غالبية مجتمعاتنا العربية لا تجهل الأسباب المباشرة والفعلية لأوضاعها المتردية. لكن ألسنتها كانت معقودة عن تلفظ عناوين هذه الأسباب في ظل أنظمة السلطات المطلقة الحاكمة. ما يتداوله الإعلام عن مصطلح الشفافية لا يتجاوز نص حروفه إلى دلالاته المستبعدة والمطرودة من العلنية مقدما. فقد يتلقى الناس مسألة انعدام الشفافية كتحصيل حاصل لمجمل النواقص أو الأعطال العامة التي يرزحون تحتها. فمن لا يعرف، مثلا، أن حكام بلده حفنة من منتهزي السلطة والثروة وأنه لا حاجة إلى أن يكون الحاكم مثقفا، أو متعلما على الأقل، أو يكون متمتعا بموهبة واحدة خارقة تميزه عن سواه، ولا ضرورة للحاكم العربي أن يضرب مثلا في الأخلاق العادية، وليس في مجال إبداع المواقف البطولية في أي شأن عام جمهوري. لقد مضى وانقضى عصر الزعماء التاريخيين وحل عصر النهابين الكبار. فالصراع المحتدم ليس بين هؤلاء السادة المالكين لبلادهم وشعوبهم وبين هذه الممتلكات وحدها، لكنه صراع المنافسة بين رموز الحكام العرب جملة، في حقليْ السطوة والثروة، مَن هم الفارضون للاستقرار الأصم أكثر، ومن هم المغتنون بأموال الأمة أكثر من زملائهم الآخرين. كان ذلك هو الوضع السائد قبل انهيار أكبر فراعنة هذه الطبقة في مصر العرب، طيلة العقود الثلاثة الماضية. فهذه المرحلة من الحاضر العربي البائس شهدت فصولا متتابعة ومنتظمة في ثقافة التصفية الشاملة المدروسة لحقبة النهضة الثانية، الموصوفة بنهضة الاستقلال الوطني لعشرين قطر عربي وأكثر. لم تكن الشفافية مطلبا شعبيا خلال مطلع تلك النهضة. كان هناك جمهور فاعل إلى حد بعيد، ومؤثر بطرق متفاوتة في منعطفات السياسة الحاكمة. كانت ثمة مشاركة عفوية إيجابية، وأحيانا سلبية، بين حماسات الناس اليومية وقرارات السلطة، كأنما يجري العمل العام آنذاك في أجواء علنية، غير مقصودة في ذاتها. كان هناك أكثر من حاكم عربي حريص على استمرارية حالات من التضامن التلقائي بين سلوكه اليومي وأخلاقية الإرادة العامة، إذ إن هذه الإرادة جعلت المبدأ الوطني والقومي هو حاكمية المعايير التي ينبغي أن تنطبق على القادة قبل أن تأتمر بها الكافة. بكلمة واحدة، لم يكن معظم الحكام، في تلك الحقبة (الرومانسية)، قادرين على التصرف خارج ثقة مجتمعاتهم بنزاهتهم الوطنية. ليست هذه النزاهة هي موضوع الجدل والمساءلة، بقدر ما هي سلامة الشرف السياسي أولا، من كل شُبْهة، في التنازل أو المساومة أو التخاذل، في ما تفهمه (الأمة) من قداسة مبادئها التاريخية ومدى تجاوب القادة معها. الصراع حول السلطة في عهد نهضة الاستقلال تحدوه معيارية الشفافية العفوية في مختلف أحواله، حتى تلك المنحرفة عن سواء السبيل. كان صراعا يسوّغ محركاته وأهدافه، كونها واقعة دائما تحت سقف المشروعية المبدئية، لما تعنيه حقانية النهضة واستحقاقاتها المطلوبة.. ودائما تحت صِيَغ العمل الجماهيري ورقابته الذاتية على ممارسات قياداته وطلائعه، بمعنى أن الصراع على السلطة لم يصبح هدفا مركزيا ومفضوحا إلا مع اشتداد الحصار الاستعماري المتجدد على تجارب النهضة الاستقلالية، مما دفعها إلى تغليب الضرورات الدفاعية (العسكرية) على بقية الحوافز المدنية، هكذا اضطرت النهضةُ الثانية الفتية إلى أن ترتدي الزي العسكري منذ باكورة نشاطها السياسي. كان مولد النهضة العربية الثانية مشروطا بقدرة الدولة القطرية الناشئة على حماية استقلالها الوليد. فالحرب الباردة المسيطرة على العالم، وقسْمته إلى المعسكريْن المتصارعيْن على احتكار تملّكه، تفرّخ حروبا إقليمية صغيرة في أنحاء العالم الثالث. وكانت الساحة العربية محتقنةً ضد الفيروس الإسرائيلي الذي اخترق جسدها الهش. فلم يعد يمكن فهمُ أية متغيرات بنيوية في أقطار المشرق الموبوءة بالجراب الجرثومي الإسرائيلي، من دون افتراض هذه الحاكمية العليا لصيغة الحرب الدائمة، سلميا أو قتاليا مباشرا، مع هذا العدو الاستيطاني، المختلف عن الاستعمار الأوربي الاحتلالي العارض والمنقضي في مرحلته السابقة على الأقل، عسكرةُ فجر النهضة كان مآله ألا يأتي نهارُها بالشمس المشرقة على عمارة المجتمع المدني بسهولة ويسر. فقد بدا أن عسْكرة السياسة هذه كانت خيارا قوميا، عابرا لحدود الدول القطرية، شاملا للأمة بدون أدنى تمايز بين شعوبها، وجامعا في موقف واحد متناغم بين معظم أنظمة الحكْم ومجتمعاتها، حتى إن العسْكرة في حد ذاتها لم يكن يُنظر إليها إلا كضرورة نضالية، لا تفرق بين جيش نظامي محترف وأمة متجيّشة، وجدانيا وسلوكيا، وراء آمرية المحور المركزي للقضية الفلسطينية في كل شأن عربي مصيري. كانت غالبية شعوب المشرق مستعدة لدفع أكبر التضحيات، ليس بتقدمها الحضاري أو بأحلام السعادة والرفاه لأجيالها فحسب، بل بفقدان زهرة شبابها في معارك استرداد الكرامة القومية من المُعْتدي الإسرائيلي. فالكفاح الوطني كان سيّد المفاهيم السياسية والأخلاقية في وقت واحد. تلك الروح النضالية اليومية للأفراد والجماعات، كانت شأنا عاديا متميزا بشفافية الظاهر والباطن. فأن يكتسب الشابُ صفةَ المناضل، ذلك يمنحه تقدير جماعته من حوله، وبالتالي لن يكون الحاكم إلا المناضل الأول. وما يفترضه هذا التعيين هو أن تأتي أعمالُه مصداقا لمزايا هذا التخصيص، التي تصبح واجباتِ مشروعيته في عيْن ذاته، قبل أن تكون في أنظار مجتمعه. فلم يحدث أن فَقَدَ الحاكم العربي أخيرا هذه المشروعية الشعبية، إلا مع فقدانه لهذه الشفافية الوجودية. حَدَثَ هذا عندما سقطت متغيرات السلطة العليا من مستوى العمل في كنف (الثورة) إلى حضيض التشرنق الانقلابي، وقعت الدولة القطرية في شر أعمالها الشخصانية، تحولت جيوش الأمة إلى حراس للسلاطين الجدد وسجونهم البربرية، فأية شفافية ستبقى تتردد أنوارها الخابية بين مغاور القصور الباذخة وأقبية التعذيب الدموية.. الثورة العربية هي ثورة الأنوار الساطعة الكاشفة، هذا لا يعني أن الناس قبل الثورة لم يكونوا عارفين بأسرار الاستبداد/الفساد. لكن الثورة تنقل المعرفة بالأسرار القذرة إلى حلبة المقاضاة العلنية الشاملة. تصبح للشفافية سلطةَ الرأي العام. يلقى قَتَلَةُ الشعوب عقابَهم المحتوم أخيرا، فالثورة هي، مبدئيا، تظهيرٌ لأصول العنف السلطوي وليس لبعض آثاره أو رموزه فقط. هكذا لن تتبقى للاستبداد أية أقنعة دعاوية أو شبْه قانونية يتوارى وراءها، فأُولى ثمرات الثورة هي التعرية العمومية لخطايا الدولة الطاغية، ومن ثمَّ يمكن القول إن المجتمع مُقبِل على حياة سياسية صحية قادرة على مَسْرَحَة وقائعها اليومية تحت الرقابة العفوية لغالبية الجماهير، صاحبة المصلحة العليا في انتهاض حاكمية الحقيقة ما فوق وسائل التضليل الجماعية المتوارثة من العهود المظلمة البائدة، إنه ربيع الثورات، لكنه ربيع الأفكار كذلك، فأجواء العالم العربي موحّدة وراء تعدّدية خصبة من شتى الآراء والتوجهات الصائبة والضالة معا. لكن حاكمية الحقيقة لن تتسلم المبادرة إلا من كل حراك محتدم حي، بين أفكارٍ عن الصح وأخرى عن الغلط، ذلك أن حاكمية الحقيقة لن تقوم لها قائمة في المجال العام إلا بقوة براهينها الذاتية، فهي التي تمنح المؤسسةَ السياسية مشروعيتَها العقلانية والإنسانية. سواء عبّرت أحزابٌ أو شخصياتٌ أو أجهزةٌ حكومية عن أوجه يومية وجدالية لهذه المؤسسة، فهي لها اعتبارها المعنوي المركزي، من حيث كونها تقوم بوظيفة الرأس المفكر والمقرر، من كيان المجتمع والدولة معا. فقد كان على مجتمعاتنا، أسيرة المركب الدولاني لثنائية الاستبداد/الفساد، أن تظل عاجزة عن بناء مؤسساتها السياسية المعبِّرة عن خلاصة شخصيتها المفهومية، كما كان يتصوّرها ويتمناها رُوّاد النهضة الاستقلالية، ومن تسلّم الراية بعدهم، مع أوان الربيع العربي الراهن. أروع ما يُزهر به الربيع هو أن الثورة كسرت احتكار الدولة للسياسة كمؤسسة مشرِّعة وحافظة لنظام المواطنة، مالكة ومملوكة بالمشاركة بين جماعات الرأي المختلفة، حتى المتعارضة في ما بينها. سوف تولد مؤسسة السياسة قسرا عن ماضي الدولة العربية، سواء المُطاح برؤوس طغاتها أو المستعدة لما تبقى من هؤلاء، هذه الثورة المتجددة من أسبوع إلى آخر، لا تكفُّ عن تشكيل (جمعياتها العمومية)، واستئناف لقاءات الشوارع والساحات بين الجماهير المغمورة، ولكن المتميّزة بالدأب والإصرار الواعي على الجهر بأسماء التغيير وأعدائه. نظام الأنظمة العربية الواحد مازال قابضا على قمم أكثرية الدول، لكنه لم يعد قابضا على عقل الشعوب أو لسانها، وحتى على بعض أيديها، أو أكثرها، فهو نظام مدحور في خطاباتها المتهالكة، متراجع مكشوف وراء دفاعاتها الهابطة بها إلى أدنى مستوى القمع، بل ذلك العنف الخام وحدَه، المستهلك لبقايا مُسَوِّغاته الأمنية أو القانونية. إنه النظام القائم بفعل الأمر الواقع وحدَه، المترقب لأمرٍ واقع آخر يزيحه إلى مثواه الأخير. فالثورة تجبر أعداءها على اللجوء إلى أخف أسلحتهم وأوحشها وأشدّها عراءً من أية قيَم اعتبارية أو أدلجات عامة. إنها تفرض على السلطة القائمة انكشافها إلى مجرد مصلحة فئوية، مضادة في طبيعتها الأصلية لأبسط معاني المشاركة العادلة لمختلف فئات المجتمع، في الشأن العام من كل فعالية حكومية أو أهلية. هكذا تقع السلطة الفئوية أخيرا في شرِّ أحلامها الضيّقة. سوف تصبح فئويتها هي المتهمة بكل أعطال المجتمع المغلق ضدا على انبناء المواطنة الحرّة، إذ تصاب هذه المواطنة بحس الكرامة المجروحة، مع اختلال ميزان المساواة وترجمته العملية اليومية، المنحرفة عن مبدأ تكافؤ الفرص أمام إمكانيات الأجيال الصاعدة، وبما يؤكد، في حال التواطؤ الإكراهي بين القامع والمقموع، حلولَ الظلام والظلم معا، إنه حرمان النهضة من إنسانها الحرّ، الكريم عند نفسه أولا، المعترف به، والمقدّر بحسب كفاءته الشخصية، لا باسمه وفصله وفصيلته الأهلوية. الرهان النهضوي لهذه الجولة الشاملة العارمة لثقافة الثورة العربية، هو الإمساك بمصباح (ديوجين) في ظهيرة كل ساحة جماهيرية، ما فوق مختلف أشباه الأنوار الكاذبة. فالحذر، كل الحذر من أن تتساقط الفئويات المتسلطة بفعل فئويات أخرى، مقنَّعة بشعاريات عمومية زائفة، وطامحة إلى متابعة سياسة الوجه العمومي والقفا الفئوي، تلك الحاكمة عقودا مشؤومة في دويلات المشرق والمغرب المملوكية. الشفافية ليست رهانا مستحيلا، بعد أن كسرت (الثورة) بعض مستحيلات القمع المؤبد... حتى اليوم.