محمد بن محمد الفيزازي، الخارج من ثمان سنوات سجنا، من أصل 30 سنة حوكم بها. قيل إنه زعيم «السلفية الجهادية» ويقول إنها ابنة زنا ! يتحدث من على كرسي اعتراف «المساء» عن «طيش الشباب» وكيف أحب وتزوج، وكيف كان يرسم اللوحات ويبيعها، ويوم غنى لعبد الحليم حافظ عام 1969 فأعجب به الملحن عبد النبي الجيراري، ثم يوم رأى والده يبكي على شريط للشيخ كشك، فكان ذلك سببا لتحوله العميق نحو «التوبة» ثم الانقطاع للعبادة وللعلم. على كرسي الاعتراف يُقِر الشيخ الفزازي، دونما مركب نقص، بأنه كان مخطئا يوم وصف علماء السعودية بعلماء الفاتيكان، وبأنه وصف الحركات الإسلامية بما لا يليق.. كما يعترف بأنه أساء أدبه مع الشيخ القرضاوي ومع آخرين... وصف الشيخ المغراوي ب«عالم السلطان». ووصف اليسار بالكفر... ليرجع عن كل ذلك يوم كان في السجن وقبل الإفراج عنه بسنين... - توفيت والدتك، التي أنت وحيدها، أثناء وجودك في السجن، كيف تلقيت خبر الوفاة؟ أنا وحيد أمي، كما سبق أن قلت، وهي لم تمت ميتة طبيعية، بل إن أمي توفيت متأترة بالضرب. - كيف ذلك؟ لقد تعرضت للضرب والفاعل لازال حرا طليقا لأنه ألِف الاعتداء على أمي، المرأة العجوز إذ لم يكن يتوانى في استخدام أي شيء ليضرب به والدتي، أي شيء... فأس، عصا، حجر... أي شيء تصل إليه يداه. لقد تعرضت أمي لضرب مبرح نُقِلت إثره إلى المستشفى الرئيسي في مدينة تازة وذهبت خالتي إلى هناك وتسلمت شهادة طبية من الطبيب الرئيسي في المستشفى. - بكم قدّر الطبيب مدة العجز؟ ربما ب45 يوما، على ما أذكر، المهم أن الطبيب سجل أن أمي تعرّضت للضرب، مما تسبب لها في كسور كثيرة في مناطق مختلفة من جسدها، في الفخذ والورك وفي الرأس، كما «شُلَّ» لسانها، مما يعني أن الضرب كان همجيا جدا، أدى إلى وفاتها بعد أسبوعين تقربا. -هل تحدثت إليها وأنت في السجن؟ -أجل، لقد كلّمتُها عدة مرات من الهاتف الثابت داخل السجن، وفي آخر مرة، لم تكن تستطيع الحديث، قلت لها: «أنا ابنك محمد»، فصرخت صرخة واحدة وكانت آخر ما سمعته من أمي... - كيف أحسست حينها؟ والله لقد أحسست حينها بالسجن الحقيقي، ذاك هو السجن، تشتد وطأته على الإنسان في أيام الفرح، كما تشتد في أيام القرح، فخلال وجودي في السجن، أيضا، تزوجت بنتاي ولم أستطع التواجد إلى جانبهما. وفي هذه الحالات، ليس هناك لا خمسة نجوم ولا هم يحزنون. - إذن، هذه من الأيام الصعبة عليك وراء القضبان؟ بكل تأكيد، إنها المرارة، حيث لم أتمكن من حضور الزفاف ولم أفرح بابنتيّ كما يفرح الآباء بزواج بناتهم، كل هذه الأمور تعتبر من التعذيب الذي كنت أعاني منه في السجن، والأفظع من ذلك عندما تعلم أن أمك قد قُتِلت وتُقرّر فتح تحقيق وتستدعي رجال الشرطة للبحث في ملابسات القضية، ثم تكون النتيجة صفرا. - هل قمت بذلك من داخل السجن؟ أجل، راسلتُ وكيل الملك وطلبت منه القدوم لمقابلتي. - هل حضر؟ أجل، وقد طرحت عليه الموضوع، فكتب المحضر وجاء رجال الشرطة أيضا وفتحوا محضرا آخر وذهبوا إلى تازة، ثم بعد ذلك، انتهى كل شيء، دون أن تكون هناك أي نتيجة، فالمتهم ما يزال حرا طليقا، بينما ترقد الضحية في قبرها، وكأننا نعيش في غابة... مع العلم أن الأمر لو كان يتعلق بقتل كلبة في بلد آخر لربما استدعى من التحقيق والعدل ما يعيد الاعتبار إلى صاحب الكلبة.. فكيف تُقتَل سيدة ولا يعلن -مجرد إعلان- عن نتيجة البحث والتحقيق؟! إن كان هناك بحث وتحقيق أصلا، مع وضوح الرؤية في هذه الحادثة. -الآن وقد خرجت من السجن، هل تفكر في إعادة فتح هذا الملف؟ أنا الآن أطالب المسؤولين وأصحاب القرار، من هذا المنبر الإعلامي، بفتح هذا الملف، أما أنا فقد قمت بما استطعت فعله حينها، ألا وهو طلب فتح تحقيق عند وكيل الملك والشرطة، وقمت بجميع الإجراءات الضرورية، لكنْ دون نتيجة. كما أناشد الجمعيات المنتصبة لحماية النساء من العنف أن يتولين متابعة هذا الملف، بليغ الخطورة، والله الموفق. - بالحديث عن زواج بنتيك، كيف تم ذلك؟ هل تمت خطبتهما منك شخصيا من داخل السجن؟ عن طريق الأسرة تم التعارف أولا، ثم وافقتُ، من ناحيتي، بعدما زارني كل من العريس الأول والثاني صحبة والديهما، بعد ذلك. - هل كنت تعرف كلا منهما؟ كلا، لم أكن أعرفهما، تعرفتُ عليهما داخل السجن بعد استئذان الإدارة بالترخيص لذلك. - اقتنعت بهما؟ نعم، وإلا لَما تم أي شيء. نحن لا نعبد الله وفق أهوائنا، بل بما شرّع الله. والزواج عبادة، وإذا لم تتمَّ فيه موافقة الوالدين، لاسيما إن كانا ممن يدرك المصلحة إدراكا كاملا، فلا بارك الله في زواج يتم من ورائهما. - إذن، أنت لا توافق على أن تختار الفتاة من سيشاركها حياتها؟ أنا لا أوافق على أن تأتيني ابنتي في يوم من الأيام -لا قدر الله- بشخص متأبطة ذراعه وتقول لي: هذا هو زوجي. - وإن فعلت؟ كل من تربّتْ على الإسلام لا يمكن أن تفعل هذا. وبناتي تربَّيْن على هذا الإسلام، والحمد لله، إذن لا بد أن يكون الحصاد لما زُرِع، والجزاء من جنس العمل... - ما هي الخصال التي تشترطها في من يتقرب إليك راغبا في مصاهرة؟ فقد سبق لك أن قلت لنا إن شروطك في الزوجة: الدينْ و«الزينْ» و«الديسيبْلينْ». قلت هذا على سبيل البسط وأزيدك الآن «هذا الزهر كله عند الفقيه؟» وقصة هذه المقولة معروفة. والصواب في هذا الموضوع ما جاء في الحديث: «تنكح المرأة لأربع: لدينها وجمالها ومالها ونسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»، أو كما ورد. أما بخصوص البنات فهناك حديث فيصل في ذلك: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»، صدق رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأنا على هذا برضا البنات طبعا. لا يمكن إجبارهن على الزواج بأحد، كائنا من كان، ولا يجوز. -ما هي أكبر استفادة استفدتها من السجن؟ هي أنني استكملت حفظ القرآن الكريم، وهذا شيء لا يُقدَّر بثمن، هذا من فضل الله عز وجل. وكما يقال: «رب ضارة نافعة»، وهذه من أكبر النعم التي مَنّ الله بها علي داخل السجن. - حكيت لي حكاية حدثت معك خلال زيارة لك لتركيا، حيث كنت ترتدي عمامة وجلبابا وكان برفقتك شخص سألك إن كنت ترتدي هذا اللباس في المغرب، فأجبته بالإيجاب، فقال لك إن ارتداء مثل ذاك اللباس في تركيا يؤدى عنه الثمن غاليا، فهل تعتبر، رغم ما تعرضت له، أن حرية الرأي والتعبير على المستوى الديني والعقَدي في المغرب هي أحسن حالا منها في الدول العربية والإسلامية الأخرى؟ وقع لي هذا في تركيا، ووقع لي أمر مماثل في سوريا، على ما أذكر في نفس السنة، سنة 1985، حيث كنت أحاور بعض المواطنين السوريين في أحد شوارع العاصمة دمشق، فقالوا لي: «نحن في سوريا نستطيع أن نتحدث في أي شيء ما عدا الطعن في روسيا، تماما مثلكم في المغرب، حيث لا تستطيعون الطعن في أمريكا»، فقلت لهم: «أنا إمام في المسجد وأطعن أثناء خطبي في أمريكا وفي فرنسا و»في اللي خلفوهما»»، فتعجبوا: «لا يمكن»، فقلت: «هذه هي الحقيقة»، فقالوا لي: «إذن، فأنتم بخير».. وبالفعل، نحن كذلك. منذ سنة 1976 وأنا أمارس الدعوة والوعظ والإرشاد والخطابة، وأعترف أنني كنت حادا بعض الشيء وأحيانا متهورا، وكنت أتناول مواضيع شائكة، مثل الجهاد الأفغاني والقضية الفلسطينية والرشوة في بلادنا، وكل هذه المطالب التي تسمعها الآن في الشارع والتلفزيون وعلى ألسنة رؤساء الأحزاب، كل هذه المطالب كنت أطالب بها من منابر المساجد، وكنت أُعنّف اللصوص وناهبي المال العام.. كنت، بالفعل، أمارس حريتي النسبية طيلة هذه السنوات إلى أن اعتُقِلتُ أو اختُطِفت سنة 2003. صحيح أنني مُنِعت من أداء وظيفة الإمامة قبل اعتقالي بشهور، لكنْ أظن، صادقا، أن المغرب كان -وما يزال- يعيش على هامش من الحريات أوسع مقارنة مع دول عربية أخرى، فباستثناء الأردن والكويت، اللذين يعتبران بلدين متقدمين نسبيا في ما يتعلق بهذا الأمر، فإن المغرب، مقارنة مع الجزائر مثلا، أو مع تونس في عهد بنعلي أو ليبيا تحت حكم القذافي، أو حتى بلدان الجزيرة العربية، فإن المغرب يعتبر جد متقدم في ما يخص احترامه الحريات. صحيح أننا نريد المزيد، وهناك مضايقات طبعا، لكن هذا لا ينفي أن المغرب قطع أشواطا كبيرة في مجال الحريات، خذ عندك كمثال جريدة «المساء»: هل من الممكن أن تنشر نصف ما تنشره من تقارير لو كانت في بلد عربي آخر؟ طبعا لا، وهذا ليس تلميعا تزلفيا لوجه المملكة في هذا المجال، لكنها الحقيقة، ومع هذا نحن في حاجة إلى المزيد. - تقول هذا الكلام وأنت أحد الممنوعين من الخطابة في المسجد، ألا ترى أن في هذا الخطاب شيئا ما ليس على ما يرام؟ يا رجل. لقد كنت محكوما ب30 سنة سجنا نافذا، وكان الإفراج عني سيتم في سنة 2033، كما يقول إخواننا المصريون «موت يا..» ورزقي «حسب الإجراء، أما على الحقيقة فالرزق على الله» معلق في وزارة المالية وأسرتي مشردة و.. و... ثم جاء الفرج، بعد ثمان سنوات وخرجت في عز منقطع النظير وتسلمت بطاقتي الوطنية وجواز سفري، والأمل في الله عظيم أن «يُفرَج» عن راتبي أيضا ويجبر ما لحق بي من ضرر وأعود إلى مسجدي... وعفا الله عمّا سلف. ماذا تريد أكثر من هذا «اللي عْطى الله عْطاه»، والخير، إن شاء الله، أمام.