطة أو الحليفة الدائمة لها، بل تبدو هذه القاعدة مقلوبة في عالم عربي اكتسحت قمته قوة المال الفلكي وحدها، ولا شريك لها إلا حفنات من زبائنية السمسرة والتجارات الطارئة غير الإنتاجية. هكذا فقدت النهضةُ العربية الثانية فعاليتها المركزية المتمثلة في الممارسة الطبيعية لأنشطة السياسة العامة بالنسبة إلى الجماهير الأكثر اتساعا الباحثة عن مصالحها المباشرة. وفي ظل طاغوت المال الفلكي لا تنعدم السياسة وحدها كنشاط تلقائي للجماعة المدنية، بل يغدو نظام الحكم نفسه ديكتاتوريا بإرادة أصحابه أو بدونها، فلا عجب إنْ تحوّل معظم رموز السلطة العربية تجارا، علنا أو بالواسطة. وبالتالي تنحدر السياسات العليا لهذه السلطات إلى مستوى إعلام مقتصر على وظيفتين: تمجيد الحاكم، وتسفيه (العدو)، أو المعارض بالأحرى. هذا مع تأكيد أن عزل المجتمع عن السياسة لن يسمح، في طبيعة الحال، بنشأة أية ظروف موضوعية لتبلور الاختلاف في الآراء أو المواقف عما يصدره الإعلام القومي من أفكار الأوامر أو أوامر الأفكار المعلبة فحسب. إن حرمان شعوب الأمة العربية من السياسة، طيلة العقود الأخيرة من عصر هذه النهضة الثانية الآفلة، كان مقترنا دائما بالحرمان الأدهى والأعظم من حق الاختلاف، مما يحتم نفي الاعتراف بوجود المجتمع نفسه في نظر أنظمة التسلط. فكانت حصيلة ذلك الوضع البائس أن التخلف المتوارث تضاعف بتخلف متجدد معاصر. فكما أبطلت القمة الفاسدة أية معارضة سياسية أو رقابةَ قانونٍ أو أخلاقٍ عامة إزاء سلوكها، كذلك ابتلع التخلفُ المزدوج كلَّ ثقافةٍ كاشفة لآلياته أو مهددة بفضح تجار بضائعه المُلفقة بدعاوى القداسة أو الحداثة معا. فدخلتْ الأكثرياتُ الساحقة من شعوب الأمة في ما يشبه الاغتراب في أوطانها، بعد أن انتفى كل دور لها في مجال الحياة العامة، أي ما يُصطلح عليه بالمجال العام أصبح مأهولا بكائنات غريبة، من البشر، مع نماذج السلوك والمعايير المبتذلة والأفكار الهجينة. غرقت النخب في مستنقعات المجاميع البشرية، أصيبت بعدوى أميّة الوعي الطاغية على عقول ومدارك الأجيال الصاعدة، ذلك أن أميّة الوعي هذه، إنما تُبطل الوعي بها: يصير الاستسلام للأمر الواقع نوعا من الاعتذار الصامت عن الانسحاب الجماعي من طائلة المسؤولية، عمّا لم يعد لأحد القدرةُ في التأشير عليه، وليس في مواجهته.. مطلقا. هكذا خضعت النهضة لأعظم قمع جماعي منظم لإنسانها. تمَّ تزويرُ معانيها التاريخية المحركة لأهدافها. افتقدت مشاريعُها بوْصلةَ التوجه العقلاني للثروات الفلكية التي هبطت إلى جيوب بعض الأسر العشائرية، فاعتبرتها مِلْكا إرثيا لها ولأحفادها. آلاف المليارات من الدولارات المحصّلة من ثروات الأمة، من أرضها وتحت صحاريها، خضعت لأسوأ أشكال الهدر المجاني البدائي لما يُسمّى بالمال العام. هذا المصطلح الذي جهلته الأمة العربية، فكل ما تمتلكه هذه الأمة ينبغي أن يذهب إلى (خواصّها). ليس ثمّة مفهوم لأيةِ ملكية عامة، حتى أشكال السلطة المشخصنة تقليديا، فقد ضاعف المالُ الفلكي من هذه الشخصنة، بل أصبحت نموذجا يُحتذى ويُصدَّر إلى الجمهوريات. فالحكم المطلق الذي انتهت إليه جميع الأنظمة العربية لم يأت صدفويا ولا انحرافا طارئا في آلية السلطة. كان امتدادا لشخصنة السلطة العشائرية، وانتقالها من أُحادية النفوذ التقليدي المتوارث من عهد البداوة إلى صيغة التملك الخاص الاحتكاري من الثروات الفلكية الجديدة التي هي في أصلها استحقاق عام لملكية الشعب لأرض الوطن. لقد تقزَّمت النهضةُ في عصر الوحش الخرافي للمال الفلكي إلى حدود مبدأ (التنمية المستدامة) للحَجَر ضدا على البشر، بمعنى أن استيراد الحداثة ينحصر في إشادة العمران الإسمنتي. في الوقت الذي تُبْتنى فيه قلاعُ السلاطين وصِنْوها (قصور) السجون الجمهورية، فإن نظرة مقارنة سريعة بين ما أشادته إسرائيل لشعبها و(حضارتها) خلال ستة العقود الماضية، وبين ما أنتجه عصر الذهب الأسود ومُلاكه وأُجراؤه معاً، من بدْوٍ وحَضَر، تكشف ما تعنيه سلطة الرأسمالية في نوعها الليبرالي المالي الرثّ، المستورد على عَجَلٍ، معلّبا جاهزا للاستعمال الفوري، ما فوق إرادات الشعوب ومن وراء ظهورها. كأنما أريد لإسرائيل أن تبرهن في كل ما صنعته لذاتها بالتكاتف الحرّ مع شعبها، على أنها تستحق دولتها لأنها ثمرة نهضتها، في حين أُريدَ للعرب، وهم تحت وصاية الغرب وزبائنه المحليين، أن يبرهنوا على استحقاقهم فقط للدولة الفاشلة والمجتمع الفاشل. غير أن المسألة ليست على هذه البساطة الساذجة، فإذا كانت الدولة العربية هي الفاشلة، فليس ذلك إلا لكونها دولة بدون مجتمع، فهذا الكيان لم يُتح له الوجودُ الحيّ، كيما يدخل السباق النهضوي الحقيقي. لم يكن له إلا ذلك الوجود القابل للمنع من الحضور في الوقت الذي أُتيحَ لسلطان المال الفلكي أن يفرض قانونه، أن يصبح هو اللاعب الأول والأقوى، الصانع لأدوار القوى الأخرى موزّعةً بنسب محسوبة جيدا على مختلف مفاصل النهضة العاجزة عن النطق بلسانها الخاص، عن العمل بأيديها النظيفة، عن تحريك المواهب الإبداعية تحت هالة معاييرها وحدها. بكلمة واحدة، فإن المال المفرط هو محْضُ سلطةٍ مطلقة في ذاته، لذلك يتوقف الأمر على ملاكه. ماذا يمكنهم أن يفعلوا به. فإن كانوا أحرارا استعملوه لمزيد من الحرية لهم وللآخرين، وإن كانوا فقراء بالوعي والذات معا وظفوا أنفسهم في خدمة المزيد من سلطانه الأعمى. ما يراه اليساري المتنوِّر في الغرب من هذه الفجائية (شبه اللامعقولة) للثورة العربية، كونها هي حقا الثورة على الرأسمالية عينها، وقد تصيَّدتها (الثورة). وهي في أوجِّ فضيحة آثامها المؤسسة لحقيقتها. تلك الحقيقة التي يظلّ انكشافها مواربا ومؤجلا في أوطان الرأسمالية الأصلية، لكنها تعرّت فجأة تحت ضربات ثورة الكرامة الإنسانية التي نَسِيَها الغرب واستحضرتها جماهير الأمة المغلوبة على أمرها تحت هول مطلقات العنف الثلاثة: الاستبداد والفساد والبهيمية الحمراء العارية من كل قناع. قد يتفاءل بعض التنوير الغربي بأنه سوف يستمد شعلة حيوية من هذه الثورة العربية التي راحتْ تحطم أصلب تابو إيديولوجي يربك عقل اليسار الأوربي منذ اندلاع أزمة الرأسمالية العالمية، ولكنه كان قديما قِدَم الفكر الاشتراكي نفسه، فقد رفض فيلسوف التنوير (ديدرو) أن يطلق على الرأسمالية إلا تعريفها، كونها هي اللصوصية المطلقة، لكنها محتاجة دائما إلى حماية السلطة لإخفاء هويتها، فما أنجزته ثورة الكرامة عربيا هو استعادة تفعيل المبدأ القائل، والمستبعد غربيا دائما، إن السلطة لا تمنح اللصوصية شرعية. متى يستطيع الغرب أن يهتدي إلى طريقة أخرى في تسمية مأزقه الدائم باسم الثورة على اللصوصية المقنَّعة وراء أنظمتها الديمقراطية الناقصة، التي لا تنصف الإنسان، غربيا كان أو عالميا، باستحقاق لكرامة الحرية والعدالة ضدا على لصوصية المال والسلطان، ونفاق الشرعيات الكاذبة في كل مكان. فهل تبدأ رحلة الإنصاف هذه من قرار الامتناع عن التدخل في مسيرة هذه الثورة العربية، كيما تغدو طليقة نحو عصرِ تنويرٍ إنساني لها ولسواها، كما يتمناه مثقفون أحرار في هذا الغرب المتخم بمعضلاته، فلا يصدّر بعضها إلى عالم عربي عَرَفَ طريقه أخيرا بقوته الذاتية، بتضحيات شبابه البطل كل صباح ومساء.. وإلى أيام قادمة أكثر إشراقا وحرية.