الضحية كانت أعز الناس، أمه العجوز التي لم يكن يشغلها في الحياة سوى التفكير في مستقبله. ضاقت ذرعاً بنصحه للابتعاد عن عالم الشعوذة الذي يستهويه، ولم تكن الأم تدرك بأنها ستكون ضحية ابنها صاحب الأطوار الغريبة. ذبح محسن والدته، وبعد القبض عليه أكد أنه تلقى تعليمات عليا من الجان بقتلها لأنها عارضته!. تمسك الابن بهذا الاعتراف المثير أمام النيابة وأمام المحكمة، مما أدى إلى وضعه تحت الملاحظة في مستشفى الأمراض العقلية. لكن تقارير الأطباء أكدت أنه سليم لتزداد القضية غموضاً. جميع جيرانه كانوا يخشون مجرد الاقتراب من شقته الكائنة في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة، رغم أنه يستقبل يومياً عشرات الزوار. وقد اعتاد الجيران أن يسمعوا أصواتاً مزعجة، وأن يشموا روائح البخور والدخان الكثيف. كما انتشرت شائعة بأن جارهم محسن ساحر. حاول بعض الجيران أن يعترضوا، لكن محسن هددهم بانتقام من نوع خاص، والمثير أنهم تخيلوا أنه وراء كل ما يصيبهم من مشاكل غريبة، منها إصابتهم بأمراض، أو تعرضهم لخسائر مادية فادحة، أو مشكلات عائلية مع زوجاتهم وأولادهم. كان محسن يقابلهم والابتسامة الساخرة ترتسم على وجهه، وهو يقول لهم: ألم أقل لكم ابتعدوا عن طريقي ولا تشغلوا بالكم بما يحدث في منزلي؟ وسرعان ما شاعت هذه الأخبار في الحي الذي يسكنه المشعوذ، وازداد الخوف من الاقتراب منه، أو التعرض لحياته الخاصة، لكن لم يخف على الجميع أن والدته العجوز التي تقيم معه تعترض بشدة على الحياة التي يعيشها ابنها، وكثيراً ما سمع الجيران مشاجرات بينهما. كان الابن يردد أن الجان لن يتركوه حتى إذا فكّر هو في تركهم، لأن العاملين في هذا العالم لا يفارقونه مطلقاً إلا في حالة واحدة هي الموت. وقد كانت الأم تلتزم غرفتها، وتعزف عن الانخراط في حياة ابنها الذي كان يستقبل زواراً بشكل مستمر طوال ساعات الليل. كانت سيارات فارهة تتوقف أمام منزله، ويجلس في صومعته كثيرون من علية القوم، ومن جنسيات مختلفة، بل يجدون أحياناً صعوبة في الحصول على موعد مع الساحر محسن الذي ازدحمت مفكرة مواعيده. كان محسن يتقاضى مبالغ مالية كبيرة مقابل جلسات فك السحر التي يجريها للزبائن، وتخصص في صنع أحجبة التفريق بين الأزواج، وزبائنه كانوا يعلمون جيداً بأنه يستخدم السحر ، ويستعين بالجان في هذه الأسحار، ولكن زوَّاره كانوا تحت سيطرة الرغبة في الانتقام أو شهوة البحث عن تحقيق أهدافهم بأي طريقة، ومهما كان الثمن. لم يرحم محسن بكاء أمه المستمر، وهي تستعطفه بأن يترك هذا العالم، وتؤكد له بأنها تخاف عليه، لأن عاقبة هذا الأمر كبيرة، خصوصاً أنه ارتكب شروراً كثيرة، وسعى إلى التفرقة بين أزواج وإلحاق الضرر بأشخاص أبرياء لا ذنب لهم سوى أن خصومهم عرفوا طريق محسن. لكن المشعوذ لم يكن يلقي بالاً لما تقوله الأم، وكان يتهمها بالتخريف. انهارت الأم، ونصحها بعض الجيران بأن تغادر المكان، لكنها كانت ترفض وتؤكد بأن الأمل لم يفارقها في السعي لإنقاذ ابنها، وأنها تتمنى أن تظل في منزلها حتى تموت. لم تكن الأم الطيبة تدرك أنها ستموت على يد أقرب الناس إليها، ابنها الوحيد الذي عاشت من أجل راحته بعد وفاة والده قبل ثلاثين عاماً. في صباح أحد الأيام، استيقظ سكان العمارة التي يسكنها محسن على صوت صرخات، ورأوا النيران تندلع في شقة المشعوذ، فاستدعوا المطافىء للسيطرة على الحريق الهائل. كسر رجال الإطفاء، بمساعدة الجيران، باب شقة محسن وحاولوا إنقاذه ووالدته، لكن المشعوذ لم يكن موجوداً، وعثر الأهالي على جثة الأم العجوز بعدما كادت تتفحم تماماً. نقلت الجثة إلى المشرحة وقررت النيابة انتداب الطب الشرعي لتشريحها للتأكد من سبب الوفاة، في الوقت الذي ظل محسن مختفياً. وبعد أيام جاء تقرير الطب الشرعي ليحمل مفاجأة مثيرة. فقد أكد الأطباء أن مجهولاً ذبح الأم العجوز وأحرق الشقة حتى يوحي للجميع بأن الحادث مجرد حريق. وأضاف الخبراء بأن حريق الشقة جاء بفعل فاعل من الداخل، وأن مجهولاً ألقى عود ثقاب ليشعل الكيروسين الذي سكبه على محتويات الشقة. وأدلى الشهود بأقوالهم في النيابة، ليشيروا بأصابع الاتهام إلى جارهم المشعوذ غريب الأطوار، وأكدوا أنه كان على خلاف دائم مع أمه بسبب اعتراضها المستمر على أسلوبه في الحياة، واحترافه السحر الذي حرّمه الإسلام. تمكن رجال المباحث من القبض على الساحر، الذي نفى علمه بما حدث لأمه، وأضاف أنه كان مسافراً إلى إحدى المحافظات في عمل. لكن رجال المباحث كشفوا كذب ادعائه بعد استدعاء شهود أكدوا أنهم شاهدوا محسن يحوم حول شقة والدته بعد الحادث مباشرة. وبتضييق الخناق عليه، قال محسن إنه تلقى تعليمات عليا من ملوك الجان بقتل أمه، لأنها سخرت من هذا العالم العظيم، فقرر تنفيذ هذه المهمة فوراً، واستيقظ من نومه قبل صلاة الفجر، ثم اتجه إلى المطبخ واستل سكيناً وذبح أمه وهي على فراشها! ثم قرر حرق الشقة حتى يخفي آثار جريمته. حُبس المتهم وأحيل على مستشفى الأمراض العقلية لبيان مدى صحة قدراته العقلية، وبعد فترة الملاحظة الطبية أحيل على المحاكمة مع تأكيد الأطباء أنه سليم عقلياً.