حتى يعتنق المجلس الوطني السوري، الذي أُعلن عن ولادته من إسطنبول، يوم 2 أكتوبر الجاري، سياسة أخرى غير تلك التي نص عليها بيان التأسيس ويكون لكل حادث حديث آخر بالتالي، فإن تظاهرات «جمعة المجلس الوطني»، التي شهدتها عشرات القرى والبلدات والمدن السورية الأسبوع الماضي، كانت بمثابة تصويت على تلك السياسة في المقام الأول، فضلا عن تأييد هذا المجلس تحديدا، سواء من حيث فكرته الائتلافية والتحالفية أو لجهة توازن تركيبته بين الداخل والخارج وعلى صعيد الأطياف السياسية والحساسيات العقائدية والفكرية. وليس بلا مسوّغ كاف أن يتذكر المرء، هنا، وبين الفينة الضرورية والأخرى، ظروف الولادات العسيرة التي قادت إلى نشوء هذه الصيغة المجالسية، وكم اقتضت من شد وجذب ومؤتمرات وملتقيات واجتماعات وعمليات إجهاض شاقة، لم تخل من مظاهر الحمل الكاذب أيضا! وإذا جاز السجال بأن هذه الصيغة الراهنة هي الأنجح حتى الآن، الموفقة أكثر من سواها، الجديرة بصفاتها هذه أن تحظى بالدعم والمساندة وتوفير كل الشروط التي تكفل تلبية ما عُلّق عليها من آمال ومهام ومسؤوليات، فذلك لأن أحد أبرز الأسباب الجوهرية التي أتاحت نجاح الصيغة كان انتصار مبدأ التوافق داخل المجلس، وليس مبدأ التذويب أو الانصهار في كتلة واحدة. ولعله لم يعد سرا أن جولات التفاوض المعقدة، التي سبقت الإعلان عن ولادة المجلس والتي كان رياض الترك الشخصية الأبرز في المعارضة الديمقراطية الوطنية، الأمين الأول الأسبق ل«حزب الشعب الديمقراطي»، والقيادي في «إعلان دمشق» قد شارك فيها أو صاغ منطلقاتها البدئية والمبدئية، استهدفت بلوغ هذه النتيجة الحاسمة: اعتبار القوى المكونة للمجلس مستقلة في تحالفها، وليست مندمجة تحت أية صبغة؛ وأنها، بعد الاتفاق على الخطوط العريضة التي نص عليها بيان التأسيس، تعمل بالتوافق على تلك الخطوط وليس بالامتثال لرأي الكتلة العددية، بالنظر إلى أن تكوين المجلس، من حيث أعضاء الداخل كما الخارج، اعتمد خيار التعيين والتسمية ولم ينهض على أي مبدأ تمثيلي انتخابي. وبمعزل عن تركيبة الجمعية العمومية للمجلس (والمحاصصة بشأنها تعطي الأغلبية للداخل، التنسيقيات وأحزاب «إعلان دمشق» والمستقلين...)، حيث تظلّ النسب قابلة للتعديل بالنظر إلى إبقاء العدد مفتوحا بين 230 و320، فإن تركيبة الأمانة العامة للمجلس (29 عضوا) هي التي تستوجب مبدأ التوافق، بدل اعتماد قاعدة اتخاذ القرار بالأغلبية، البسيطة منها أو حتى معدل الثلثين. هذه، في نهاية المطاف، ليست لجنة مركزية لحزب سياسي توافق أعضاؤه على التكتيك والاستراتيجية والسياسة والفكر، وانتخبوا قيادة تمثل إرادتهم في الحل والترحال على نحو يشبه التفويض الحزبي المطلق. وما دامت التركيبة، على صعيد الاسم المحدد وليس الإنابة التمثيلية أو الانتماء الحزبي أو التوزع بين داخل وخارج فحسب، قامت أساسا على مبدأ التعيين وليس الانتخاب، فما الذي يمنحها الحق في ادعاء التجانس عند اتخاذ أي قرار لم يحسم الأمر فيه بيانُ التأسيس ذاته؟ وهذه، في الاعتبار الأول، حساسيات يسارية وقومية وليبرالية وإسلامية وعلمانية وإثنية... قد تختلف، ومن الطبيعي أن تفعل، حول مسائل شتى، جمع شملها، مع ذلك، أنها توافقت على هذه الخلاصة الثمينة، الكبرى: «تعبئة جميع فئات الشعب السوري، وتوفير كل أنواع الدعم اللازم من أجل تقدم الثورة، وتحقيق آمال وتطلعات شعبنا بإسقاط النظام القائم بكل أركانه ورموزه بما فيه رأس النظام، وبناء نظام ديمقراطي تعددي في إطار دولة مدنية تساوي بين مواطنيها جميعا، دون تمييز على أساس القومية أو الجنس أو المعتقد الديني أو السياسي». بيد أن اتفاق جميع القوى على هذه الخلاصة جاء نتيجة التوافق العريض على مطلب تكتيكي واستراتيجي في آن (أوحى به الحراك الشعبي، وطلبه، واعتبره سقف وحدة المعارضة وغايتها)، وليس نتيجة ترجيح هذا الرأي أو ذاك لهذه المجموعة السياسية أو تلك، انحناء أمام أية أغلبية تحققت داخل المجلس أو هيئاته، أيا كانت. فما الذي يمكن أن يحدث، على سبيل المثال، عندما تُطرح مجددا مسألة التدخل العسكري الخارجي في أحد اجتماعات الأمانة العامة، وذلك رغم أن البيان التأسيسي حسم الموقف منها بوضوح كاف (يقول النص: «يعمل المجلس الوطني مع جميع الهيئات والحكومات العربية والإقليمية والدولية وفق مبدأ الاحترام المتبادل وصون المصالح الوطنية السورية العليا. ويرفض أي تدخل خارجي يمس بالسيادة الوطنية»)؟ هذه ليست فرضية ضعيفة الاحتمال، لأن بعض القوى داخل المجلس، وعددا غير قليل من الأعضاء المستقلين، لا تمانع في طلب التدخل الخارجي، بل ترحب به، ولا تعدم استخدام هذا القناع أو ذاك لتجميل وجوهه القبيحة. وبذلك، فإن التوصل إلى قرار بهذا الخصوص، وهو بالطبع إجراء يرقى إلى مستوى الارتداد عن النص السابق، التأسيسي والتوافقي، لا يمكن أن يتم عبر التصويت البسيط، بصرف النظر عن طبيعة ما سيحيط به من تكتلات وتجاذبات. هذه الحال ينبغي أن تسود، أيضا، في اجتماعات اللجنة التنفيذية (سبعة أعضاء، قد يُنتظر توسيعهم إلى ثمانية)، سواء تلك التي تخص تسيير الأعمال اليومية لمهام اللجنة أو تلك التي تتطلب العودة إلى الأمانة العامة، وربما الجمعية العمومية للمجلس. والحال أن هذه اللجنة التنفيذية معنية، أكثر من هيئات المجلس الأخرى، بتعديل ميزان صورتها الديمقراطية، وهو ميزان يبدو خاسرا حتى الساعة، في ناظر الرأي العام السوري، مثل العربي والعالمي، بعد سلسلة العثرات التي أعقبت إعلان إسطنبول. لم يكن مستحبا، في المثال الأول، أن يؤكد برهان غليون، في حواره مع أحمد منصور على «الجزيرة»، أنه الرئيس القادم للمجلس، وأنه المرشح الوحيد، وذلك رغم جدارته بمسؤولية الرئاسة الأولى، التي ستكون دورية في كل حال. فما نفع الإيحاء بأن «انتخاب» الرئيس سوف يتم خلال اجتماعات قادمة ستشهدها العاصمة المصرية، القاهرة، إذا كان الأمر قد تم الاتفاق عليه مسبقا، خاصة وأنه جرى مرارا تقديم غليون بهذه الصفة في لقاءات عربية ودولية علنية؟ ألم يكن من الأفضل مصارحة الناس، خاصة في هذه الإطلالة الإعلامية الأولى للرئيس العتيد، بأن التوافق كان سيد اللعبة، وأن الأمر مداورة في كل حال، فضلا عن ضرورة تبيان السبب/الأسباب في أن الرئاسة عُقدت للخارج وليس الداخل، كما كان مرجحا، وكما كان غليون نفسه قد أعلن في بيان شخصي سابق؟ ولست أخفي هنا، ضمن يقين شخصي صرف بالطبع، أنني كنت أفضل أن يعهد المجلس بالرئاسة الأولى إلى شخصية من الداخل، مثل السيدة فداء حوراني (تكريما للمرأة السورية، والعربية، ولمدينة حماة المجيدة، ولأسرة سياسية كريمة،...) أو رياض سيف (احتفاء برمزيته الإنسانية والبرلمانية، وموقعه الراهن في المعارضة)، ولا أستثني رياض الترك إلا لأن الرجل أكثر انخراطا في العمل النضالي والقاعدي اليومي من أن يتفرغ لأي موقع رئاسي. علينا، بعد سرد كل هذه الاعتبارات، أن نمنح المجلس كل الوقت اللازم، وقبله الكثير من التأييد والدعم والمساندة، لتمهيد الأرض أمام استكمال مختلف مؤسساته، على نحو آمن وسلس وسليم، في الجوانب السياسية والتنظيمية والقانونية، على اختلاف تعقيداتها ومشكلاتها. ويبهج، كما يستحق التحية، أن عددا من أعضاء اللجنة التنفيذية يمارس مهمة مطلوبة جدا، ومستحبة للغاية، هي الانفتاح على المعارضة السورية التي لم تعلن انضمامها إلى المجلس، أو هي انضمت لتوّها إلى سواه (مجلس الإنقاذ، المجلس المؤقت، هيئة التنسيق...)، سواء في مستوى القوى والأحزاب أو على صعيد الأفراد أيضا. ننتظر، بصفة خاصة، اقتناع شخصيات من أمثال ميشيل كيلو وعارف دليلة وحسين العودات وعبد المجيد منجونة وفايز سارة وسواهم بأن المجلس الوطني السوري هو حاضنة المعارضة الأفضل في المرحلة الراهنة، ما دامت مظانهم ضده ليست جوهرية، كما ننتظر من تجمعات، مثل «هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي»، ومن حسن عبد العظيم شخصيا، تجاوز حساسيات الماضي القريب والانضمام إلى المجلس من منطلق مبدأ التوافق ذاته، ما دام شعار إسقاط النظام هو القيمة العليا التي لا خلاف عليها، وما دام رفض التدخل الخارجي مسألة لا لبس فيها. وفي المقابل، للمرء المبتهج بانفتاح المجلس الوطني السوري على أطياف المعارضة السورية، كافة، أن يستهجن لجوء بعض أعضاء المجلس إلى رياضة نشاز، بالغة الضرر والأذى، هي نقض بعض مبادئ بيان التأسيس بذريعة التعبير عن رأي شخصي. نسمع، مثلا، مَنْ يرحب بالتدخل الخارجي تحت مسميات لا تنتهي في النتيجة إلا إلى استدراج التدخل الخارجي العسكري؛ ولكننا، رغم تأكيد القائل بأنه يعبر عن رأي شخصي، نقرأ على الشاشة صفته القيادية في المجلس الوطني السوري (وليس موقعه القيادي في حزبه أو جماعته!)، وكأنها مقامه الأول والأسبق! كذلك، وكما «ضاعت الطاسة» على السوريين في التمييز بين أسماء المؤتمرات وما تمخض عنها من هيئات ومجالس وقيادات، اختلط الحابل بالنابل في تمييز ألقاب السادة أعضاء المجلس: هذا «منسّق عام للمجلس»، لا نعرف ماذا ينسق ومع مَنْ، وهذه «ناطقة محلية باسم المجلس» لا نعرف محلها من الإعراب المجالسي، وذاك «عضو» يكتفي بهذه الصفة المتواضعة، ولكن تصريحاته توحي بأنه الرئيس الدوري الآتي، وتلك مجرد «متحدثة»، تجعلنا في حيرة حول الفارق بينها والأخت الناطقة المحلية! ذلك كله لا يطمس الحقيقة الكبرى، والأهم، التي تشير إلى أن المجلس الوطني السوري هو أفضل صيغة توصلت المعارضة السورية إلى بلوغها، وإلى التوافق عليها ضمن نطاق هو الأعرض حتى الساعة، رغم أنه ليس الأكمل عددا وقوى، وليس الأمثل في الأداء الديمقراطي. وإذا شاءت أقدار هذا الوليد ألا يولد خديجا منذ الساعة الأولى، فذلك لأن الانتفاضة السورية ولدت راشدة منذ البرهة الأولى، وتعمدت على الفور بدماء السوريين، فاشتد عودها دونما أطوار انتقالية، وتصاعدت، وتطامنت، وارتقت،... حتى صار محالا على مَنْ يريد تمثيلها في المحافل الدولية ألا يولد ناضجا، متعاليا على العرضي الزائل، متواضعا أمام الأزلي الخالد، وجديرا بأمثولات درعا ودوما وبانياس وحماة وحمص ودير الزور والقامشلي، ولائقا بأسماء محمود الجوابرة وحمزة الخطيب وغياث مطر. الرحم كان عملاقا، فحذارِ من أن يعجز المتطوعون إلى تمثيله عن وضعه نصب أعينهم، في كل صغيرة وكبيرة، وخاصة في المسائل التي لا مساومة حولها، وإلا فإن القامة الشامخة لن تنتهي إلى حجب ظلال هؤلاء على الأرض فحسب، إذ ثمة مصائر أدهى وأمر، وأبعد أثرا في نفوس البشر، إسوة بحوليات التاريخ!