وصلتها مساء. كانت تستعد ليوم جديد من احتفالاتها ،احتفالات ينخرط فيها سكانها وزوارها. هي طرابلس الممددة على المتوسط تلامس البحر والصحراء. هاهي اليوم تنتشي باستعادة نفسها من أسر استمر اربعة عقود . من سبي استباح جسدها التاريخي و...الجغرافي وحولها العقيد القذافي إلى سجن كبير جرب فيه كل شطحاته ونزواته. حين بدأت ملامح مدخلها الغربي تتراءى لي بعيد عصر السبت الماضي، تضاعفت حواجز مسلحيها الذين أطاحوا بنظام العقيد المطلوب الآن لديهم حيا أو...ميتا. فكما هو الشأن من رأس جدير أحد المعابر الحدودية مع تونس، تنتشر نقط مراقبة ينتصب فيها مسلحون أيديهم على زناد بنادقهم وأقدامهم على قواعد الرشاشات المحمولة على السيارات. من طرف المدينة إلى قلبها ساحة الشهداء ،الاسم الجديد للساحة الخضراء، كلفتني المسافة أكثر من ثلاثة أرباع الساعة خاصة بعد أن وصلت إلى منتصف شارع عمر المختار. وقبل نهايته، عند ملتقاه مع شارع الرشيد، بدأت رحلة البحث عن فندق أستريح فيه من عناء سفر بري استمر 750 كلم من العاصمة تونس إلى العاصمة الليبية ، ففندق «الركسوس» الذي اشتهر كمكان يأوي الصحفيين تم إغلاقه بعد أن دخل الثوار إلى المدينة ولم يبق لي وأنا الذي أزور ليبيا لأول مرة، ومعي سائق يجهل مفاصل طرابلس ومعالمها، إلا أن أقصد الفضاء الذي احتل شاشة تلفزة القذافي : الساحة الخضراء سابقا. كان قدري ألا أجد مقعدا بالرحلات الجوية المتجهة من مطار قرطاجالتونسي إلى مدينة جربة ، ولم أكن محظوظا الجمعة الماضي في أن أحصل عليه من خلال لائحة الانتظار لرحلتين . ولم يبق أمامي سوى السفر برا إلى الجنوب التونسي .قصدت العاصمة تونس حيث حجزت سيارة أجرة بمحطة توجد بزقاق يشكل امتدادا لشارع الحبيب بورقيبة بعد أن نصحني أحد الأصدقاء ألا أصل ليلا إلى المعبر الحدودي «راس جدير». كان لدي فائض من الوقت يقارب ست ساعات شكل مناسبة لأحضر الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السادس للرابطة التونسية لحقوق الإنسان الذي كان موعدها مساء نفس اليوم، حيث التقيت بأصدقاء لي من فلسطين واليمن وتونس والجزائر ... في منتصف الليل بدأ الشطر الثاني من سفري ، وفي يوم السبت الثامنة صباحا كنت أمام بوابة راس جدير ، حيث أنجزت الإجراءات لدى المصالح التونسية بسرعة وانتقلت للجهة الليبية. تأمل الشخص المكلف بالمراقبة الأمنية مليا في جواز سفري ، تصفحه عدة مرات كمن يبحث عن إبرة وسط قش. وقال لي : «تلزمك تأشيرة للدخول». قلت له وأنا أشعر وكأن كوب ماء بارد ارتطم بجسدي: «لقد دخل عدد من أصدقائي هذا الأسبوع بدون هذا الإجراء». _ «هي تعليمات جديدة شرعنا فيها منذ ثلاثة أيام. عليك أن تذهب إلى القنصلية الليبية بمدينة «قابس «وهناك سيمكنونك من التأشيرة». تبعد قابس عن راس جدير ب 250 كلم ، وللذهاب والاياب يلزمني خمس ساعات على الاقل .لم تسعفني تفسيراتي عن طول رحلة النهار والليل لأصل إلى هنا في أن يتراجع هذا الشاب عن إصراره. وفي كل مرة حين لا يكون هناك مسافر يقف أمامه، أعود لأشرح له طبيعة مهمتي وأوضح له موقف المغرب المساند للثورة الليبية . كلفتني مرافعاتي أكثر من ساعة ونصف ليتراجع عن إصراره ويختم جوازي قائلا : «إني تجاوزت التعليمات رأفة بطول انتظارك». في منتصف ساحة فسيحة ينتشر فيها العشرات من الشباب برشاشاتهم وبنادقهم، كسر صمت المكان طلقات نارية جعلت أحد المهندسين التونسيين يقرأ بالجهر دعاء يطلب فيه أن يحفظه الله من كل مكروه. كان هناك سباق حميمي بين مسلح ومسلح في مراقبة جوازاتنا ليوحي كل منهم لنا بأنه صاحب الحل والعقد . وتحت شمس حارقة كان فصل جديد من الرحلة: البحث عن وسيلة نقل إلى طرابلس. طالت مدة الانتظار إلى منتصف النهار ليرحمني أحد السائقين من انتظاري ل»كودو» . للوصول إلى طرابلس مررنا بمدن الزوارة وصبراطة والزاوية و...بأكثر من ثلاثين نقطة مراقبة تنتصب في ال 180 كلم، هي المسافة إلى العاصمة .نفس الاسئلة تتكرر: من أين وإلى أين ولماذا؟؟ ونفس الاجوبة تنساب بنمطية مملة : من المغرب إلى طرابلس في مهمة صحفية. في الطريق كانت آثار المواجهات بين الثوار وكتائب القذافي بادية بشكل كبير، دور سكنية محترقة، مبان منهارة، جدران أحدثت بها زخات الرصاص وراجمات ال»إر بي جي « ثقوبا وثغرات ، سيارات عسكرية متفحمة ... في مساء نفس اليوم وصل رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل إلى طرابلس، قادما من بنغازي .هي المرة الأولى التي جاء إليها بعد الإطاحة بنظام القذافي ، كانت المدينة مثقلة أمنيا وآلاف المسلحين يجوبون شوارعها ويقومون بتفتيش من أرادوا تفتيشه، فصورة مدينة آمنة في ظل هذه الزيارة مطلب أساسي له أبعاد محلية وإقليمية ودولية. اخترت أن أزور السفارة المغربية أولا على الاقل أستثمر وقتا في يوم عطلة أسبوعي في ليبيا قبل أن أبحث عن اعتماد لدى الجهات المسؤولة، وهي المجلس المحلي لطرابلس أو العسكري المتواجد بثكنة امعيتيقة . قصدت حي رياض بنعاشور حيث يرتفع العلم المغربي على إحدى البنايات . انتظرت لأكثر من ربع ساعة كنت خلالها أدق الجرس المنتصب على يسار نافذة حديدية صغيرة، أطل علي رجل في نهاية الخمسينات من عمره ليخبرني أن لا أحد هنا ، فالجميع غادر إلى المغرب . والقنصلية؟؟ «قد لا تجد أحدا بها ولكن سأمدك برقم هاتف» . كيف لسفارة في بلد به أكثر من 180 ألف مغربي يعيشون في خضم تطورات مسلحة محفوفة بالمخاطر أن لا تضع رهن إشارتهم مداومة تحسبا لأي طارئ؟ من يهتم بهم ويساعدهم على مواجهة صعاب مرحلة ؟ لم يجب هاتف القنصلية ولم تفدني ممثلية المغرب في أن تكون بوابتي لأطل من خلالها على مواطنينا في هذا البلد المغاربي الذي عاش ستة أشهر من المواجهات المسلحة . عندما أرخى الليل سدوله،اخترت ساحة الشهداء (الخضراء سابقا) لأحضر احتفالات دأبت مجموعات مسلحة وغنائية وفنية أن تقيمها بهذا الفضاء الذي تصب فيه سبعة شوارع . أعلام في كل مكان ، سيارات مسلحة تنتصب جماعات وفرادى، لافتات تغطي جزءا من الجدران المتكئة على متحف السرايا ..هي طرابلس كما لو عاد عمر المختار في عيون أهلها. يبدو أن حقيبتي أثارت شكوكا لدى مسلح اسمه عبد الله ، طلب مني أن أفتحها للتفتيش . وحين عرف بمهنتي وجنسيتي أخبرني بأن مغاربة انضموا للثورة بمصراتة ، وهي مدينة تقع في شرق طرابلس . حكى لي عن صمود مدينته التي دكتها كتائب القذافي دكا، وقتلت فيها المئات من السكان، وكيف كانت حركة المد والجزر خلال المواجهات . عبد الله في الثلاثينيات من عمره كان يمتهن التجارة، وحين انطلقت ثورة 17 فبراير كان متواجدا ببنغازي حيث شارك في أولى المظاهرات . وعندما تقدمت الثورة غربا، استبقها إلى مصراتة «التي كانت بحق كما أسموها في الإعلام ستالينغراد» . لم يكن كالعديد من الشباب يرتدي بذلة عسكرية ، وحده الرشاش الذي كان الشئ المشترك معهم :» كنت من بين الأوائل الذين وصلوا إلى هذه الساحة يوم دخولنا إلى طرابلس _ يضيف عبد الله _ . لم تواجهنا مقاومة من كتائب «بوشفشوفة»(وهو اسم من بين العديد من الأسماء التي تطلق على القذافي ) «. استدار يسارا وأشار بيده : «هذا هو المكان الذي أطل منه القذافي في إحدى خطبه ، جاء إليه من السرايا» . كانت شهية عبد الله كبيرة في أن يحكي رحلة الثورة التي انخرط فيها وهو ببنغازي، واستمات من أجلها وهو في مصراتة، وانتشى بنصرها وهو في طرابلس. انحاز في حكاياته إلى أبناء مدينته الذين كما قال كان لهم الدور الحاسم في دحر كتائب العقيد . كنا بدأنا نتحرك بضع خطوات يمينا وشمالا وهو يسترسل في حكيه . توقف مرتين في مكانه دون حراك عندما تذكر كيف تم قتل العشرات من أبناء مدينته وهم يخوضون معارك الكر والفر مع الكتائب. من بينهم أربعة أفراد من عائلته. اثنان منهم كانا أبوين لأسرتين جمعته بهما ليس فقط الثورة، بل القرابة والحي والتجارة. «لم أكن أعرف كيف يتم استعمال الرشاش،أنا اليوم أتقن ال 12.5 و 14.5 وقذف ال «إٍ بي جي « «. ولكي يوضح لي أكثر، قادني إلى سيارتين مكشوفتين من نوع البيكوب على متنهما رشاشات يمكن التحكم في اتجاه فوهاتهما . «هذه تحتاج كي تطلق رصاصها إلى أن تضغط برجلك على هذا المكان وبالرجل الأخرى كي تكون حركة الرشاش في المتناول ، إنها ال 14.5». في الساحة كانت كذلك تعبيرات لجمعيات ومنظمات أطلقت الثورة لها العنان كي تقوم بأنشطتها . فتاتان تلتحفان بالعلم الجديد علم الاستقلال، تحمل كل منهما صندوقا ورقيا تطلبان المساهمة في حملة لتوفير الادوات المدرسية ل 500 تلميذ . فالدخول المدرسي على الأبواب وهناك عائلات ليس بمقدورها مواجهات مصاريفه . سألت : كيف ستتعاملون مع الكتاب المدرسي الذي كان مقررا في عهد القذافي؟؟ أخبرتني بأن لجنة مختصة قامت بتنقية هذه المقررات من «الكتاب الأخضر» الذي احتلها بشعاراته وبدروس تمجد العقيد وتدعي بأنها تعمل على بناء «المجتمع الجماهيري «. منهكا كنت تلك الليلة. لقد أخذت مني الرغبة في الراحة مأخذها بعد سفر مضن. وقبل أن أخلد للنوم في أحد فنادق المدينة، كانت أصوات الرصاص تكسر صمت الليل .قد يكون في الهواء ، وربما في اتجاه هدف ما. صباح يوم الأحد لم أستطع إنجاز الاعتماد ، وهو ضروري لكل تحرك في مفاصل المدينة ومصالحها وأنشطة ثوارها وسياسييها. نصحني زميل بريطاني يعمل بإحدى القنوات التلفزية أن أتجه لدى مجلس المدينة مصحوبا ببعض الوثائق. لكن يبدو أن زيارة مصطفى عبد الجليل كانت بحاجة إلى تعبئة أمنية وإدارية تساهم في رسم صورة طرابلس بل ليبيا الجديدة. أغراني أحد الثوار الشباب بحديثه عن مدينة «الزاوية» ، اكتريت سيارة واتجهنا إلى هناك. اسمه مصطفى، لم يكمل بعد ال 24 ربيعا من عمره. اختار أن يلتحق بالثوار بالجبل الغربي . وليصل إلى هناك عبر النقطة الحدودية «الذهيبة» إلى تونس، ومن أحد المسالك ،عاد إلى ليبيا ، إلى مناطقها المحررة. تقع الزاوية بين طرابلس وصبراطة ، مدينة كانت رهان القذافي في صد هجمات الثوار لاعتقاده بأن سكانها، وهم فسيفساء من التاريخ والتركيبة البشرية ، لن ينخرطوا في الثورة. وحتى عندما أسقط في يده، كان إعلامه البصري يدعي بأن المدينة لم تنحز ل 17 فبراير . في أكثر من مرة تم تنظيم رحلات للصحفيين أثناء المواجهات التي حدثت في مسار الثورة للادعاء بأن الزاوية آمنة . لكن الزيارة كانت تقتصر على الجزء الشرقي منها . في بداية هذا المدخل، توقفت سيارتنا أمام بناية تحولت إلى أنقاض .»هذه كانت قاعة حفلات أخذتها قوات القذافي بالقوة من صاحبها وهي مورد رزقه الوحيد . وضعت فيها عدد من الدبابات احتل مجال تصويبها الشارع الوحيد الذي يتجه إلى طرابلس . في بداية العشرية الثالثة من رمضان، قصف طيران النيتو ليلا البناية ، فالموقع كان آخر الحواجز التي أعاقت تقدمنا نحو طرابلس». مصطفى طالب في الجامعة ، والده كان ضابطا غير ميداني في قوات القذافي . يحرس أحد مخازن الأسلحة بثكنة في ضواحي العاصمة. « عندما فتح القذافي مخازن الأسلحة، كانت والدي يسلح الثوار لينقلوا عبر شبكة من الأشخاص والطرق الرشاشات والذخيرة إلى الجبل الغربي « . في جدران العشرات من المنازل، كانت آثار رصاص بادية بشكل كبير . اعتقدت بأن كتائب القذافي كانت تطلق النار بشكل عشوائي على هذه المنازل . لكن مصطفي شرح لي العملية : «إنهم الثوار الذين كانوا يصوبون نيرانهم تجاه هذه البنايات التي تواجد بها القناصة . مرتزقة جاء بهم القذافي من صربيا «. توجهنا إلى الكوبري(الجسر) الذي كان أحد ساحات المواجهة .» هنا قصفنا القذافي بكل أنواع أسلحته ، ومن هنا بدلنا سرعة التحرك بعد أن أرغمنا الكتائب على التراجع «. في شوارع الزاوية كانت الحياة طبيعية . الجدران كما هو الشأن في جميع المدن الليبية تحمل شعارات وكلمات وصورا كاريكاتورية عن القذافي. وفي كل مرة نقف ليسترجع مصطفى ذكرياته في هذه المدينة التي قضى بها ، في مداخلها أو ساحاتها، حوالي شهر ونصف . «هنا استشهد أحد أصدقائي برصاص قناص «، يفتح هاتفه النقال ليستعرض عددا من الصور .»هذا هو صديقي يقف على ظهر دبابة استولينا عليها ، نحن لم نستعمل الأسلحة الثقيلة ، وحدها بنادقنا والسيارات التي تحمل الرشاشات كانت سلاحنا «. سألته : «لم تستولوا فقط على الدبابات ، كانت هناك أشياء غير عسكرية كذلك.» أجابني : تعني الغنائم؟؟ أنا غنمت بذلة القذافي الإفريقية من باب العزيزية . كانت قواتنا من بين أولى المجموعات التي دخلت باب العزيزية. أضع هذه البذلة أرضا في غرفة الأكل لتطأ عليها أقدام عائلتي . حاولت أن آخذ سيارة من سيارات آل القذافي لكن قالوا لي أنه لا يمكنني استعمالها إذ يلزمني مفتاحها من ألمانيا». كان علي أن أعود إلى طرابلس لأتيه في شوارعها. في الطريق حكى لنا السائق عن معاناته مساء السبت براس جدير، محتملا إمكانية إغلاقه . لقد وقف في طابور السيارات ست ساعات ليعود أدراجه لأن العبور توقف في الساعة الثامنة ليلا. في طريق العودة إلى العاصمة كما كان الشأن في مجيئنا للزاوية ، طوابير من مئات السيارات تنتظر دورها أما م محطات الوقود. وأيضا عشرات الحواجز تسأل أسئلتها وتتلقى الأجوبة نفسها. عندما وصلنا إلى ساحة الشهداء، كانت طرابلس على عتبة منتصف النهار. وكان أمامي خياران إما أن أغادر إلى راس جدير أو أمكث إلى يوم الاثنين. فموعد الطائرة بتونس العاصمة هو صباح الثلاثاء والوصول إلى قرطاج يحتمل على الاقل أكثر من 20 ساعة . لم تفلح اتصالاتي في ترتيب موعد مع أحد المسؤولين من المجلس الوطني الانتقالي . ولا حتى مع القنصلية المغربية . وكان الخيار الأول يفرض نفسه : الاتجاه إلى راس جدير. كنت محظوظا وأنا أبحث عن سيارة تقلني إلى المعبر . التقيت أحد المغاربة بشارع الرشيد ينحدر من «درب ساليغان» بالدار البيضاء حيث قضى في ليبيا حوالي 15 سنة ، يحمل معه تذمرا كبيرا لغياب أي اهتمام من طرف المصالح القنصلية والدبلوماسية المغربية . ونحن نبحث عن سيارة للسفر، صادفنا أستاذا جامعيا عراقيا يعتزم الذهاب إلى تونس العاصمة ،كان في ما يبدو في اللحظات الاخيرة لتحديد كلفة الرحلة مع سائق ليبي ،وينتظر من يقتسم معه تكاليف الرحلة . وكما الذهاب كان الإياب، بأسئلته وبأجوبته مع الشباب المسلح مع إضافة ليست بالبسيطة تخص السيارة التي تشبه السيارات التي كان يستعملها العاملون بدولة العقيد القذافي . ففي كل نقطة مراقبة يأمرون السائق بركن السيارة لتفتيش وثائقها و........ وصلت راس جدير الساعة الثالثة ظهرا . في الطريق إليها ونحن نقترب من بوابتها، بدا لي وكأن كل ليبيا تغادر إلى تونس . كانت هناك ثلاثة طوابير، اثنان للسيارات والثالث للشاحنات . وقفنا على بعد 500 متر من نقط إجراءات الخروج ، ووراءنا كانت الطوابير تطول على امتداد البصر. وفي كل مرة نقترب من البوابة، كانت جوازاتنا تخضع للمراقبة ، وفي كل مرة كان على الاستاذ الجامعي العراقي أن يقوم بمرافعة وتوسل ليواجه تهما توجه إليه بأنه من أنصار القذافي. من بين الاسئلة التي ألقيت عليه: لماذا لم تخرج من طرابلس قبل تحريرها؟ أنتم العراقيون ساندتم القذافي ووقفتم في وجه الثورة ... وما أن يفلت جوازه من مراقبة حتى يجد نفسه بين يدي مراقبة أخرى تزج به في دوامة من الأسئلة المشبعة بالتهم. كان لدي احتمال بأن هذا الاستاذ الذي قضى في جماهيرية القذافي حوالي عقدين، يؤدي ضريبة قناة «الرأي» التي يمتلكها عراقي يبث من خلالها خطابات العقيد الهارب. قاربت شمس الأحد على المغيب . كانت هناك عائلات متعبة تتكدس في سياراتها يؤرقها الانتظار . وفي لحظة ما انطلق من على يسارنا رتل من السيارات المسلحة بسرعة جنونية في اتجاه البوابة مطلقا الرصاص في الهواء . وأمامنا في الجهة اليمنى على بعد عشرات الأمتار أخذ مجموعة من الشباب المسلح أماكن بين سياراتهم في وضع مكنهم من الرد بتحية الرصاص في الهواء بأحسن منها كما ومدة. هنا كتم المنتظرون في الطوابير أنفاسهم لأن المشهد كان على شفا مواجهة بين الطرفين . ويبدو أن هناك صراعا خفيا بين مجموعات الثوار حول من سيتحكم في هذا المعبر . وأنا في تونس العاصمة في اليوم الموالي الاثنين، نقلت وكالات الانباء بأن مناوشات حصلت بالفعل بين المجموعة التي تنتمي لزوارة وبين مجموعات تتنوع انتماءاتها ،الزنتان والعسة ...وهي مدن تحاذي راس جدير. كلما اقتربنا من البوابة، كلما تناسلت طوابير السيارات لتصل إلى ثمانية صفوف . ونحن نقف على بعد أمتار من بناية في طريق الإنشاء، يحتمل أن تضم نقط ختم الجوازات مستقبلا، كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة ليلا بقليل . وبصوت عال أمر أحد الثوار الشباب المسلح بأن يوقفوا تقدم السيارات في اتجاه البوابة إلى صباح الغد. وكم كنا محظوظين لأن القرار لم يشملنا . كان يلزمنا للوصول إلى المرحلة الأخيرة على الطرف الليبي لراس جدير حوالي أربع ساعات ليقارب انتظارنا تسع ساعات بالتمام والكمال. وفي مدة الانتظار هاته جاء شخص مسلح يأمر المكلفين بختم الجوازات بأن المنظومة الإعلامية تعطلت وبأن عليهم ألا يختموا للأجانب ماعدا المغاربة وكررها مرتين. وكان هذا التصريح بمثابة إعلان بأنه لا يوجد من بين المطلوبين أي مغربي عليه شبهة الوقوف إلى جانب كتائب القذافي. قبيل منتصف الليل، كنت قد أكملت الإجراءات على الجانب التونسي وانتظرت الاستاذ العراقي الذي كان محظوظا بعد أن عادت المنظومة للاشتغال. هي رحلة إلى طرابلس قد تكون متعبة، لكنها مكنتني من زيارة مدينة تتدفق فرحا بعد الإطاحة بنظام شخص مارس عليها كل أشكال العبث الفكري والسياسي . وبقدر ما كانت سعادتي وأنا أشارك شبابها احتفالاتهم، بقدر ما راودتني أسئلة المستقبل : أين ستتجه ليبيا بعد أن أنجزت ثورة 17 فبراير؟ وكيف يمكن إبطال مفعول القنابل الموقوتة التي زرعها العقيد القذافي مثل انتشار الأسلحة وتكريس التعصب القبلي ؟؟...