الدسترة هي نتاج عمل تعاقدي وإلا سيفقد الدستور هيبته وسيادته عند عموم المواطنين. ولكي نضمن صفته التعاقدية، يلزم إشراك الجميع في صياغته والمصادقة عليه. والدساتير الحديثة تقوم على عناصر أساسية: أولا، ضمان تمثيلية واسعة لمختلف مكونات المجتمع. ثانيا، التركيز على المشترك، أي ما يوحد مختلف الحساسيات والانتماءات والمصالح. وثالثا، أنه يبقى مرجعا دائما عندما تتناقض تأويلات النصوص القانونية. وما يلاحظ في الدستور المغربي الحالي هو أنه يفتقر إلى أغلب هذه العناصر. وعندما طرح الملك محمد السادس مسألة التعديلات، اعتقدنا أنه آن الأوان لتصحيح هذا الوضع، غير أن النقاش الجاري حاليا حول الموضوع يثبت أننا على وشك أن نخطئ الموعد مرة أخرى، إذ إن الجميع يطالب بدسترة كل شيء باسم كل شيء. فمن أكبر المعيقات التي تواجه عملية الإصلاح الدستوري اليوم أنها أصبحت موضوع تجاذب سياسي بدون بوصلة. ربما كان هذا من حسنات هذه المرحلة، حيث سيتعلم المغاربة تهجية مبادئ الحرية، لكن المطالب الدستورية اليوم أصبحت دعوة لكل من هب ودب. ولا يبدو أن المغاربة اليوم يعرفون ما يريدونه رغم ضجيج الأصوات، فكل يعقد ويحل على شاكلته. وأحد مظاهر هذا الالتباس هو مسألة الدسترة، فالكل يطالب بدسترة ما يفرقه عن الآخرين وما يميزه عنهم وليس ما يجمعه معهم. وعندما يغيب المشترك في مطالب الجميع، فإن النقاش حول الدستور يصبح مدخلا لفوضى يستباح فيها كل شيء باسم كل شيء تحت غطاء الحق. لذلك، أعتقد أن على أغلبية الذين يتكلمون اليوم باسم هويات معينة أن يعودوا إلى خطاب 9 مارس ليقرؤوه جيدا. يبدو جليا أن المغاربة اليوم يطالبون بأن تتم دسترة خواطرهم ومخاوفهم أكثر مما يطالبون بدسترة هوياتهم، وبعض منهم يطالب بإعادة النظر في دسترة عناصر شكلت دوما موضوع إجماع، ولا يشكل بقاؤها أية مشكلة لأي طرف، كشعار المملكة وعلمها ونشيدها الوطني. وفي كلتا الحالتين، يفكر الجميع وكأن المغرب خرج للتو من استعمار برتغالي، لذا يتوجب علينا أن نبدأ من الصفر. فإذا كانت تونس ومصر -رغم جذرية ما حققته ثورتاهما- لم تبدآ من الصفر، فكيف لأمة لها امتداد تاريخي لاثني عشر قرنا أن تنسى، في غمرة الانفعال، أن الدستور ينبغي أن ينص على المشترك لا على الخاص والفردي والفئوي والجهوي والجغرافي وإلا سيصبح الدستور المغربي موسوعة على النمط البريطاني تجمع كل الواردات والشاردات من ثقافة البشر. إن المشترك الذي ينبغي الحرص عليه هو أن تتم دسترة المؤسسات الديمقراطية التي ستتيح لنا أن نعيش هوياتنا باعتبارها حقا، فالحق خارج المؤسسات الديمقراطية يصبح عنصرية وإقصاء، بل إن الدستور بدون هذه المؤسسات يصبح نصا لا غير، لذلك فكتابة جملة أو كلمة تحيل على هذه الهوية أو تلك ليس في حد ذاته ما يضمن احترام هذه الهوية، فلو أن كل مكتوب في الدستور الحالي وفي القوانين الحالية يتم احترامه لما وصل الوضع إلى هذا السوء، إنما الذي يضمن الهويات والاختلاف والتعايش بينها هو المؤسسات الديمقراطية، والذي يضمن احترام الدستور هو الفصل بين السلط، هو الضمانات المؤسساتية لتجسيد سيادة الشعب. فلا يكفي أن تتم دسترة شيء ما لنضمن ميكانيكيا احترامه. فمثلا، ينص دستور المملكة الحالي على اللغة العربية كلغة رسمية، فهل هذا منع من أن تكون كل المراسلات الرسمية في الإدارة المغربية باللغة الفرنسية؟ هل تنصيص دستور 1962 على سيادة الشعب ضمن فعليا احترام ذلك إبان الاستفتاءات المعروفة بنسبها الشهيرة؟ هل تنصيص الدستور الحالي على التعددية السياسية حال دون وصول مشهدنا الحزبي إلى هذا المستوى من الضحالة؟ هذه فقط بعض أوجه العملة التي ننساها اليوم ونحن نطالب بدسترة كل مخاوفنا، فالدسترة لا تضمن لوحدها الحق بل المؤسسات الديمقراطية هي التي تضمن ذلك، هذا هو روح خطاب 9 مارس. إن الناظر في كل مطالب الدسترة اليوم سيقف على مظاهر الابتزاز السياسي في أغلب هذه المطالب، فالدستور ليس دفترا شخصيا نكتب فيه حسب أهوائنا، بل هو دفترنا جميعا، نكتب فيه ما يوحدنا وليس ما يفرقنا، والابتزاز السياسي ليس فقط تفرقة بل إصرارا قبليا عليها، لذلك تعكس أغلب المطالب تصورات خاطئة جدا لمفهوم الحق، فالجميع اليوم يعتقد أن الآخرين يريدون به شرا أو يتربصون به الدوائر لذلك عليه دسترة تخوفاته، إلى الحد الذي يجعل المرء يتساءل كيف حصل ونجت هوية هؤلاء من الانقراض ماداموا مضطهدين إلى هذا الحد؟ وهل فعلا كانوا مضطهدين؟ ثم من يضطهدهم؟ هل عدم قدرة فئة ما، مهما كانت هويتها وطبيعتها، على إثبات نفسها، اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا أو ثقافيا، يستلزم بالضرورة أن هناك «عدوا يريد بها شرا» أو «يتربص بها الدوائر»، كما يقول القدماء؟ ثم هل يستطيع هؤلاء إيجاد تعريف جامع مانع لهويتهم؟ ما ينبغي تأكيده هو أن النقاش حول الدسترة لا ينبغي أن يكون إلا تتويجا لنقاش حول المؤسسات، وهذا أهم شيء، فإذا فشلنا في إقرار مؤسسات ديمقراطية تضع حدا للتصرف الفردي المعزول، ضدا على القانون، للمسؤول الحكومي والقضائي والأمني والمخابراتي، وإذا فشلنا أيضا في إقرار ضمانات مؤسساتية للديمقراطية البرلمانية والجهوية الموسعة، فإن الحديث، أو الصراخ على الأصح، عن «الدسترة» يصبح لغوا وحديثا مترفا في أحسن الأحوال، فليست الدسترة هي ما يضمن احترام المسؤولين لحقوق الإنسان، مهما كانت طبيعتها، بل المؤسسات.