"الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34        البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوار مع الدكتور يوسف البحيري: (استاذ القانون العام ومدير مختبر دراسات حقوق الانسان بجامعة القاضي عياض بمراكش) .. الدلالات القانونية والسياسية لمرتكزات التعديل الدستوري في الخطاب التاريخي لجلالة الملك

في الحوار التالي يستعرض الدكتور يوسف البحيري سياقات ودلالات ورش الاصلاح الدستوري والسياسي الذي أعلن عنه جلالة الملك في خطاب 9 مارس الجاري. ويبرز الابعاد الدستورانية لمبدأي الفصل بين السلط والارتقاء بالقضاء الى سلطة مستقلة .وهل ستعزز الاليات الدستورية المقترحة تاطير المواطن وتقوية دور الاحزاب السياسية ؟ و هل سيعززتكريس تعيين الوزير الاول من الحزب السياسي من إختصاصات هذه المؤسسة؟ وماهي دلالات تقوية آليات تخليق الحياة العامة ودسترة هيات الحكامة الجيدة وربط المسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة ؟
{ كيف تقراون سياقات الخطاب التاريخي لجلالة الملك محمد السادس المتعلق بمرتكزات الاصلاحات الدستورية ؟
يندرج الخطاب السامي لجلالة الملك محمد السادس الموجه مساء يوم الأربعاء 9 مارس الماضي إلى الأمة المغربية ، في مجموعة من السياقات ، أولها توطيد الميثاق والتعاقد التاريخي الذي يربط بين العرش و الشعب، وثانيا إعطاء دفعة جديدة لدينامية الإصلاحات الجديدة المتعلقة بوضع وثيقة دستورية ديموقراطية تساهم في بناء دولة الحق والمؤسسات ، وثالثا التجاوب والتفاعل مع مكونات الأمة والإنصات إلى نبضات قلوب المغاربة .
إن الخطاب السامي لجلالة الملك يحمل بين طياته خارطة طريق لمرتكزات الاصلاح الدستوري، ومقاربة جديدة تروم إطلاق دينامية التسريع بوتيرة النقاش حول السبل والصيغ القانونية القادرة على تحويل إشارات ومضامين التحول الديمقراطي ببلادنا نحو دولة الحق والمؤسسات، بواسطة وثيقة دستورية مكتوبة تتفاعل مع طموحات جميع المكونات السياسية والنقابية والحقوقية والشبابية للأمة المغربية، وتنخرط في النادي المغلق للدساتير الحديثة. ولذلك عين جلالته لجنة لإعداد مشروع الدستور الجديد يرأسها فقيه القانون الدستوري عبد اللطيف المنوني، وكلف المستشار الملكي محمد معتصم بترأس لجنة التشاور، وهو ما سيدفع الأحزاب السياسية والنقابات ومكونات المجتمع المدني إلى السباق مع الزمن وتقديم المقترحات إلى لجنة تعديل الدستور وتجاوز مرحلة تقديم المذكراتت.
{ أي دلالات قانونية و دستورية لادراج الخيار الديموقراطي في قدسية ثوابت الدستور؟
أعلن جلالة الملك محمد السادس عن مسألة تكتسي أهمية بالغة في رسم هندسة الدستور الجديد، وهي التنصيص على الخيار الديموقراطي ضمن الثوابت المقدسة في الدستور والتي تكتسي قيمة قانونية خاصة، وتحمل بين طياته دلالات عميقة من حيث الترتيب الدستوري. فإدراج الخيار الديموقراطي من ضمن محددات هوية المملكة المغربية، هو بمثابة تأكيد قوي على تشبث الدولة بالمبادئ القانونية والقيم الاخلاقية لدولة الحق والمؤسسات، واعتراف صريح بأنها تشكل جزء لا يتجزأ من التشريع المغربي وعنصر أساسي لمرتكزات السياسات العمومية.
إن تاكيد جلالة الملك على التنصيص على الخيار الديموقراطي ضمن الثوابت الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي المغربي، كما هو الشأن بالنسبة للدعامات الأخرى كالإسلام والملكية الدستورية والوحدة الترابية في أسمى قانون في البلاد، هو تعبير حقيقي على الإدارة السياسية للدولة في توطيد دولة الحق و المؤسسات واحترام الحقوق والحريات للمواطن.
إن القيمة الدستورية لمبدأ تأصيل الخيار الديموقراطي في مرجعية الدستورالجديد، تمثل في حد ذاتها دعامة أساسية قائمة بذاتها لمكانة الديموقراطية في محددات هوية الدولة المغربية، وتتكامل مع التعهد الوارد في ديباجة الدستور الحالي المتعلق باحترام حقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا والتي تشكل تعبيرا قويا عن الطابع والبعد الكوني لحقوق الإنسان، لأن الدولة تتعهد دستوريا وتضع على عاتقها التزامات مرتبطة بمأسسة الخيار الديموقراطي و الاحترام العالمي لحقوق الإنسان.
ومن تم، فمجال العلاقة الثنائية التي تجمع الدولة المغربية بمواطنيها يستمد مرجعية أحكامه من الدلالات الفلسفية والفكرية والقانونية للديموقراطية والمواثيق الكونية لحقوق الإنسان. فالمكانة التي يشغلها المواطن في المغرب في العهد الجديد، جعلت مجموعة من المفاهيم الكونية و المعايير الدولية تشكل مرجعية لالتزامات الدولة في مجال الخيار الديموقراطي وحقوق الإنسان كما جاء في الخطاب السامي الأخير المتعلق بمرتكزات الدستور الجديد . ويجب الاشارة إلى أن الدولة المغربية في عهد الملك محمد السادس قامت بمجهودات مهمة في مجال ملاءمة تشريعاتها الوطنية مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، حتى تتفاعل أكثر مع المكانة التي يستحقها الفرد داخل المجتمع المغربي الذي يعيش فيه، فالتشبث والاختباء وراء السيادة والسلطان الداخلي للدولة أضحى مبررا واهيا لا يمكنه أن يشفع للنظام السياسي من التنصل من التزاماته الدولية وعدم الامتثال لما تعهد به في المواثيق الدولية، بل إنه يسمح لهيئات دولية بمراقبة مدى امتثاله واحترامه لمبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، سواء على مستوى الاليات التعاقدية لدى الأمم المتحدة أو على مستوى الاليات الدولية لحماية حقوق الإنسان مثل الاختبار الدوري الشامل لدى مجلس حقوق الانسان.
{ أشار الخطاب الملكي الى دسترة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة في سياق تعزيز منظومة حقوق الانسان وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وترسيخ دولة الحق والمؤسسات . ماهي القيمة الدستورية لذلك؟
إن القيمة الدستورية لهذا المرتكز، تتجسد في اعتبار تجربة هيئة الانصاف والمصالحة محطة تاريخية بارزة في النسق السياسي المعاصر، والتي أثمرت مجموعة من التوصيات في التقرير الختامي تشكل مشروعا مجتمعيا حقيقيا لكسب رهان الانتقال الديموقراطي، ونقل العلاقة التي تجمع بين الدولة والمواطن من مجال السيادة المطلقة إلى مجال تقنين المسؤولية القانونية للدولة في سياق ضمانات عدم تكرار ماجرى ، بتقييد حرية تصرف المؤسسات مع المواطنين من أجل تطبيق المعايير الدولية لحقوق الإنسان كضوابط قانونية تحكم سلوك الدولة في إطار تعاملها مع مواطنيها.
لقد عبرت الدولة المغربية في العهد الجديد، عن وجود إرادة سياسية في معالجة ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والنبش في ذاكرة الماضي المؤلم، وتحميلها المسؤولية في العنف الممارس من طرف بعض الأجهزة في فترة تاريخية معينة، من أجل الوصول إلى مصلحة المغاربة مع تاريخهم وحفظ الذاكرة والطي النهائي لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عاشها المغرب في فترة عصيبة.
وعلى هذا الأساس، فجلالة الملك أعطى إشارة قوية بإعتبار دسترة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة كإحدى المرتكزات الاساسية للتعديل الدستوري، والتي ستساهم دون ريب، في إدراج تجربة المغرب في التجارب العالمية الفريدة في التفاوض على التحول الديموقراطي وتجاوز الفترة العصيبة لسنوات الرصاص بالمرور من محطة العدالة الانتقالية والرهان على تبني سياسة اقتصادية وتنموية وديموقراطية محورها المواطن ونشر ثقافة حقوق الإنسان والقيام بمجموعة من الإصلاحات التشريعية والمؤسساتية والقضائية.
وجلالة الملك حينما ركز في خطابه السامي على التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة والغنية بتنوع روافدها وفي صلبها الأمازيغية، فهذه إشارة قوية يجب التوقف عندها كإحدى توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في التقرير الختامي والتي تندرج في مطالب الحركة الحقوقية في الشق المتعلق بالحقوق الثقافية كرصيد للتنوع وإغناء الهوية المغربية.
إن دسترة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة تندرج في إطار التجاوب مع مبادئ وأهداف العدالة الانتقالية في التجارب العالمية السابقة، دون إعتبار أي جهة حصريا هي المسؤول الوحيد عن تفعيل التوصيات كمشروع مجتمعي لإرساء دعائم دولة الحق والبناء الديموقراطي ببلادنا. حيث أن مسألة متابعة تفعيل التوصيات هي مشتركة بين الحكومة والبرلمان خصوصا في شقها المتعلق بالإصلاحات الدستورية والمؤسساتية و القضائية والحكامة الأمنية والمصادقة على المحكمة الجنائية الدولية وأيضا القطاع شبه العمومي أو الخاص والمجتمع المدني في الشق المتعلق بجبر الضررالجماعي وتسوية القضايا الإدارية والإجتماعية . ولكن يبقى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي عين جلالة الملك كل من إدريس اليزمي رئيس له ومحمد الصبار أمينا عاما له وهما شخصيتين يتوفران على مكانة خاصة في المشهد الحقوقي الدولي والوطني وتتبعا جميع محطات ومسار تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، هو الذي سيقوم بالتنسيق لتفعيل وإعمال التوصيات بين مختلف المتدخلين والأطراف المعنية في سياق بناء دولة الحق والمؤسسات خصوصا بعد ارتقاء دوره وإتساع إختصاصاته ليتحول وفق مبادئ باريس إلى شريك فعلي للدولة في مجال حقوق الإنسان.
{ ماهي الابعاد الدستورانية لمبدأي الفصل بين السلط والارتقاء بالقضاء الى سلطة مستقلة ؟
تضمن خطاب جلالة الملك توطيد مبدأ توطيد الفصل بين السلط وتوازنها وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها . إن إدراج جلالة الملك مبدأ الفصل بين السلط في سياق مرتكزات الإصلاح الدستوري هي مناسبة للتفكير في البعد الدستوراني لهذا المبدأ كآلية لخلق قواعد جديدة تعيد بناء العلاقة بين السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) وفق هندسة دستورية حديثة لتأصيل الحقوق والحريات والبناء الديمقراطي ويمكن الاحتكام إليها كإطار لتوزيع فصل السلط والتأكد من مدى احترام تدخلات الأطراف السياسية في مجال العلاقات المؤسساتية.
إن الخطاب التاريخي للملك محمد السادس يروم تكريس رقابة البرلمان للحكومة والاحتفاظ بموقع أساسي للأحزاب السياسية، حيث يجب أن تشكل المقتضيات الدستورية إعادة الاعتبار للدور المنوط بالبرلمان في عملية البناء الديمقراطي، و تمنحه القوة والفعالية من أجل التفاوض والاقتراح.
فالهندسة الدستورية يجب أن توفر شروط تحقيق دولة الحق، من خلال منح مؤسسة البرلمان سلطات وصلاحيات فعالة تؤهلها للمساهمة في البناء الديموقراطي وضمان مقاربة شمولية لتوزيع موازين القوى بين الفاعلين السياسيين من أجل خلق ضوابط وقواعد لاحتواء الصراع حول السلطة السياسية وتكريس المبادئ القانونية و القيم الأخلاقية للتناوب الديمقراطي والتداول الفعلي على السلطة.
ومن جانب أخر إعتبر جلالة الملك أن الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة هو أحد المرتكزات الأساسية لمراجعة الدستور.إن دسترة سلطة القضاء تشكل حجر الزاوية في إقرار استقلالية كمؤسسة دستورية لتحقيق التطبيق الفعلي لمبدا فصل السلط وتأسيس دولة الحق والحد من المجالات التي تتدخل فيها السلطة التنفيذية للتأثير على القضاء.
إن مرجعية الدستور تمثل في حد ذاتها دعامة أساسية لمبدا استقلال القضاء من ضمن الثوابت التي يقوم عليها فصل السلط. فالدستور المغربي الحالي يتضمن مقتضيات واضحة في الفصل 82 تؤكد على أن القضاء مستقل عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ولكن دون الاعتراف بأن القضاء يشكل سلطة متساوية مع السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحقيق مبدأ فصل السلط، وما هو ما يوحي بأن القضاء يدخل في صميم المجال المحفوظ للدولة.
وربما قد تكون فرصة مراجعة الدستور من خلال الإرتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة هي مناسبة أيضا للقيام بمراجعة للنظام الأساسي للقضاة الذي يشكل عائقا
حقيقيا يحول دون تمتع القضاة بالاستقلالية، حيث أنه على المستوى العملي فوزير العدل هو الذي يمارس تعيين وترقية وتوقيف وعزل القضاة دون الرجوع إلى المجلس الأعلى.
كما أن الفصل 86 من الدستور المغربي الذي يحدد عدد الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس الأعلى للقضاء، يعطي صلاحيات واسعة للجهاز التنفيذي ويقلص دور المؤسسة القضائية في أعلى هرمها مما يؤدي إلى الحد من فعاليتها كمرجعية وحيدة لضمان مراقبة الأحكام القضائية التي تصدرها مختلف المحاكم المغربية عندما يتم التعرض عليها بواسطة الطعون التي يتقدم بها المتقاضون.
فكما جاء في خطاب جلالة الملك، فالضمانات الدستورية هي المدخل الأساسي لتفعيل آلية استقلالية القضاء وذلك على مستويين إثنين، المستوى الأول يتعلق بالاعتراف بالقضاء كسلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتأمين هذه الاستقلالية وتحصينها حتى تكون قادرة على تفعيل مبدأ فصل السلط.
فوزير العدل الذي ينتمي للسلطة التنفيذية، يمارس بصفته نائبا لرئيس المجلس الأعلى للقضاء سلطات واسعة ومتداخلة على جهاز القضاء يمكن أن تؤدي إلى التعسف، نظرا لتمركزها في مؤسسة واحدة، حيث أنه هو الذي يحرك آليات الجزاء، هذا في حين أن جهاز القضاء غائب عن ممارسة هذه الاختصاصات، وهو ما يستدعي القيام بالإصلاحات الدستورية والتشريعية لرفع هذه الوصاية عن القضاء وإعادة الأمور إلى نصابها وجعل أمر القضاء شأنا خاصا بين يدي أصحابه دون تدخل السلطة التنفيذية.
{ هل سيعززتكريس تعيين الوزير الاول من الحزب السياسي من إختصاصات هذه المؤسسة؟
تعرض جلالة الملك في خطابه التاريخي المتعلق بمرتكزات تعديل الدستور إلى تقوية مكانة الوزير الاول كرئيس لسلطة تنفيذية يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي وتكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب.
إن الخطاب الملكي يروم تقوية مؤسسة الوزير الأول وتعزيز وضعيتها داخل المنظومة الدستورية في سياق رسم السياسة العامة للبلاد والإشراف على العمل الحكومي والسهر على تنسيق النشاط الوزاري. وهو ما يجعل الوثيقة الدستورية مرجعية قانونية لتحميل المسؤولية للوزير الأول في مجال السياسات العمومية وعدم اختباءه وراء توجيهات وبرامج جلالة الملك.
إضافة إلى ذلك فهندسة نص دستوري صريح يحدد سلطة الوزير الأول المتعلقة بتدبير السياسة العامة للبلد سيكرس آليات المحاسبة السياسية التي نفتقدها في الحياة السياسية المغربية، والحال أن المهمة الأساسية التي يقوم بها الوزير الأول من خلال الإشراف على الجهاز التنفيذي تستدعي تقديم المحاسبة كواجب وتمرين سياسي في البناء الديمقراطي.
إن المسؤولية الدستورية للوزير الأول، كما جاءت في الخطاب السامي تقتضي توفره على صلاحيات واضحة لممارسة الإشراف على العمل الحكومي، فمسألة تعيين وزراء من الأحزاب السياسية على ساس نتائج الانتخابات تثير إشكالية تأهيل الأحزاب السياسية ومطالبتها بوضع برامج سياسية تنافسية في ظل فضاء جديد يخولها إمكانية ترجمتها من خلال الإشراف على وزارات معنية كالداخلية والعدل والخارجية حتى تعكس الخريطة الانتخابية وإرادة الناخبين وصناديق الاقتراع.
ومن جانب آخر إن إشارات جلالة الملك تستدعي مراجعة الفصل 24 من الدستور الحالي الذي ينص على اقتراح الوزير الأول للوزراء ولكنه لا يتضمن أية مقتضيات تلزم الملك بقبول اقتراحه.
كما أن تأكيد جلالة الملك في سياق تقوية مكانة الوزير الأول الى توليته المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية تدعو إلى هندسة دستورية للعلاقات التي تربط الوزير الأول بباقي السلط الأخرى نتيجة عدم وجود قواعد دستورية مكتوبة قادرة على نسج طبيعة العلاقات التي تجمعه بالولاة والعمال.
{ والإصلاح الدستوري لمؤسسة البرلمان؟
إن الدستور الحالي لا يتضمن أي نص صريح يعترف لمؤسسة البرلمان بتمثيل الأمة وتجسيد سيادتها، إذ لا يمكنها ممارسة دورها التشريعي إلا في إطار الحدود التقليدانية التي يرسمها الدستور الحالي، وهو ما يستدعي إصلاح الدستور بشكل يمكن البرلمان ممارسة التمثيل السياسي للأمة.
وجلالة الملك تناول المهام التشريعية والتمثيلية والرقابية لمجلس النواب في سياق مرتكزات مراجعة الدستور لمنح شهادة الميلاد لهندسة جديدة لدور البرلمان كمؤسسة تشريعية قادرة على ممارسة الرقابة على الحكومة وتفعيل مكانة الفاعل الحزبي في النسق السياسي المعاصر بإدماج مبدأ المحاسبة الدورية للقاعدة الانتخابية.
فكما يعلم الجميع يتكون البرلمان من غرفتين، واحدة منتخبة بطريقة مباشرة وهي مجلس النواب، والأخرى بطريقة غير مباشرة وهي مجلس المستشارين، إلا أن سلطاتها تتداخل بشكل كبير دون أن يكون هذا التداخل مبررا بمنطلق مؤسساتي حقيقي . ومن هذه الزاوية، فإن الغرفة الثانية تحدث خللا في تمثيلية البرلمان، إضافة إلى ذلك، فقد تأثرت مصداقيتها بسبب الفضائح المالية التي شابت تجديد الثلث بها في شتنبر 2006 ، ومن تم فالغاء الغرفة الثانية له ما يبرره.
ومن جانب أخر، فم موضوع الحديث عن النهوض بالمهام التمثيلية والتشريعية والرقابية للبرلمان يجرنا إلى إثارة مكانة حرية ونزاهة الانتخابات في البناء الديموقراطي وانبثاق الحكومة عن الارادة الشعبية.
ومن الملاحظ أن تنظيم الانتخابات في المغرب يعتمد بشكل كبير على الجهاز التنفيذي وذلك من خلال وجود مديرية خاصة مكلفة بذلك داخل وزارة الداخلية، وكذلك العمال الذين يلعبون دور أساسي في تطبيق الإجراءات الانتخابية وهو ما يتنافى مع المعايير الدولية لحرية ونزاهة الانتخابات المنصوص عليها في المسلسل الانتخابي مما أدى إلى انتشار الرشوة والمال الحرام وفساد الانتخابات.
وهو ما يستدعي ضرورة إحداث جهاز مستقل يتشكل من المجتمع المدني والأحزاب، يكلف بتنظيم الانتخابات وهي الصيغة التي تفضلها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عام 1996 التي تشير إلى أنه «يجب إحداث سلطة انتخابية مستقلة للإشراف على المسلسل الانتخابي». إن إحداث مثل هذه السلطة سيمثل تغييرا مهما يستلزم البحث في عدة نماذج ممكنة: (لجنة محايدة مكونة من خبراء مستقلين، لجنة تضم أحزاب متعددة، لجنة مختلطة).
{ هل سيتضمن الاليات الدستورية المقترحة تاطير المواطن وتقوية دور الاحزاب السياسية في الخطاب الملكي التاريخي لتاسع مارس؟
إن هذا المرتكز للتعديل الدستوري المتعلق بتقوية دور الاحزاب السياسية في نطاق التعددية وتأطير المواطن وتكريس مكانة المجتمع المدني الذي أكد عليه جلالة الملك من شانه تقوية المشاركة السياسية متى توافرت شروطها ومقوماتها بصفتها إحدى الركائز التي تنبني عليها الديمقراطية، وتعد شكلا من أشكال المساهمة في تدبير الشأن العام وممارسة الحقوق السياسية .
إن أهمية الآليات الدستورية لتأطير المواطن ستساهم لا محالة في إعادة الاعتبار للمواطنة ومناهضة العزوف من العمل السياسي كرد فعل طبيعي إزاء أداء الأحزاب التي ظلت دون وعودها وشعاراتها ودون الالمام بقضايا وهموم المواطنين.
وإذا كان بعض المهتمين يحملون المواطن وحده مسؤولية هذا العزوف باعتباره يفوت عليه فرصا كبرى في مجال ممارسة الحقوق السياسية، فإن الموضوعية تقتضي الإقرار بأن مسؤولية تفشي النفور من العمل السياسي ، هي نتيجة للمناخ السياسي العام و تورط ممثلي أجهزة الدولة في سنوات الجمر والرصاص تزوير الانتخابات وإضعاف الأحزاب والإسهام في بلقنة المشهد السياسي، حتى أصبحنا أمام ما يزيد عن أربعين حزب بشعارات متباينة.
ومن جانب آخر، تتحمل الأحزاب السياسية بدورها مسؤوليتها في هذا الإطار فقد ظل حضورها مرحليا ومرتبطا بالانتخابات فقط، ولم يلاحظ أي تطور على مستوى أدائها السياسي في علاقتها بتعبئة المواطنين، ناهيك عن إسهامها في تكريس الترحال البرلماني وهشاشة قدراتها في تأطير المواطن واقتران نواب البرلمان بالسعي لتحقيق المصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة.
فغياب الديمقراطية الداخلية في الممارسة الحزبية وظاهرة الصراع حول الزعامات داخل الأحزاب و صعوبة تصنيفها في المشهد السياسي والتمييز فيما بينها وارتباط برامجها بالاستحقاقات الانتخابية بشكل ضيق و عدم وجود أقطاب سياسية مؤهلة لتدبير شؤون المجتمع وتحقيق التعددية السياسية الحقيقية القادرة على تأهيل الحقل السياسي ونقل دور الأحزاب السياسية من المؤسسة الانتخابية إلى إستيعاب وتأطير النخب الجديدة من الشباب ، كلها عوامل تستدعي تفعيل الأحزاب السياسية لآليات الديمقراطية الداخلية لترميم بيتها والتفاعل مع دورها كرافعة أساسية للخيار الذي تضمنه الوثيقة الدستورية التي سينكب المجلس الذي عينه جلالة الملك برئاسة الفقيه الدستوري عبد اللطيف المنوني على إعدادها.
{ ماهي دلالات تقوية آليات تخليق الحياة العامة ودسترة هيات الحكامة الجيدة وربط المسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة ؟
في الحقيقية إن دسترة آليات تخليق الحياة العامة التي أكد عليها جلالة الملك، تحمل دلالات عميقة تروم جعل الدستور كأسمى قانون في البلد مرجعية لاستراتيجية واضحة وشفافة لتفعيل آليات المراقبة الإدارية و المالية والمساءلة في المسؤولية العمومية، والقطيعة مع سلوكيات الفساد المالي والاقتصادي وإهدار المال العام، مما سينعكس بشكل ايجابي على الاقتصاد الوطني والإدارة المغربية اللذين أبانا عن عجز بنيوي في الإقلاع والانخراط في دينامية الدفع بالعملية التنموية ببلادنا.
إن أزمة تخليق الحياة العامة هي ظاهرة سوسيو إقتصادية مرتبطة بالإفلات من العقاب وعجز القضاء كأداة فعالة لتكريس العدالة الاجتماعية وتطبيق القانون، رغم أن التشريع الجنائي المغربي ينص على الجزاءات في حالة ارتكاب الجرائم الاقتصادية، ولكن اعتبار جلالة الملك في خطابه التاريخي آليات تخليق الحياة العامة مرتكز للتعديل الدستوري هو تعبير عن الإرادة السياسية للدولة لإرساء دعائم المحاسبة والمساءلة و الشفافية و الحد من تدخل السلطة التنفيذية في جهاز القضاء لتأهيله على مواجهة الجرائم الاقتصادية و التقليل من انعكاساتها الوخيمة على المجتمع و الاقتصاد و الاستثمار و التنمية.
فالحكومة المغربية صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمحاربة الفساد، بإصدار قوانين محاربة تبييض الأموال ونهب المال العام وقانون التصريح بالممتلكات، ولكن دسترة تخليق الحياة العامة ستساهم لا محالة في مواجهة الجرائم الاقتصادية وتفعيل آليات المراقبة المالية والإدارية، وتسليحها بقانون مكافحة الفساد و الجرائم الاقتصادية ووضع برامج جريئة للإصلاحات الإدارية و الجبائية والاقتصادية لمناهضة الإفلات من العقاب في حالة التملص الضريبي و استغلال النفوذ والثراء غير المشروع وتفويت الصفقات العمومية، وذلك بإعمال المراجعة القبلية والبعدية لمالية المسؤولين الممارسين لمختلف المهام الوزارية والإدارية و المنتخبين في المجالس الجماعية والبلدية و البرلمانيين.
فدسترة آليات تخليق الحياة العامة، هي القوام الاساسي لمناهضة الإفلات من العقاب و تحريك آليات متابعة مرتكبي الجرائم الاقتصادية لاكتساب الاقتصاد الوطني والاستثمار ومجالس تسيير الشأن المحلي و الوطني المناعة اللازمة في مواجهة سلوكيات الفساد المالي و الإداري و تنقية مختلف القطاعات من الزبونية و المحسوبية و الرشوة وتمرير الصفقات و التملص الضريبي وسوء تدبير وترشيد المال العام ، وجعل تكافؤ الفرص وسيادة القانون هي المنحى الصحيح لكسب رهان التنمية وبناء صرح دولة الحق و مأسسة المجتمع الحداثي وخلق مناخ للاستثمار الوطني والأجنبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.