إن ثورة ضد الظلم تعني أن الشر ليس أبديا، حتى يجمع الشعب على رفض الذل، فذلك يعني أن الظالم شارف على نهايته. لذلك كانت الشعوب دائما على حق عندما تختار طريق الثورة. هنالك البشر العاديون الذين لا يكادون يملكون ما يخشون ضياعه، يفتحون صدورهم لرصاص القتلة. لماذا يغدو الموت أرخص من الحياة، لأنه يفضح الظالم مجرما قاتلا فحسب. في هذه الحالة، ينال المظلوم بعض استحقاقه، يسترد شيئا من ثأر لا يذهب هباء. الثورة، أولا، هي احتجاج الأخلاق ضد الشر، فلا يندفع الناس إلى التضحية بحياتهم عن عبث أو جهل أو استهواء، كما يحلل بعض علم النفس والاجتماع. هؤلاء الناس العاديون جدا الذين قد يهجرون بيوتهم وأعمالهم فجأة، وينزلون إلى الشارع، يحركهم غضب عارم صارت أسبابُه عامة شاملة، لا تخص مواطنا دون آخر. فمن طبيعة الثورة أنها تغدو هي الحل الأخير المتبقي، بعد استنزاف أو استهلاك كل المسكنات المبذولة. في الثورة، يصبح اللامعقول وحدَه هو طريق الخلاص، فلا مندوحة عن تخريب ما هو قائم من أجل ما لم يَقُمْ بعْد. ليس التأمل في اليوم التالي على الثورة محرضا كافيا، إن لم يسبقه أو يحفزه نوعُ الغضب العظيم على الواقع الراهن الذي يُراد له أن يَنْدَرس في ماض بائد، لكن الثورة ليست لحظة غضب، ليست انفعالا بالظلم وحده، ليست رغبة عارمة في الانتقام.. قد تكون محتاجة إلى كل ينابيع الهيجان هذه، لكنها تطالب سادتها وأبناءها، لا أن تطرح البديل عن مؤسسة الظلم وحدها، بقدر ما تقدم في ذاتها أمثولة استباقية عن هذا البديل المقدس الآخر الذي تدعو إليه. لعل الثورة قد تتجاوز نموذج الانتفاضة الآنية العابرة، فتتحول من لهباتِ شموعٍ إلى شمس ساطعة. كأنما أصبح على عرب اليوم أن يقطعوا الغصون اليابسة من شجرة النظام الحاكم، دون أن تتوغل معاولُهم في جذورها المسمومة، المدسوسة تحت أَغْلفِة التخلف الاجتماعي والعقلاني، المسيطر على الجميع تقريبا، بمن فيهم من بعض فتيان المستقبل أنفسهم. النهضة تشترط نوع الثورة المستدامة. ما فعله استعباد الأربعمائة مليون عربي خلال نصف قرن هو تعميق الفصل بين النهضة والثورة. جعل الأولى تنحدر إلى سفاسف التنمية، الكاذبة، كما اختزل الثورة في مشاريع الانقلابات الفوقية المستحوِذة على مفاتيح النفوذ والمال والفساد العلني المعمّم. هذا الفسح الخبيث لطاقة التغيير الدفينة في عمق المرحلة الاستقلالية الأولى التي عرفها العرب منذ عبودية الألف عام المنصرمة، هذا الاحتراب المصطنع بين جناحيْ: الثورة والنهضة، نجح في عزل الجماهير الكبرى عن قيادة مصيرها بعقلها وتحت رقابتها. فالديكتاتورية، رئاسية أو عشائرية، لم تنبت بفعل قواها الخاصة فوق هامات مجتمعاتها الهاجعة والمتخثرة في جراحاتها الصامتة، إلا بعد العجز المتمادي الذي آلت إليه ثورية الاستقلال الوطني الأول، فقد أساءت هذه الثورية استغلالَ الحرية العظيمة التي أنشأت دولا لمجتمعات كانت مستعبَدة من قديم الزمان. كان من المنتظر، تاريخيا وعقلانيا، أن يترجم الاستقلالُ الوطني عن الأجنبي إلى معادِله من التقدم الاجتماعي والسياسي داخليا. فقد كانت حرية الدولة هي المدخل الطبيعي إلى حرية مجتمعها، بمعنى أن الديمقراطية هي الوجه الذاتي للاستقلال.. وإلا ما معنى أن تقوم دولة مستقلة على أكتاف مجتمع مستعبد، حتى من بعض أبنائه. كان ذلك (الاختلال) هو بداية الطريق الخطأ. هذه العبارة توحي وكأن الجماعات الإنسانية تختار أفعالها التاريخية بإرادتها. ومع ذلك، ينبغي ألا ترفض هذه الدلالة كليا. ونحن في عجالة هذا الرأي لن نقطع الجدل ببراهين سلبية أو إيجابية، لكن يمكن الزعم، على الأقل، بأن العرب لم ينعموا بالدولة المستقلة حقا، وأن معظم الأقطار افتقدت هذه الصيغةَ منذ قيامها الأول وحتى عصر الثورة القومية الراهنة الجديدة، كانت صيغة منقوصة في خصائصها المتعارف عليها وفي المعايير المطبقة على شؤونها، كأنما الغرب لم يمنح العالم الثالث إجمالا نعمةَ الحكم الذاتي إلا مشروطا، واقعيا، بوضعه تحت وصايةٍ مقنعة من قبل الدولة المستعمرة له سابقا أو من حلفاء لها، بمعنى أن الغرب لم يقرر أن يترك مستعمراته (المتحررة) تحكم ذاتها إلا إذا ارتضت، إجرائيا، أن يُزْدَوَجَ حكامُ هذه المستعمرات (الوطنيون) بوظيفة الوكلاء العمليين، عن الأسياد الأجانب السابقين. هكذا، يمكن القول إن نشأة دولة الاستقلال العربية قد تمحورت حول السؤال الأحادي: من هو الحاكم، وليس من هو المحكوم.. أبدا، ما يُفترض أن الإشكالية السياسية قد تمت شَخْصَنتُها، طيلةَ التحولات السلطوية المتلاحقة عبر العقود الخمسة بل الستة المنقرضة من قصة عودة العرب إلى المجتمع الدولي، تحت أسماء وأعلام دولهم.. وفوقها وجوُه زعمائهم الكالحة، ذلك أن شخصنة السلطة أعدَّت وظيفةَ الحاكم المطلق لكل من يشغل مقعدَها. نظام الديكتاتورية هو الثابت، وأشخاصُه هم المتغيرون بالوجوه فحسب. كرسي الرئاسة في هذا النظام هو الديكتاتور، ومن سوف يشغله سيغدو من طبيعةِ خَشَبه ومعدنه، سواء كان شابا وريثا أو صاعدا جديدا. وظيفة الكرسي هي الأقوى. هل ثمة منافسة حقيقية بين الوظيفة وشاغلها: من هو الأقدر على تغيير الآخر؟ ذلك امتحان استباقي لمستقبل الثورة. ثمة عقيدة مضمرة غيبيا، تُسلِّم بأن المجتمع المتخلف لا يمكن حكمه إلا من جنس تراتبيته الأهلوية. هنالك الأب، والسيد المطلق، والآخرون أتباع فقط. كأنما هي الديمقراطية المرفوضة تلقائيا، إنْ لم يحدث التغيير النوعي المنشود في هذه البنية التراتبية لكلية الهرم المجتمعي، وليس لقمته فقط. ما تواجهه الثورة الشابة في تونس والقاهرة هو مناعة هذه البنية لجسم النظام، حتى بعد فقدانه لرئيسه. أمام هذا التحدي ليست ثورة الشارع وحدها هي الكافية لزحزحة السدود القديمة من حول حراكها، لا بد من ابتكار الوسائط العملية لنقل الأفكار إلى أفعال. وقد تجيء الديمقراطية عنوانا جاهزا لكل فلسفات الوسائط هذه، وأولها وربما أهمها هو البدء من كسرٍ نظاميٍّ شامل لكل الأقفال القابضة على حرية التعبير. تلك هي أقدم الحريات، وهي مفتاحها الوحيد لكل أنواعها التقليدية والمستجدة. حتى يمكن القول إن تفجير الثورة العربية اليوم وحماية جولاتها الأولى الناجحة، أو المترددة، أو المحبطة حتى الآن، كانت هي الكلمةُ والصورة، التي شكلت صاعقَ هذا التفجير. ما كان لحاجزِ الخوف أن ينكسر لولا انطلاق اللسان الفردي والعام من عقاله، لولا تهافت الستائر السوداء الحاجبة للوقائع. ومع ذلك فهذه الحرية لا تزال في بداياتها الأولى. والتعثر والتخبط، ومحاولاتُ الاختطاف وتجديدُ التعتيم، والتوظيف السلبي، والتلاعب الخبيث بالمعلومة وأساليب تسريدها، كل ذلك يحاصر بعنف وشراسة هذه الحريةَ الوليدة. لقد آن للعقل العربي أن يباشر ثورته الثقافية مجاوِرة للثورة السياسية، وخاصة بقيادة هذه الشريحة الواسعة من شبيبة العلوم العصرية. هؤلاء هم الرواد الحقيقيون لمصطلح النهضة العربية الثالثة. فإن البدء بتحطيم أصنام الاستبداد السلطوي هو المدخل الإجرائي لانطلاق رهانات كبرى في التغيير البنيوي لكلية المجتمع. فلا يمكن لنموذج الدولة المدنية أن يرتفع فوق أكوام من تجارب أشباه الثورات السابقة المنحرفة أو المغدورة بأفكارها ورجالها معا، جماهيرنا الجديدة تكاد تكون فاقدة لذاكرة ذلك الماضي، وهي لا تدري به وبنفاياته. وتلك هي حقيقتها المتميزة عن كل ما يماثلها من (طلائع) الأمس الغابر. فليس ثمة قوالبُ أدلجاتٍ مهترئة قادرة على استيعاب ينابيع هذه الحرية البكر الطازجة. عليها، إذن، أن تعي (عدميتها) الإيجابية هذه التي ربما ستكسبها مناعة ضد التلوث بجراثيم العفونات المتخثرة.. قوتُها الذاتية وحدَها سوف تصنع أسلحتها غير المعروفة بعد، فهي الفاتحة على ساحاتِ صراعٍ، كأنما لم يدخلها أحدٌ قبلها. قد تكون هي الثورة الثقافية باسمها المتداول ولكن بمضامين لم يكتشف نصوصَها قلمُ بعْد، هذه المضامين مشتقة كلها من تحوّل الحرية إلى فعلٍ بعد أن كانت هَذرا كلاميا، تتلعثم بنطقه ألسنةٌ معقودة بالخوف وصمت الذل، هل هو الكشْف الأثمن الذي يدشّن مواسم الربيع العربي، أي أن للحرية ثمة قوة على التغيير والتعبير المباشر معا، تتهافت دونهما مؤسسات القمع والتحريم، مهما تعددت لَغْوناتُها المتخشبة، وتأصّلت أجهزتها في عميق الذهنيات الجماعية والفردية للفئات المسيطرة أو المستغِلة. هذا ما يدركه العقل الغربي قبل سواه، وربما قبل روّاد ثورة البراءة التاريخية هذه لأزهار ربيعنا العربي. وهنا مكمن الخطر (الحضاري؟) حقا، ذلك أن الغرب يعرف أنه مدين بعظمته كلها لكنزه الأعظم، للحرية. كانت هي رهان وجوده ومستقبله. وعندما تملك من أسبابها، ومن الوعي الجذري بكنوزها المستحيلة، كان عليه أن يَضنّ بها على سواه، وخاصة إن كان (الغير) هو منافسهُ التاريخي بل الكينوني، هذا الشرق، وبدءا من أقرب شواطئه إليه. كيف لأسياد الغرب، المجتمعين بالأمس في دوفيل (فرنسا)، أن يتركوا شباب العرب يصنعون المفتاح السري لأقدم مغاليق سجون العصر، القابضة على أجيالهم السابقة واللاحقة. كيف لهم أن يواجهوا، بدءا من اليوم إلى الغد، جحافلَ الأربعمائة مليون آدمي، وقد أصبحوا بشرا أحرارا حقا، ولأول مرة من عهود سحيقة! لن يسمح الغرب بمقاسمة فقراء العالم كنوزه، بدءا من الحرية، جوهر الجواهر كلها، إلا بعد أن يسمح لأحراره هو بالذات، أن يصبحوا حكامَه وليس مجرد مواطنين من الدرجة الثانية، بعد مواطني السلطة والمال والفساد في بلاده.. ذلك هو رهان لعصر تنوير جديد، لا يحتكره الغرب، بل سيكون شريكا مع رواده في الشرق العربي. سيكون عصرَ تنويرٍ إنساني، هويتُه هي أُمّنا الأرض لكافة أبنائها. بعض رواد هذا التنوير الموعود، يتطلعون من عاصمة النور باريس إلى الشمس تطلع من الشرق عينه، الذي لن تطلع من سواه، ولن تغرب إلا في الغرب الذي ربما لن يحبس طلوعَها القادم إلا لليلة واحدة..