كان للسياق الذي واكب التعديل الدستوري الأخير بالمغرب؛ سواء على مستوى التحولات السياسية في المنطقة والحراك المجتمعي الداخلي، الذي قادته حركة 20 فبراير؛ أو على مستوى الشكل الذي تم به من خلال استشارة عدد من القوى السياسية والحزبية والنقابية والحقوقية؛ أثر على مضامين الدستور. فهذا الأخير، وعلاوة على إعادة صياغة مهام السّلط في إطار يسمح بقدر من التوازن والوضوح في الصلاحيات، وتجاوز مختلف الإشكالات المرتبطة بغموض النصوص في الدستور السابق أو تداخل السّلط، التي أفرغت المسؤولية الحكومية من مدلولها وفتحت باب التأويلات الواسعة.. عمل على تعزيز ودعم الحقوق والحريات الفردية والجماعية للمواطن والتفصيل فيها. وبالرغم من أهمية هذه المستجدات الدستورية؛ فإن أية عملية إصلاحية لا يمكن أن تتأتّى بصورة فعّالة وناجعة إلا بتنزيل مختلف المقتضيات الدستورية من عليائها وترجمتها إلى واقع ملموس؛ وبوجود مشروع إصلاحي مجتمعي تنخرط فيه وتقوده مختلف القوى المجتمعية من نخب وأحزاب ونقابات وإعلام ومجتمع مدني ومؤسسات تعليمية.. وتتحمل هذه الأخيرة مسؤولية كبيرة على مستوى مواكبة التحولات المجتمعية الراهنة وكسب رهان الانتقال نحو الديمقراطية، الذي طال انتظاره، من خلال مقرراتها ومناهجها ومخرجاتها؛ ومعلوم أن جودة التعليم وانفتاحه على قضايا المجتمع أضحى مؤشرا رئيسيا من مؤشرات التنمية الإنسانية على الصعيد العالمي. إن رهان التغيير الديمقراطي يقود إلى وظيفة التنشئة الاجتماعية المبنية على المواطنة باعتبارها من المهام الأساسية المنوطة بالمدرسة؛ على مستوى ترسيخ القيم النبيلة داخل المجتمع؛ خاصة أن الديمقراطية لا تبنى بسن القوانين وإحداث المؤسسات فقط؛ بقدر ما تتأسّس على الاستثمار في الإنسان. إن التنشئة الاجتماعية هي عملية تستهدف إضفاء الطابع الإنساني على شخصية الفرد؛ فهي عملية تعلّم وتعليم وتربية؛ تقوم على الاتصال والتفاعل الاجتماعي؛ وتهدف إلى تنمية شخصية الفرد وقدراته العقلية ومنحه الثقة في نفسه؛ من خلال الإسهام في تكوين سلوكه الاجتماعي ودفعه نحو التكيف الإيجابي مع محيطه المجتمعي؛ والإسهام في بلورة سلوكات اجتماعية وميولات نفسية مقبولة ومرغوب فيها؛ تتواءم والضوابط والقيم الاجتماعية والروحية.. التي يؤمن بها المجتمع. وهي من جهة أخرى؛ عملية منظمة ومستمرة؛ تقودها مجموعة من القنوات التي ينهل بعضها من القيم الاجتماعية التقليدية؛ والبعض الآخر من القيم الحديثة..؛ وتتوخى إعداد الفرد طيلة مراحل حياته؛ ليكون كائنا اجتماعيا؛ من خلال التربية والتلقين والتعليم.. وبواسطة مجموعة من الرسائل والتوجيهات والقيم الاجتماعية، بكل مضامينها الثقافية والروحية والفكرية والنفسية.. وهي عملية من المفترض أن تساهم في بلورتها مجموعة من القنوات؛ سواء تلك التي يجد الفرد نفسه بداخلها تلقائيا كالأسرة والمدرسة؛ أو تلك التي تتاح له فيها إمكانية الاختيار؛ كما هو الشأن بالنسبة للجمعيات والأندية والأحزاب السياسية. إن وجود الأفراد داخل هذه القنوات أو الانتماء إليها؛ يمكنهم من إشباع حاجاتهم الاجتماعية والنفسية؛ ويمنحهم الطمأنينة والقوة والشعور بالأمان في المجتمع. ومن هذا المنطلق؛ يفترض في هذه القنوات أن تعمل مجتمعة وبدرجات مختلفة وفي حدود من الانسجام على إكساب الأفراد الاتجاهات والقيم الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، بما يسمح ببلورة تنشئة ناجعة وبنّاءة. ومعلوم أن الهامش المتاح للقنوات التقليدية المرتبطة بالتنشئة الاجتماعية (الأسرة؛ المدرسة؛ المسجد..)؛ أصبح يضيق بفعل التحولات الدولية الأخيرة؛ وبروز قنوات أخرى عابرة للحدود؛ تروّج لقيم اجتماعية ولثقافة «معولمة»، من خلال وسائل الإعلام والاتصال الحديثة والمتطورة. وتحتل المدرسة موقعا هاما ومحوريا في هذا السياق؛ سواء من حيث حضورها الفعال والمستمر في حياة الفرد؛ أو من حيث آلياتها المستثمرة في هذا الصدد. فالنشء يتلقى عبر هذه المؤسسة مجموعة من الرسائل والخطابات والدروس التي يفترض أن تغرس فيه الشعور بالولاء وبالانتماء للوطن، وتقدم له صورة محددة لهذا الأخير من خلال مضامين مواد التربية الوطنية والتاريخ وتطور إمكاناته الفكرية والثقافية وترسخ لديه قيما نبيلة مبنية على الحوار والاختلاف والتسامح ومساعدة الآخرين. وباستحضار واقع قنوات التنشئة الاجتماعية في المغرب؛ يبدو من أول وهلة وجود خلل ما يعتور وظائفها وحضورها في عمق المجتمع. فإذا كان التعليم يعتبر أحد أهم المداخل الرئيسية لتحقيق تنمية حقيقية محورها الإنسان؛ وبوابة لإعمال تنشئة اجتماعية بناءة؛ فإن عددا من التقارير تشير إلى المأزق الذي تعرفه منظومة التعليم في المغرب؛ من حيث عدم مسايرتها للتطورات العلمية؛ وعدم انفتاحها على قضايا المجتمع الحقيقية؛ بالإضافة إلى اعتمادها لمناهج وطرق تعليمية جامدة ومتجاوزة؛ ترتكز على الحفظ والتلقين والشحن؛ عوض الفهم والمناقشة والإبداع والتحفيز على طرح السؤال؛ وفي ظل نظم تعليمية وتربوية عقيمة؛ أغلبها ينحو للماضي أكثر منه إلى الحاضر والمستقبل؛ ويكرّس التقليد والتبعية بدل الاجتهاد والإبداع. وهو ما يفسر كون شهادات العديد من خريجي المعاهد والجامعات لا تعكس المستوى العلمي الحقيقي لحامليها؛ الأمر الذي يجعلهم عرضة للأفكار الخرافية واللاعلمية وللبطالة. كما أن الاعتمادات المالية المرصودة لقطاعي التربية والتعليم؛ تظل هزيلة بالمقارنة مع عدد من الدول المتقدمة التي تنبهت لأهمية الاستثمار في هذا المجال الحيوي. ويوضح تزايد انتشار نسب العنف في مختلف المؤسسات التعليمية (مدارس، ثانويات؛ جامعات..) مدى الخلل الذي يعتور هذه المؤسسات على مستوى وظيفتها المرتبطة بالتنشئة الاجتماعية وترسيخ قيم الحوار. إن التقصير في تطوير هذا القطاع الحيوي؛ كان حتى وقت قريب مقصودا؛ أملته حسابات سياسية تحكمية ضيقة تأكد إفلاسها وخطورتها على الدولة والمجتمع. ولعل هذا ما يفرض تكثيف الجهود من أجل بلورة سياسة تعليمية عقلانية ومنتجة وخلاقة؛ تنبني على رؤية استراتيجية متفاعلة مع الواقع المحلي ومع تحديات المحيط؛ وقادرة على إعداد جيل قادر على الابتكار والمبادرة. إن الاستثمار في العنصر البشري عبر بوابة التعليم القويم والتربية السليمة للنشء باعتبارهما رأسمالا أساسيا لكل مجتمع، وتفعيل قنواتهما باتجاه بلورة تنشئة اجتماعية منسجمة ومتكاملة تقوم على تنمية شخصية الفرد، أضحى أمرا حيويا مفروضا في ظل الإكراهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خاصة أن النشء يجد نفسه محاطا ومطوقا ب«منتجات» تربوية عديدة متباينة تصل إلى حد التناقض أحيانا. والتنشئة المنشودة هي تنشئة من أجل التنمية؛ وتنشئة قادرة على إعداد جيل يرفض الظلم والخنوع والاستبداد، ويستطيع إبداء الرأي وطرح الأسئلة الكبرى بحرية وطلاقة؛ ويؤمن بالاختلاف وبالعمل الجماعي؛ وكفيلة بتحفيزه على الإبداع والتفاعل والفعل والتطوع والتضحية. إنها تربية تنبني أيضا على الثقة في النفس واحترام حقوق الإنسان، تربية عقلانية وواعية وبعيدة عن الارتجال والعشوائية، تتوخى في أبعادها تربية النشء على الإيمان بالتعددية وروح التسامح والمواطنة والديمقراطية. إن الاهتمام بجانب التربية يطرح بشكل ملح وجدي في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى؛ مع تنامي إكراهات العولمة، التي أضحت تهدد قيم وثقافة المجتمعات المستضعفة عبر تكريسها في الغالب لنوع أحادي من القيم المادية والتنافسية الاحتكارية، وفي ظل تدفق المعلومات والقيم والأفكار المتباينة بشكل حر من خلال قنوات الاتصال المفتوحة، التي لا حدود لها ولا رقيب عليها. إن تطوير أداء المنظمة التعليمية بشكل عام؛ حتى تكون في مستوى الرهانات والتحديات الراهنة في مختلف تجلياتها وأبعادها؛ يفترض استحضار مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية؛ من خلال سن تشريعات تدعم الحرية الأكاديمية وانفتاح المؤسسات التعليمية على محيطها المجتمعي بقضاياه المختلفة؛ وباعتماد مناهج «بيداغوجية» حديثة تعكس «عقلنة» العملية التعليمية وترسّخ ثقافة ديمقراطية مبنية على أسس المواطنة والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص، بالإضافة إلى رصد اعتمادات مادية وتقنية مهمة في هذا السياق؛ أسوة بالعديد من البلدان الرائدة والنموذجية في هذا المجال. إن إهمال هذا القطاع الحيوي يفوت فرصا مهمة على الدولة وعلى المجتمع برمته؛ خاصة أن «المستقبل سوف يعرف سباقا بين التعلم والكارثة»، كما قال أحد المفكرين البريطانيين.