ضاعت عبارات «با علي» الودودة وسط عويل الذئب الذي استل سكينا من تحت عباءته وغرسه بكل قواه في عنق «با علي» شاهد الناس «با علي», ينهار وظنوا في البداية أنه سقط من شدة اللكمة القوية وهرعوا إلى مساعدته قبل أن يكتشفوا هول الجريمة عند رؤية الدماء ومقبض السكين بارزا من عنقه. كان «با علي» إذاك قد دخل في غيبوبة لا مخرج منها بعد أن ألقى نظرة أخيرة على عربة الحلوى التي تركها قبل أن يترك الحياة... «باَّ عْلِي» معروف لدى أطفال الحي وساكنة الحي. كانت عربته منتصبة على رصيف عند ملتقى الطرق قبالة إحدى المقاهي في وجدة. كان الموقع استراتيجيا بالنسبة إلى «باَّ عْلِي» حيث كانت تحيط به مؤسسات تعليمية، وكان في تجارته الموجهة لزبناء صغار كل الخير والبركة. كان يحرص على الحفاظ على زبنائه، سواء كانوا صغارا أو كبارا. كا معروفا لدى الجميع بهدوئه وحسن سلوكه. كان بمثابة الجَدَّ لجميع الأطفال والأب للكبار من الحي ومن المارة ومن زبناء المقهى المقابل لعربته. كان متقدما في السن وتجاوز عمره الثانية والستين سنة. كان «باَّ عْلِي» يحب الأطفال ويعاملهم كأطفاله وكان يعرف كيف يبتسم في وجه براءتهم ويناولهم قطع الحلوى أو علب «البيسكوي» أو حبات العلك، قبل أن ينطقوا بطلباتهم حيث برع في فهمهم وحفظ عاداتهم وتعود على رغباتهم. أطفال مشاكسون كان «حسن» ابن السنة التاسعة يهوى الحلوى ويلتهم كل ما كان في جوفه سكر. لم تكن بعض «الريالات» التي كان يلقيها إليه أبوه المسن، لتفي بحاجات بطنه. كان نهما وسليط اللسان ومتعوذا على الحرية المطلقة في تجاوزه حتى الكبار. كان يشبه أباه في المناوشة والملاسنة والمجادلة رغم صغر سنه. كان رئيس زملائه الصغار ولم يكن يهاب أحدا منهم, بل كان يتزعمهم كلما تراجعوا عن فعل ما يجب أن لا يفعل ويقدم على عمل ما لا يعمل. كان الطفل، كلما وصل إلى عربة «با علي» إلا واستغل فرصة غفلته ليأخذ ما وضعت يداه عليه من الحلوى المعروضة على مقدمة لوحة العرض للعربة ويواصل طريقه متلذذا بغنيمته ومنتشيا بنصره. وأمام إعجاب أقرانه كان كلما سنحت له فرصة يستغلها للمزيد، فيسطو على الحلوى خاصة عندما يكون الشيخ في صلاته التي كان يؤديها بجانب عربته. لم يكن الطفل يهاب الكبار ولا سيما الشيوخ منهم وكان ذلك يشجعه على أخذ قطع الحلوى ويدفعه إلى ذلك نهمُه وعنادُ الطفل المدلل رغم فقر أسرته المتكونة من خمسة أفراد، كان هو أصغرهم وأحبهم إلى أبيه العجوز... تحذير وتوبيخ كان «با علي» في بداية الأمر يتحمل أفعال الطفل «حسن» ويعتبرها نزوات صبيانية عادية ولم يكن يعيرها اهتماما، بل ناوله في بداية الأمر قطعة حلوى وأمره بالانصراف. كان «با علي»، كلما عاود الطفل «حسن» الكَرَّة، استشاط غضبا وخرج من مخبئه لينزع من يديه ومن جيبه ما سلبه منه ويطلب منه العودة إلى منزل والديه. كان الطفل مشاكسا وعنيدا، زادته مهادنة الشيخ بائع الحلوى إصرارا على سرقة الحلوى وعلب البسكويت. ضاق «با علي» ذرعا بجرأة الطفل الوقحة وسوء تربيته وقرر أن يضع حدا لإزعاجه بتأديبه كما يِؤدب الأطفال العنيدون. أمسك «با علي» بالطفل من كتفه ونهره وعنفه بضرب خفيف على مستوى المؤخرة وأمره بعدم العَوْد وإلا اتصل بأبيه الذي ولا شك لا يحبذ أفعال ابنه لسوئها... انطلق الطفل كالسهم إلى بيته بعينين منهمرتين دموعا وفم مملوء سبا وشتما وكلاما نابيا وتهديدا ووعيدا للشيخ بائع الحلوى بشرِّ الانتقام منه ومن حلواه، وترهيب وتأديب في حقه وحق أطفاله وحتى في حق عربته. عاد الشيخ «بَّا علي» إلى عربته ليكمل إدارة آلته المملوءة بالفول السوداني وكأنه نسي المشهد وبطل المشهد واعتبره حادثا عرضيا لا قيمة له يقع من أمثاله العشرات يوميا... انتقام وجريمة قتل لم تمض على الحادث إلا دقائق معدودة حتى تفاجأ المارة وزبناء المقهى بشيخ مسن تجاوز عمره الأربعة والسبعين سنة، يسب ويشتم، ويلوح بيديه ويهدد ويتوعد. كان الطفل يعدو وراءه ويتتبع خطاه المهرولة. وقف المواطنون يستكشفون الأمر ويحاولون فهم ما يجري للشيخ العجوز، كان الشيخ في حالة هستيرية يدك الأرض بجسمه الضخم، لم يكن يرى السيارات التي كان يراوغها ويثير غضب السائقين الذين كانوا يفرغونه في منبهات سياراتهم. وصل الصراخ إلى أذني «با علي» والتفت نحوه ليتبين صاحبه وسببه، بدأت فرائص الشيخ بائع الحلوى ترتعد إذ لم ير إنسانا في تلك الحالة التي تشبه أسدا مجروحا أو ثورا هائجا وتنبأ بكارثة ستحل به أو بعربته مساء ذلك اليوم المشؤوم. لم تكن ل«با علي» القوة ولا الصلابة ولا «الصحة» لمجابهة ذئب هائج أصابته رصاصة واختار سلوك المهادنة والتهدئة وطلب العفو والتسامح ولو أدى به الأمر إلى تقبيل الرأس واليدين. لكن ضاعت عباراته الودودة وسط عويل الذئب الذي استل سكينا من تحت عباءته وغرسه بكل قواه في عنق «با علي». شاهد الناس «با علي» ينهار, وظنوا في البداية أنه سقط من شدة اللكمة القوية وهرعوا إلى مساعدته قبل أن يكتشفوا هول الجريمة عند رؤية الدماء ومقبض السكين بارزا من عنقه. كان «با علي» إذاك قد دخل في غيبوبة لا مخرج منها بعد أن ألقى نظرة أخيرة على عربة الحلوى التي تركها قبل أن يترك الحياة... معاينة بحث واعتقال ألقت مصالح الأمن القبض على قاتل شيخ مسن بائع للحلوى وآثار الدم لا تزال عالقة بملابسه قرب مقهى بسبب خلاف بسيط حول طفل الجاني البالغ من العمر 9 سنوات، وسيق إلى مقر الأمن الولائي من أجل البحث. وتعود وقائع الجريمة عندما أقدم الجاني المزداد سنة 1932 حوالي الساعة السابعة مساء، انتقاما لصغيره، على توجيه طعنة سكين إلى الضحية البالغ من العمر 62 سنة صاحب عربة لبيع الحلوى على مستوى العنق أدت إلى قطع وريده مما نتج عنه وفاة بعد نقله إلى المستشفى. وأثبت التحقيق أن سبب الخلاف الذي أدى إلى جريمة القتل يعود إلى اتهام الجاني الضحية بالاعتداء على صغيره الذي اعتاد سرقة بعض الحلوى من العربة، حسب بعض المرتادين على المقهى المتواجد قبالة عربة الضحية، كلما انهمك هذا الأخير في تأدية الصلاة. ورغم أن الضحية حذر الصبي من معاودة فعلته ونهاه عن تلك التصرفات إلا أنه تمادى في أفعاله مما دفع الضحية قيد حياته إلى تأديبه. الأمر الذي دفع الطفل إلى التشكي إلى والده الذي لم يتمالك نفسه فتوجه للتو لأخذ حق صغيره بنفسه وبالسكين. أحيل الجاني على العدالة بتهمة الضرب والجرح المفضيين إلى الموت مخلفا وراءه أرملتين وأيتاما.