لم يكن ما دشنته حركة 20 فبراير ورشا جديدا في تاريخ الجسم السياسي المغربي؛ فمطلب الإصلاح، بكل أضربه، قد تعالى في مغرب ما بعد الاستعمار منذ ما يربو عن نصف قرن. ولعل ذلك التناقض الذي نشأ بين القصر وأحزاب اليسار قد حمل في مطاويه معالم مواجهة سياسية حقيقية بين نظام ملكي سعى -ولا زال- إلى الحفاظ على وجوده وسلطته وأحزاب تبنت الفكرة الماركسية كغذاء إيديولوجي، بين نظام راح يلتمس مشروعيته من الماضي ومن الموروث الديني وأحزاب طرقت باب المشروعية من ماضيها النضالي ضد المستعمر. تشكل في خضم هذا التضارب، بين نظام يسعى إلى حفظ البقاء ونخبة سياسية تغيّت تغيير الوضع القائم، صراعٌ سياسي انتهى بقمع ومحاصرة ومنع كل من سولت له نفسه أن يجذف ضد التيار. وقد كان مصير عدد غير قليل من المناضلين السجن والتعذيب، وتم قمع حرية الفكر والتعبير في ما عرف ب«سنوات الرصاص». قدم هؤلاء تضحيات لا يستهان بها دفاعا عن الحريات والحقوق داخل نظام سياسي خانق، هو نظام الملك الراحل الحسن الثاني. ودون الغوص في تاريخ يعرفه الكل، يمكن القول إن ورش الإنصاف والمصالحة الذي دشنته الدولة المغربية، ولقي استحسان الأغلب الأعم، كان بمثابة حدث غير مسبوق في تاريخ الأنظمة السياسية العربية، إذ لم يحدث أن قدم نظام سياسي اعتذاره عن ماضيه الدموي مرفوقا بمحاولة لجبر الضرر الذي لحق المعتقلين السياسيين وذويهم، وهو أمر يحسب للدولة المغربية لا عليها؛ لكن متغيرات إقليمية أفرزها الوضع السياسي العربي (الثورتان التونسية والمصرية على الخصوص) ألهبت الوعي السياسي لدى شباب لطالما عوتِبوا على عزوفهم السياسي رغم المحاولات الإعلامية اليائسة التي تغيّت دعوتهم إلى الاهتمام بالسياسية. وقد سطر هؤلاء الشباب يوم عشرين فبراير موعدا انتفاضة شعبية، متوسلين بأدوات جديدة تستقيم والعصر (المواقع الاجتماعية على الأنترنيت) مطالبين -إسوة بنظرائهم في العالم العربي- بإصلاحات جذرية، سياسيا واجتماعيا، رافضين تلك المؤسسات السياسية الشكلية التي فقدت مصداقيتها وكانت السبب الرئيس في موت الفعل السياسي الحقيقي، قالوا: «لا للوضع القائم»، ومن ثمة أعادوا إلى الساحة السياسية «السلطة المضادة» اللازمة لكي يكون للسياسة معنى فعلي. لعل أهم مكسب هو انبعاث التناقض من جديد في رحم الممارسة السياسية المغربية، تناقض ظل إلى عهد قريب -قبيل عشرين فبراير- شكليا، إذ أصبح من الصعب على الناظر في أمر السياسة أن يجد ما يمكن أن يسمى «معارضة سياسية حقيقية»، بعد «العملية الانتحارية» التي قام بها آخر معاقل أحزاب الحركة الوطنية مصداقيةً (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) حين صوت ب»نعم» لدستور 1996 ودخل في حكومة التناوب التي بدا أن لا تناوب بعدها، ليبزغ نجم «العدالة والتنمية» الذي اكتفى بالوقوف ضد أحزاب أخرى دون أن تمس معارضته جوهر السلطة، وهو النظام الملكي. وبالفعل، سيصدر خطاب تاسع مارس ليعد بدستور ديمقراطي حقيقي مقررا تشكيل لجنة دستورية أفرزت، في وقت قياسي، دستورا للمملكة حاملا بعض التغييرات دون أن يلمس جوهر توزيعية السلطة في المغرب، إذ ظَلَّ ظِلُّ المؤسسة الملكية يخيم على جميع السلط دون أدوات سياسية حقيقية لمساءلتها. لقد صوتت أغلب الأحزاب السياسية ب«نعم» للدستور وقادت حملتها إلى جانب وزارة الداخلية نحو هذه الغاية، ليس لأن الدستور غيّر من توزيعية السلطة، بل قالت «نعم» لأن الذين رفضوا التصويت سيجردونها من كل مصداقية سياسية كانت تزعمها، ومن ماضيها النضالي الذي نهلت منه مشروعيتها، فكانت فرصتها للاستمرار تكمن في امتطاء صهوة «الإصلاحات» التي حملتها الوثيقة الدستورية حفظا لما تبقى من ماء وجهها،ح لكن الذين رفضوا التصويت انطلقوا من الأصل الذي تبنى عليه الدساتير الديمقراطية، وهو جمعية منتخبة من طرف الشعب. وبصرف النظر عما حدث، فالراجح أن تستمر السلطة المضادة، وأن يستمر التناقض، ليصبح النظام أمام خيارين: أولهما اللجوء إلى القوة، وهو خيار قد يُسقط النظام في الخطأ الذي وقعت فيه باقي الأنظمة العربية الأخرى التي حكمت على نفسها أو، في أقل الأحوال، على شكل نظامها السياسي بالزوال، لأنها لجأت إلى العنف المادي حين عجز جهازها الإيديولوجي -الإعلامي خاصة- عن إخماد صوت المعارضة الجديدة، ولم تستوعب -الأنظمة تلك- الدرس الخلدوني القاضي بأن الدول تلجأ إلى السيف (القوة المادية) في أواخر عهدها، إن صحت المماثلة في كل حال؛ والخيار الثاني هو التعامل مع الوضع ب«حكمة» والإنصات لمطالب المعارضة السياسية الجديدة، إن لم يتم تدجينها هي الأخرى بطريقة أو بأخرى. ومهما يكن، فالتناقض هو عتبة الديمقراطية، والديمقراطية هي مبتدأ كل تغيير وليس منتهاه، دون صرف النظر عن منسوب الوعي السياسي اللازم لدى الشعب كي يبني مصيره بيده. وهنا يكون للثقافة والفكر دورهما الذي لا يستهان به. عبدالإله دعال - باحث بشعبة الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الانسانية ابن امسيك – الدار البيضاء