كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. أثناء عودتي إلى المنزل، ذات يوم من شهر مارس1957، لمحت سيارة تحمل لوحة غريبة تقف أمام بيتنا. كانت سيارة من صنع بريطاني ماركة (كونسل)، لونها بني فاتح ومكتوب على لوحتها (ل ط 850 و). لم أعرف البلد الذي أتت منه. أسرعت بالدخول إلى المنزل، وفوجئت بوجود ضيوف كثر. أمْطَرتُ الوالدة بأسئلة عدة حلت لي اللغز. كان الزوار قاضي المحكمة الابتدائية في المدينة وزوجته وصديق آخر للوالد يعمل مدرسا في مدرسة البوليس الليبي في مدينة طرابلس. هذا حل لغز لوحة السيارة. وكان كالآتي: حرف اللام (يدل على ليبيا) أما حرف الطاء فيدل على مدينة طرابلس ثم 850 و(هو رقم لوحة السيارة). دار حديث مطول بين الوالد وصديقه أثناء وجبة الغداء بحضورنا. في النهاية استطاع الصديق أن يقنع الوالد بالانتقال إلى ليبيا للعمل بعد المدح والإطراء الوفير عن الوضع والحياة في ذلك البلد. انتهت الزيارة ومرت الأيام. وعادت الفكرة إلى الحياة ثانية في شهر يونيو بعد أن حضرت لجنة من نظارة العدل في ولاية طرابلس للتعاقد مع قضاة من الأردن. ترأس اللجنة الأستاذ عبد السلام باش إمام (ليبي) ويرافقه الأستاذ عبد الحليم عوض (مستشار فلسطيني في نظارة العدل)، قابلها والدي في مدينة نابلس. في شهر غشت من نفس السنة (1957) تم تعيين الوالد قاضيا. كان من بين الذين تم اختيارهم مع الوالد الأستاذ المرحوم عمر الوعري (رئيس بلدية القدس سابقا) والأستاذ المرحوم فواز الروسان (الذي تولى منصب وزير العدل في المملكة الأردنية بعد عودته من ليبيا) وآخرون بلغ عددهم اثني عشر قاضياً. سافر الوالد في شهر سبتمبر 1957 واستقر في مدينة طرابلس. لحقنا به (الوالدة وأنا وأخي الأصغر) في يوم 2 نوفمبر 1957 عن طريق القاهرة بطائرة د. سي 3 تابعة للخطوط الجوية الأردنية (إير جوردن). استغرقت الرحلة من القدس (مطار قلندية) إلى القاهرة ثلاث ساعات ونصف الساعة. وكان علينا المرور عن طريق مطار عمان لظروف الاحتلال. وصلنا إليها ليلا، ثم باشرنا الرحلة جواً في صباح اليوم التالي إلى مدينة طرابلس عن طريق مدينة بنغازي. استغرقت الرحلة أربع ساعات ونصف الساعة. وبعد توقف في المطار وتناول وجبة الغداء، اتجهنا إلى طرابلس. وصلنا منهكين بعد أربع ساعات ونصف أخريات وقد حل الظلام. بتاريخ 15نوفمبر التحقت بمدرسة طرابلس الثانوية (التي سميت من بعد مدرسة علي وريث الثانوية) الكائنة في شارع جامع بن ناجي بالقرب من شارع ميزران. هكذا بدأت علاقتي بليبيا، التي دامت 27 عاما. سارت الأمور على ما يرام وبدأت أتأقلم، بل أندمج مع الأخوة الليبيين. في عام 1957 كان الشعب الليبي في فقر مدقع، لكنه كان شعباً في منتهى الأمانة والدين والوطنية والأخلاق وعزة النفس. كانوا في نظري أشبه بالإنسان المسلم في عهد الخلفاء الراشدين. لكن، بدخول النفط، انقلب الحال وتفشت الرشوة والسرقة، وانتشرت العشوائيات والأمراض والقذارة بشكل لا يمكن تصوره. كوّنت صداقات في تلك السنة الدراسية، التي ما زلت أعتز بها إلى يومنا هذا، منهم عاصم العزابي، صالح دبوبة، ميلاد الحطاب، ساسي العزابي، محمد الكتكات، الهنشيري، أحمد القماطي، طلعت القلهود، السراج، بن عيسى وغيرهم. ومع الأيام أصبحت أشعر أن ليبيا بلدي، وأحن للرجوع إليها كلما بعدت عنها. استمر الحال على ما هو عليه، وزادت صداقاتي مع الإخوة الليبيين وزاد ارتباطي بالبلد. عام من الاجتهاد والإصرار والمثابرة تكلل بنجاحي والتحاقي بكلية الطب جامعة عين شمس في شهر سبتمبر 1958، تخرجت بعدها في يوم 12 يونيو 1964. عدت إلى ليبيا للعمل، وحصلت على وظيفة ممتازة في مدينه طرابلس، في الخدمات الطبية لمؤسسة التأمين الاجتماعي (إيناس). عينت يومها في العيادات الخارجية المركزية لعدم امتلاك المؤسسة مستشفيات، بعدما وُعِدتُ بأن أُنقل للعمل في المستشفى الذي ستمتلكه المؤسسة في المستقبل القريب. في أول يوم عمل لي (12 أكتوبر من عام 1965) ذهبت راجلاً لعدم وجود إمكانية لدي لامتلاك سيارة. في الطريق استوقفتني سيارة فخمة، نزل منها شخص ممتلئ يظهر الثراء على لباسه، يحمل سيجاراً ضخماً بيده. لم أعرفه للوهلة الأولى، اتجه نحوي وفاجأني بالنداء عليَّ باسمي الشخصي. عرفت على الفور أنه عاصم العزابي أول صديق لي في ليبيا وزميل الدراسة في سنة التوجيهي وشريكي في مقعد الدراسة. كنا لحظة فراقنا عند انتهاء السنة الدراسية في شهر يونيو 1958 قد تعاهدنا أن ندرس الطب. اتجهت إلى القاهرة، أما هو فقد أرسل في بعثة إلى بلجيكا. تبادلنا التحية على الطريقة العربية، قبلات وتحيات وعناق، استرجعنا الذكريات. ثم بادر بالسؤال عما آل إليه حالي، فأسرعت بفخرٍ أبلغهُ بأنني على وعدنا قد درست الطب وبدأت العمل. سألني مستهزئا: «هل تستطيع عمل عملية الختان ؟ كم تستغرق؟ كم تتقاضى عليها؟». بالطبع لم أجبه واستفسرت «وأنت ماذا فعلت؟ ألم تدرس الطب؟» فأجابني «أنا لست غبياً لأضيع وقتي مع المرضى وأستجدي الملاليم. لقد درست إدارة أعمال وأنا صاحب شركة استيراد وتصدير ولي فروع في بلجيكا وفرنسا وألمانيا ومالطا، وأملك مصنعا للمسامير والألياف المعدنية، ولدي مكتب سفر وأنا وكيل عدة شركات طيران»، واستمر يسرد ما حققه بتعال. فقدت الاهتمام بما يروي وشرد فكري أسترجع الأيام الخوالي لليبيا. شعرت بالغثيان من كلامه، وبدأت السير باتجاه عملي. كان هذا آخر لقاء لنا، حيث انهمك هو في جمع الأموال وأنا في تحقيق الخطة التي وضعتها عام 1958 في أن أحقق أعلى درجات العلم بالطب وأن أختص في أمراض القلب. عجبت كيف تغيرت المفاهيم والمبادئ لدى معظم الناس باكتشاف النفط. تبدلت المبادئ والمثل السامية بالدولارات، والأمانة بالسرقة. خلقت مئات المشاريع غير الضرورية من أجل الرشوة. امتلأت طرابلس خاصة وليبيا عامة بأكشاك الصفيح والمساكن العشوائية للعائدين من تونس ومصر، وكان حي باب عكارة (في طرابلس) أوضح مثالٍ على مأساة الإنسان. انتشر العمران العشوائي، مما خلف وراءه الفوضى والقاذورات والطرق غير الممهدة وبنية تحتية غير موجودة وغبارا وأمراضا ومشاكل اجتماعية وصحية. تبخرت المبادئ والأمانة والأمن، وأصبحت لا تأمن على أهلك ولا بيتك. رُكِّب شبك الحديد على الأبواب والنوافذ وامتلأت المستشفيات والعيادات بمرضى السل والتهاب الكبد الوبائي. باشرت عملي في العيادات الخارجية لمؤسسة التأمين الاجتماعي الكائنة في شارع ميزران، ووجدت أن جميع الأطباء العاملين هم من الإيطاليين ما عدا طبيب واحد فهو فلسطيني. تعرفت عليه، واكتشفت أنه من أصدقاء العائلة القدامى ويدعى الدكتور إسماعيل الدجاني. توالت الزيارات والأحاديث الودية بيننا. لم أذكر هذه التفاصيل جزافا أو مضيعة للوقت، بل لأن لقائي به كان نقطة تحول لها أثرٌ كبيرٌ في مستقبل حياتي الطبية، والتي بدورها أوصلتني إلى معمر القذافي. سأسرد ذلك في حينه. د. الإدريسي الخيري خالد - أستاذ امراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا