كل من يسمعون بمستشفى «الرازي للأمراض العقلية والنفسية» في سلا، يذهب بهم تفكيرهم، حتما، إلى أن المرضى، نزلاء المستشفى، كلهم مختلّون عقليا، ولا مجال للحديث هنا عن حالات أخرى سوى الحمقى والمجانين، فالأغلبية الساحقة ما تزال تحمل في ذاكرتها مفاهيم مغلوطة ظلت راسخة في أذهانها، على امتداد سنوات طويلة، حولت «الرازي» إلى مركز ارتبط ب«الحْماقْ»، وجعلت البعض يذهبون إلى حد إطلاق عبارة «للمجانين فقط» كشعار يرمز إلى المستشفى، وهو النهج ذاته الذي سارت عليه العديد من المستشفيات الخاصة بالأمراض العقلية والنفسية، التي اقتبست منه الاسم، الشيء الذي جعله يضاهي في «الشهرة» مستشفى «برشيد» الشهير و«ينافسه». يسلط هذا الملف الضوء على «حالات» استثنائية قادها الحب والعشق لتتحول إلى مرضى نفسيا وعقليا، جعلتهم حبيسي جدران مستشفى الرازي، في الوقت الذي لم يجد آخرون مكانا يؤويهم ويحتضن آهاتهم غير الشارع، وفي أحسن الأحول، التسكع على مقربة من المستشفى. «المساء» تنقل لكم حكايات هؤلاء، بعد إخفاقهم في التمسك ب«سفينة الحب»، ما جعلهم أسيري المعاناة والضياع، بعدما شيّدوا قصورا من الأحلام الوردية، لتنطبق عليهم، بذلك، مقولة «ومن الحب ما قتل»...
12 سنة من الحب تنتهي بممرضة في المستشفى «ياسمين» (اسم مستعار) إنسانة تعيش في وسط مناقض تماما للذي انتهت إليه، مكرهة. تبدو جميلة الملامح، أنيقة المظهر، وهي جالسة مع إحدى رفيقاتها في المستشفى، تتجاذب وإياها أطراف الحديث، وهي تداعب سيجارة من النوع الجيد و«تغزل الوقت»، حتى لا تشعر بالملل وتنهار أكثر. تبدو قصة «ياسمين» معقدة ومؤثرة شيئا ما: بعدما كانت تشتغل كممرضة في أحد المراكز الاستشفائية في العاصمة لسنوات، وجدت نفسها تخضع للعلاج، عوض أن تستمر في معالجة المرضى، كما دأبت على ذلك منذ سنوات. عمرها يقارب الأربعين، لكن ملامحها «الصغيرة» والبريئة غطّت على حقيقة عمرها. تحاول «ياسمين» أن «تنسجم» مع نزيلات مستشفى الرازي وتخلق لنفسها «عالما» آخر من لا شيء. السجائر هي الأنيس الوحيد الذي أصبحت «ياسمين» تستمتع بنشوة دخانها، بعدما سئمت من التردد على المستشفى ونال منها المكوث بين ظهرانيه لفترات متقطعة. تحكي «ياسمين» عن السبب المباشر الذي «زج» بها في المستشفى، والذي لم يكن سوى زوجها، الذي قضت معه، قبل الزواج، حوالي 12 سنة، مفعمة بالحب والغرام، خصوصا أنها انتظرت عودة فتى أحلامها، الذي قضى 5 سنوات في الخارج، طالبا في شعبة الهندسة المعلوماتية. الحب الأعمى الذي تكنه «ياسمين» لعشيقها جعلها توافق على طلبه الزواج بامرأة أجنبية: «زواج أبيض» من أجل الحصول على الجنسية الفرنسية، في خطوة أرادت من خلالها أن تعبّر عن مدى عشقها الكبير وارتباطها الوثيق برجل يعتبر، في نظرها، «استثنائيا» بجميع المقاييس، وألا تشكل حجر عثرة في مستقبله المهني، إيمانا منها بأنها، بهذه الطريقة، ستأسر قلبه و«تكبر في عينيه»... انقضت خمس سنوات من الانتظار، عاشتها «ياسمين» وكأنها عقد من الزمن. نال الحبيب دبلومه في الهندسة، ثم عاد إلى الوطن، ما جعلها تحس بالمعنى الحقيقي للسعادة، كيف لا ومن وهبته حياتها سيكون إلى جوارها؟ تقول «ياسمين» وعيناها مغرورقتان بالدموع: «قضيت رفقته سبع سنوات لم تزدني إلا تعلقا به وانتظرت، بعدها، خمس سنوات زادتني إصرارا على التواجد إلى جانبه»، قبل أن تستطرد قائلة، وهي تمسح دموعها، التي عكست بجلاء حبها الدفين: «بعد سنوات من الانتظار، تحقق المراد وتزوجتُ بمن أفنيت عمري في حبه، غير أنني لم أكن أتصور، يوما، ولو من باب الدعابة، أن ينهار كل شيء، بعد زواج لم يطفئ بالكاد شمعته الأولى». بعد الطلاق، الذي تم لأسباب تحفّظت «ياسمين» عن ذكر بعضها بشكل مفصل، وجدت نفسَها أمام واقع مرير لا يرحم المرأة المطلّقة، مهما كانت الأسباب والمسببات، خصوصا في ظل النظرة الدونية للمجتمع تجاه كل امرأة مطلقة. وأمام هذا الوضع، الذي لم يكن أشد العشاق تشاؤما يتوقعون حدوثه، لم تجد «ياسمين» حلا آخر سوى التفكير في «الانتقام» من زوجها، خاصة بعدما وصلت إلى حالة من الانهيار العصبي والنفسي نتج عنها دخولها المستشفى من أجل تلقي العلاج بعد طلاقها من زوجها. واصلت سرد تفاصيل «قصة» تضاهي ما عاشه «قيس وليلى» و«روميو وجولييت». بعد تنهيدة عميقة، أوضحت «ياسمين» أن ما زاد الوضع تأزما هو حملها غير المرغوب فيه من زوجها، خاصة عندما بدأت هوة الخلافات تتسع بينهما بشكل كبير، ما دفعها إلى التفكير في عدم إخباره بأمر حملها، لكونها لا ترغب في الاحتفاظ بطفل في غياب الأب، بعدما وصلت الأمور بينهما إلى الباب المسدود.. وهكذا تخلصت «ياسمين»، في خطوة أولى من جنينها، ولم يهنأ لها بال بعد ذلك إلا بعد أن نفذت خطة الانتقام التي عزمت كل العزم على تنفيذه. انتقام فاشل استغلت «ياسمين» جمالها وحظها في «تهافت» وإقبال العديد من العشاق والمحبين عليها، سواء في العمل أو خارجه، وحاولت أن تستفز شعور زوجها، خاصة أن الطلاق ما يزال في أيامه الأولى. فكرت «ياسمين» في أن تربط علاقة بمسؤول في نفس المصلحة التي كانت تعمل فيها، وهو الذي كان يتحرش بها حتى قبل طلاقها من زوجها... بكلام خافت، تقول «ياسمين» إن الهدف من تلك «الخطة» كان هو أن تُظهر لطليقها أنها رغم طلاقها فحظها «وافر» في الزواج مرة أخرى. لكن الصدمة الكبرى هي أن «المناورة» لم تكن صائبة كما خططت لها، بعدما تطورت العلاقة بينها وبين المسؤول إلى أن وجدت «ياسمين» نفسها تخلصت، للمرة الثانية، مما في بطنها، دون إخبار عشيقها بذلك. تقول ياسمين: «تكتمت على الفضيحة لسببين، أولهما أن المسؤول متزوج ولديه أبناء، وثانيهما أنني لا أملك الجرأة لكي أخبره وأقطع علاقتي به، وفي نفس الوقت، لا أستطيع أن أستمر في العمل وأتعامل معه كأن شيئا لم يكن».. قبل أن تواصل، وقد ظهرت عليها أمارات الندم: «ما زاد من تفاقم الوضع وتعقيد الأمور هو أن أغلب الذين يشتغلون في المصلحة كانوا على علم بعلاقتنا، فلم أجد من خيار آخر لإسكات الألسنة وصد كل الأصابع غير مغادرة المستشفى الذي كنت أعمل فيه إلى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية، حيث صرتُ نزيلة»!... حاولت «ياسمين» أن تغير حياتها، لكنها فشلت في ذلك. خرجت من المستشفى بعد تخلصها، نسبيا، من التعب والإرهاق. عادت إلى شقتها حيث تقطن لوحدها، بعيدا عن العائلة، بسبب ظروف العمل: «أصبحت كالخفاش: لا أنوار لولا أصوات ولا حركة، الستائر كلها مسدلة، التفكير في لا شيء والنوم لا يعرف طريقه إلى جفوني».. لكن «ياسمين» لم تكن تعلم أن «أداة الانتقام ليست في محلها»، حسب قولها و«أن أشرعة السفينة التي ركبتها ستقودها الأمواج والرياح إلى نقطة الصفر»... «كنت أظن أن شذوذه نزوة عابرة» تحكي «ياسمين» عن كون طلاقها رغم كل الحب الذي كان بينها وبين زوجها جعلها تتذكر الكثير من الأمور التي كانت تتجاوزها وتتنازل عنها في السابق من أجل الحفاظ على بيتها وبناء أسرة. تقول إن الطلاق ليس في حد ذاته سببا وحيدا لتواجدها في مستشفى الرازي، لكن الكثير من الأمور كانت تعيشها مع زوجها، الذي قالت عنه إنه «شاذ جنسيا» ويتصرف معها بشكل وحشي إلى درجة أنها أجرت عملية جراحية على مستوى «الدبر»، حيث مارس عليها الجنس بالقوة، «لشدة حبي له وتعلقي به، كنت أظن أن رغباته الجنسية الشاذة التي أصبح يميل إليها هي مجرد نزوة عابرة». بصوتها الرخيم، تتحدث «ياسمين» عن اليوم الذي لم تنسه أبدا، عندما رفضت قبول طلبه بإتيانها من «الخلف»، مؤكدة أنه اتصل بإحدى العاهرات وأنه يستغل فرصة غيابها عن البيت من أجل استقبال عشيقاته. غير أن الاستفزاز سيبلغ مستوى غير مقبول خلال الأيام التي أوشكت فيها العلاقة الزوجية على الانتهاء، حينما عمد زوجها إلى الاتصال بها ليخبرها أنه برفقة إحداهن.. وأضافت «ياسمين» أنه تجرأ على مخاطبتها هاتفيا بأسلوب مخل للأدب: «هاني معا للاك...أنا دابا بخير».. فقدت «ياسمين» الأمل في الحياة مع أي رجل، كيفما كان نوعه، لأن الحب الذي عاشته خلال 12 سنة لم يعد له أثر ولا تريد تكرار التجربة نفسها في ما وصفته ب«حياة لم يعد فيها للحب قيمة».. حياة صارت في عيون «ياسمين» كغيمة سوداء لا تبشر سوى بالحزن والأسى. أخذت نفَسا طويلا ثم واصلت حديثها، مشيرة إلى أن الزوج الذي قدّمت من أجله تضحيات لم تظفر منه سوى بالهمّ والمرض، بعد سنوات من الحب من أجل «شاذ جنسيا». لم يكن لدى «ياسمين» أي خيار آخر سوى الاستسلام للأمر للواقع و«الصبر»... وهي تفكر في الهروب إلى الحياة الطبيعية، بعيدا عن صمت المستشفى، تارة، وغليانه، أخرى، تصطدم «ياسمين» بمجتمع ينعت المرضى نفسيا بالمجانين والحمقى.. ما دفع بها إلى النفور والتهرب من مقابلة أي شخص تجمعها به معرفة سابقة، متكتمة عن مرضها. تقول إنها حاولت أن تندمج داخل المجتمع من أجل «نسيان» كل الهموم والمشاكل، لتجد نفسها في قفص «الاتهام»، تم عادت أدراجها إلى المستشفى، حتى لا يصل بها الأمر إلى مرض عقلي يصعب علاجه، بعدما وجدت كل الألسنة تردد أنها صارت مختلة عقليا وطردت من عملها وأنها تحت الحراسة الطبية في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية. تقول «ياسمين» إنها حاولت البحث عن عمل في مؤسسة أخرى، بعيدا عن المركز الاستشفائي الذي تربطا به ذكريات لا تريد استعادتها. باستغراب، قالت «ياسمين» إن أحد زملائها نبَّهها إلى ضرورة عدم الكشف عن مرضها لأي مؤسسة ترغب في الاشتغال فيها، معتبرا أن طلبها لن يقبل إن هي تحدثت عن مرضها، لكونها «لديها سوابق مرضية»، كما عبّرت عن ذلك في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، مضيفة أن «الأمر أشبه بمن له سوابق عدلية»!... من جهة أخرى، تقول «ياسمين» إن المريض داخل المستشفى يتلقى علاجات، إلا أن أغلب الأدوية المستعمَلة والحُقن، يستعملها الجميع، علما أن «الحالات» تختلف درجات مرضها، أضف إلى ذلك أن المرضى الذين يستعملون الأدوية التي يتوفر عليها المستشفى تسبب لهم نوعا من الارتخاء طيلة اليوم، علاوة على «السهو» جراء الإكثار من الدواء والحقن. أما الأدوية التي تتطلب إمكانيات كبيرة فقد تكلف المريض أزيد من 5000 درهم شهريا، حيث يصل ثمن بعض الأنواع إلى 2300 درهم للنوع الواحد.. غير أن الفرق بينها وبين الأدوية التي تضعها وزارة الصحة في خدمة المستشفيات هو أن «سلبيات هذا النوع الأخير أكثر من إيجابياته»، لأن فعاليته مؤقتة جدا وتأثيرها سريع.