المغرب بلد الفرص التاريخية الضائعة، بلد تكميم الأفواه وإعطاب وتعطيل وكتم أصوات ثقافة الفضح، ففي الوقت الذي أعلن فيه ملك البلاد في خطاب 9 مارس عن مجموعة من الحوافز والمؤشرات للارتقاء بالمغرب إلى مصاف البلدان الديمقراطية، يظهر أن جيوب المقاومة كشرت عن أنيابها وشحذت أسلحتها ورصت صفوفها لمقاومة التغيير والتصدي له بكل حزم. ويبدو أن محاكمة «المساء» ووضع الصحافي رشيد نيني تحت الحراسة النظرية رغم توفره على جميع ضمانات الحضور يجرنا إلى الوراء ويعود بنا إلى سنوات الرصاص ويبرز التسرع والمزاجية في اتخاذ القرارات التي يؤدي ثمنها المغرب غاليا أمام المنتظم الدولي والجمعيات الحقوقية ويصبح محطة اتهام وتشكيك نتيجة هذه الاعتقالات التحكمية التعسفية. فالمغرب، بحكم موقعه الجيواستراتيجي، ظل مستهدفا على الدوام بحكم الأمن والاستقرار الذي ينعم به. ولعل الحادث الإجرامي الذي تعرض له مطعم أرڭانة بمراكش يستهدف بالدرجة الأولى ضرب المقدرات السياحية للبلد والدفع في اتجاه تهجير الرساميل الأجنبية وتهريب الاستثمارات الخارجية بدعوى التفجيرات الإرهابية وانعدام الأمن. هذا على المستوى الخارجي، أما على المستوى الداخلي فإن حبس صحافي جريء ومتميز انخرط، بشكل مباشر، في ثقافة الفضح وعرى واقع تمرير الصفقات ورصد فساد المؤسسات العمومية وشخص المرض المزمن للإدارة المغربية والتوافقات التدليسية لبعض الرموز الفاسدة غير المواطنة التي اغتنت بشكل فاحش وراكمت الثروات بشكل غير مشروع، لن يزيد الأمر إلا استفحالا والسكوت عن هذه الإجراءات الانتقامية يعد انخراطا في مؤامرة الصمت وجريمة نكراء لمصادرة حق من الحقوق الكونية هو حرية التعبير. إن إلجام «المساء»، الجريدة الأكثر مبيعا والتي تحظى بشعبية كبيرة، ردة إلى الوراء ووصمة عار على جبين المسؤولين وشاهد إثبات على البون الشاسع والمفارقات بين الخطاب الرسمي والواقع العملي للمشهد الحقوقي والسياسي لبلدنا. مما لا شك فيه أن «المساء» صوت مزعج ومقلق يحظى بتعاطف كبير من لدن الرأي العام لأنه يعبر عن نبض المجتمع ويستجيب لهمومه وتطلعاته ولو ترشحت «المساء» للانتخابات التشريعية لكانت القوة السياسية الأولى في البلاد. وسياسة التركيع والإذلال والإهانة وإخراس الأصوات التي تجاهر بمحاربة جرذان الارتزاق لم يثبت تاريخيا أنها أعطت أكلها، لأن إرادة الجماهير لا تقهر، وإذا كسب أعداء الحرية والتغيير معركة فإنهم لن يكسبوا حربا لأن الحرب مجموعة من المعارك. المهندسون الحقيقيون الذين يقفون وراء هذا الملف يبتغون من وراء هذه المهزلة جلد الضحية وجعل الجلاد يفلت من العقاب . لقد كان تقرير المجلس الجهوي للحسابات صادما وموجعا بفعل الاختلالات العميقة التي تعيشها مجموعة من المؤسسات العمومية وإدارات الدولة. وجريدة «المساء» كانت سباقة إلى إثارة التعفنات. وإذا كان بعض المسؤولين لا يقبلون العمليات الجراحية، فإن التشريح الدقيق أثبت وجود أورام خبيثة ينبغي استئصالها بأي ثمن . ادعاءات النيابة العامة في قضية «رشيد نيني» تبدو ملتوية ويعوزها الأساس القانوني وينقصها التعليل الموازي لانعدامه، لأنها أدانته قبل صدور حكم المحكمة، فانتفاء حالة التلبس والأمر بالاعتقال بشكل متسرع لمجرد التعبير عن وجهة نظر معينة وعدم متابعة الظنين في حالة سراح وإغلاق الحدود في وجهه، كل ذلك يجعل من استقلال القضاء مجرد شعار مزيف يسخر للاستهلاك الإعلامي ولم يبق أمامهم إلا تجريده من حقوقه المدنية والسياسية . المس بأمن الدولة الداخلي والخارجي ونظرية المؤامرة، كلها تهم عرجاء تنم عن التوظيف السياسي لترهيب الإعلام الحر والنزيه . إن الدولة القانونية لا تبحث عن مصادر الخبر بقدر ما تبحث عن مصداقيته وصحته، كما تبحث عن مصادر الثروة وتفعل إجراء من أين لك هذا وتحقق في الإثراء بدون سبب والإثراء غير المشروع، وتفتح تحقيقات واسعة النطاق لصون المال العام من عبث العابثين وليس الزج بالصحافيين في السجون. وأنا أحرر هذا المقال سألني شيخ طاعن في السن عن محتواه فشرحت له مضامينه، فأجابني بحكمة نادرة : «ماڭلست العمشة على كحلها غير تهناو» محمد خمريش - أستاذ القانون العام/ كلية الحقوق السويسي- الرباط