العالم العربي لم يعد ساحات مفتوحة للفاعلين الأغراب والمعادين، من دون أن تكون له ردّات أفعال لم يحدس بها هؤلاء المداهمون المستدامون. لقد أصبحت لهذا العالم مبادراته الذاتية غير المتوقعة من قبل طلائعه وليس من جهة أعدائه فقط. نقول إن الغرب الأوربي هو المنشغل الأول بالحدث العربي الذي لم يرسمه له الغرب ولا يبدو أنه قادر على استيعابه، لا لأنه لم يفهمه بعد، لكنه لا يزال رافضا الإقرار بحصيلة هذا الفهم، فلا ينتظر العقل الأوربي أن يشب شرق العرب عن الطوق، لن يصير عملاقا وإن كان هو كذلك، إلا أنه عملاق هائل بدون رأس مفكر. وحتى عندما يشرع في بعض التفكير فإنه سيظل جاهلا لفن صناعة الحقيقة، والحقيقة العصرية تحديدا، فتلك هي حرفة امتياز مطلق، يتمتع به سادة المدنية وحدهم. لن يتبرعوا ببعض أسرارها على أحد من أولئك الأغراب المشاكسين، الذين يأتي العرب في مقدمتهم. ومع ذلك، فالحدث العربي (الثوري) قد لا يرقى دفعة واحدة إلى مرتبة أحد صناع حقيقة العصر، سواء اعترف به مثقفون شماليون قبل ساستهم أو تجاهلوا آفاقه المنتظرة. بيد أن قوى شبابية متواصلة ما بين عواصم الغرب أصبحت باحثة عن ربيع أوربي.. تتداول معانيه وتبتكر أسماءه، ولا يضيرها أن يجيء شبيها للأصل العربي. لكنه، بالطبع لن يكون نسخة عنه. هؤلاء الشباب البيض والشقر، وحتى السمر منهم، يرفضون أن يعيشوا شبابا شائخين مع آبائهم وأجدادهم لا يصدقون شعارية أوربا الهرمة. فلن تكون كذلك إلا إذا أمسى الآباء المتقاعدون هم الجيل الأخير، ستموت أوربا حتما إن لم يسترد شبابُها ثقافةَ تلك الثورة الجذرية التي أبدعت القفزات الكبرى لحضارة الغرب وأوصلتها إلى (جنان؟) مدنيتها الراهنة، ما بين كل منعطف ثقافي شامل وآخر، كأنما الثورة الجذرية ملكية خالصة لطبيعة الحضارة الصناعية، فهي التي أنشأت الرأسمالية كمؤسسة مركزية للمجتمع المنتج، وهي التي عليها أن تمهد لمجيء عصر ما بعد الرأسمالية. فليس صحيحا أن مآل التطور له خاتمة أُحادية هي هذه الرأسمالية. إنها مرحلة من مراحل التطور الإنساني الحي، ولن تكون مقبرةً أخيرة له. هذا الغرب الآخر، الذي يعبر عنه قطاعٌ فتيٌّ من نخبه المتعلِّمة، متعاطف مع ثورة الجنوب، متفهّم لخصوصيتها، لكنه خائف عليها من شرور ساسته الهرمين: فهؤلاء يدركون أن الجنوب الثائر سَيُرْدفه قريبا غربٌ أو شمالٌ ثائر، فإن طلاب الحرية متشابهون في كل مكان وزمان، واللحظة العصرية اليوم هي للقاء الأحرار ما فوق كل تضييق عنصري أو جغرافي أو حضاري سقيم. ولكن لماذا تعود شبيبة عربية وعالمية إلى التشبّث بفكرة الحرية وحدها، خالصةً من كل المسوِّغات الأخرى، الاجتماعية والفلسفية، التي شُغلت بشعاراتها مجملُ المذاهب التاريخية، هذه المسوِّغات التي احتلت صدارة الحرية وتحوَّلت من وسائط لها إلى غايات في ذاتها، بما جعل أوان حلول الحرية مرتهنا بتحقيق أقنوم فكروي سواه، وبالتالي فالحرية المؤجلة إلى ما بعد تحقّق مسوِّغاتها، سوف تُستخدم كحجَّة شعارية باستمرار لكل ما يضادها في راهنية مجتمع محروم من أبسط حقوقه الطبيعية، كما هي الحال العربية، في حين أن تقدم الغرب قد أنجز معارك الحق الإنساني واكتسب مستوياته الثلاثة التصاعدية: من مستوى حقوق المواطنة الشخصية (في القول والفعل والاعتقاد) إلى مستوى حقوق المواطنة السياسية (في الانتخاب والتشريع والحكم) إلى مستوى حقوق المواطنة الاجتماعية (في ضمان التعليم والصحة والرفاه العام) للفرد والأسرة معا. ومع كل هذه المكاسب للمواطنة الحديثة في الغرب الأوربي، فإن الحق في الحرية بذاتها ما زال ملتبسا ومنتقَصا في كثير من فضائله غير المصنَّفة بعد في أيٍّ من هذه الحزَم الثلاث من حقوق المواطنة السعيدة، المطمئنة تماما إلى سلامها الفردي والعمومي، ذلك أن مجتمع العناية لا يزال مهددا بشريكه ونقيضه: مجتمعُ الاستغلال، فهذا الأخير وظيفتُه العملية الحدّ من حزَم تلك الحقوق الثلاث، وتعليق مفاعيلها العملية ما فوق الممارسات العامة لكل من مؤسستيْ الدولة والمجتمع معا، بحيث تعاني المواطنة الغربية من انفصام متشعب ما بين ثقافة المبادئ وعوائق العلاقات المجتمعية غير الخاضعة للمساءلة الموضوعية الجادة. فالعقل الغربي لم يستطع، عبْر تحقيبه التاريخي الحافل بثورات العقل والتغيير، أن يخترع صيغا للمعادلة الأصعب بين معيار المواطنة السليمة وهي المساواة، وبين إكراهات الاستغلال، وأخطرها ولا شك هو التحايل المنظم على مبدأ تكافؤ الفرص، على أساس ما يتمتع به الأفراد المواطنون من إمكانياتهم الذاتية، وليس بما لهم من انتماءات العقيدة أو الطبقة أو العنصر أو مجمل العصبيات الأهلوية المتوارثة. تكرار هذه اللوحة من التناقضات المبدئية من مشهدية الواقع المجتمعي، من جيل إلى آخر، أوصل فكر الشباب الغربي المعاصر إلى هذه الخلاصة: استحالة التوفيق بين مدنية المواطنة السوية ومجتمع الاستغلال. من هنا شعور الانبهار بالثورة العربية لدى بعض النخب من شبيبة الغرب، وحتى من قِبَل البعض من شيوخ الفكر الملتزم هنا. ما يُبْهِرهم في هذه الثورة هو أنها أعادت فلسفة التغيير إلى أولوية مبدئيتها في الحرية وحدها. إنها تذكر هذا الغرب نفسه بأنه لا معنى أو لا فائدة إنسانوية حقا إنْ بقيت حزم الحقوق الثلاث الشخصية والسياسية والاجتماعية ملتبسةً بمواطنة مجروحة عميقا في كرامة إنسانها، مكذوبا عليها برشوة، بحصة هامشية من أشباه الحريات في ظل نوع الاستبداد الأحدث، وهو الأخطر لأنه الأكثر خفاء ومداهمة للعقل والوجدان في آن واحد. فلا سلطان حقيقيا للحقيقة، ولا إنصاف مكافئا لكرامة المواطن عند ذاته، فما نفع حقوق التاريخ كله إن لم تنتج مجتمعا من الأحرار بدون أسياد من أي جنس أو نوع، ذلك أن حضارة الاستغلال لها أسيادها في كل تحول بنيوي، لا ينجح تماما في كشف أصل المعضلة المزمنة، وهي أن الحرية لا تُعطى أقساطا أو حِصَصا، لأن هذه الحرية وحدها هي المكافئة للبداهة القائلة إن للإنسان حقه في ذاته أولا، قبل أن يكتسب كل الحقوق الأخرى المجتمعية والتاريخية.. ما يدهش العقل الغربي أنه يكاد ينسى أصل ثوراته التاريخية كلها، كأن هذا الأصل يريد أن يولد جديدا فتيا نقيا مع الثورة العربية، مذكرا بالحدث الإنساني الأعظم الذي لا جنسية له (العربية) إلا للدلالة على اسمه فقط، وأما مضمونه فهو هدية مجانية موجهة إلى كونية البشرية المعذبة، ولكن الغاضبة مجددا في كل مكان لعالم اليوم، لإهانة الظلم المطلق ضدا على حريته المطلقة. الشباب العربي ثائر ليس لأنه فقير أو مريض أو طامح إلى سلطان أو ثروة، لأنه مجروح في كرامته. هذه العبارة ليست توصيفا عاديا أو عابرا، ليس لأنه محروم من حقوق مواطنته، بل لأنه ممنوع من ممارسة إنسانيته، إنه محروم من حقه في إنسانيته قبل أن يفوز بأدنى حقوقه، ممنوع من الوجود على مستوى وَعْيه بوجوده. هذه الحرية هي الممر الوحيد من كونه مجرد جسد عضواني إلى جسد إنساني، فلا نمل من تكرار وصفة الإنسان والإنسانية، إنها منبع اللغة التي لا يُسبر غوْرُها نهائيا، إن لها شأنا جديدا مع كل حالة افتقار إلى المعنى وإلى الوجود معا، (كنوزها وتراثاتها ومصالحها العامة). مثلا: تتجرأ أهم مجلة أسبوعية في باريس على القول إن فرنسا العظيمة تكاد تكون مملوكة من بضع أُسَر فاحشة الثراء، وإنها تكاد تتوزع بين بقايا دولة مدينة، وكنيسة خالية من عبادها، وبورصة مضاربات مالية بالأرقام الفلكية، وكذلك فهي مملوكة، في بعض قصورها واقتصادها، لأمراء نفطويين، وأغنياء روس محدثين أو (مافيوزيين) وديكتاتوريين أفارقة وسواهم. هذا الواقع الأسيان، الذي تنتهي إليه معظم الدول الكبرى الرائدة للمشروع الحضاري الغربي، يدفع بالوعي الشبابي إلى الموقف الفاصل الذي يتردد في تبنيه شيوخ السياسة والفكر: إنهم يضعون إصبعهم في صميم الجرح، يجهرون بإدانة النظام الذي شكّل أمجاد الغرب، وقد يُمهّد لنهايتها أخيرا. يقع التأشير الأوضح على اسم النظام الرأسمالي، فهو أضحى نظامَ الأزمات المستديمة المتوالدة من بعضها، المستنفدة لحلولها، فهو النظام العجوز، وليست أوربا هي العجوز كشعب وأجيال فتية صاعدة، في مواجهة العقبات، ولعلها لن تفرّ من أمام تحدياتها. ما يُدهش شبيبةَ الغرب في الثورة العربية أنها صنعت قاعدتها الجماهيرية المستديمة التي يستحيل على أعدائها القضاء عليها بالثورة المضادة وأحابيلها المعروفة، وأن هذه القاعدة أضحت بمثابة المجهول الكبير الذي لا يمكن تأطيره تحت أية تصنيفات اختزالية متداولة، ذلك الوضع أعجز آلياتِ الفكر الاستعماري عن استيعابه، رغم أنه لم يتأخر كثيرا في الانقضاض على ظواهره متنقلا من عاصمة عربية ثائرة إلى أخرى، لكن دون التوصل إلى فك أسرار مفاتيحها الأصلية، إذ تبقى الثورة على الفرعونية في القاهرة مسرحا يوميا متدفقا بالأمثلة الحية ذات الطبيعة الجماعية، عما تفجره في ذاتية الشعب من إمكانيات التمرد العفوي والمنظم معا، وعما تثيره هذه الإمكانيات أمامها من تحديات العقبات المترسخة في بنية النظام السلطوي البائد، لكن الحافظ والحامي لركودية المجتمع التقليدي العتيق إلى أجل محتوم. الشباب الغربي قد يكون مشارفا حدود اليأس، يكاد لا يعرف بديلا عن الرأسمالية المتخبطة، لم تعد مجرد نسق اقتصادي، أمست نظامَ حياةٍ وفكر وممارسةِ عادات وسلوك للمجتمع المستقر المرفه، في حين أن شبيبة الثورة العربية تمكنت من إطاحة رمزٍ أكبر، من رموز السلطنة الفرعونية، كمدخل نحو انطلاق المنازلة الكبرى المؤجلة، مع كليانية البنية المجتمعية الأخفى والأعقد، والتي لا علاج لها إلا بإعلان معارك الحرية الخالصة وحدها من أية صفة مُعَوِّقة أو محدِّدة لهويتها من خارج طاقتها الذاتية وحدها. الجمعية العمومية للثورة العربية المعاصرة في «ميدان التحرير» - القاهرة تدْحض منظومة بعد أخرى من مؤامرة الثورة المضادة، تثبت أنها لا تزال ممسكة بزمام المبادرة في الشأن العام وأن القوى المؤسساتية الأخرى، من جيش وامن وأجهزة حكومية، تتحول تدريجيا إلى أدوات للثورة، ولن تبقى إلى الأبد عقبات كأداء إلا عندما يتخلى شعب مصر العظيم عن مشروع مستقبله الإنساني الحضاري، وليس السياسي فحسب. فهذه الثورة هي الفرصة القصوى حتى الآن، المُتاحة للحرية العربية، شموليا، أن تنقذ النهضة من أسوأ أمراضها، وأولها تخلف الإرادة قبل تخلف الوعي.. حتى يمكننا أن نردد جميعا: الشعب يريد التغيير!