سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رضوان الطويل : الرشوة تتغذى من غياب مشروع تنموي يؤمن توزيعا مناسبا للحقوق و الواجبات الاقتصادي المغربي قال للمساء إنه عند قراءة تقرير المجلس الأعلى للحسابات تبدو الرشوة شريكا لممارسة السلطة
تحيل الشعارات التي رفعت في الفترة الأخيرة في المغرب وإعلان النوايا الذي عبرت عنه السلطات العمومية إزاءها عن رغبة في إضفاء نوع من الشفافية على الممارسة الاقتصادية والاستجابة للمطالب التي تحقق السلم الاجتماعي، غير أنه بعيدا عن تلك الظرفية الحالية، يطرح التساؤل حول مدى نجاعة السياسة الاقتصادية التي انخرط فيها المغرب ومدى الانخراط في مشروع تنموي يحقق هدف المساواة في الحقوق والواجبات... تلك أهم النقاط التي نحاول أن نقاربها في هذا الحوار مع رضوان الطويل، أستاذ الاقتصاد بجامعة مانديس فرانس بغرونوبل. - كيف نقرأ التعاطي مع البعد الاقتصادي بعد مطالب 20 فبراير؟ تظهر القضايا الاقتصادية بعد 20 فبراير على مستويين. فمن جهة، تؤكد هاته المطالب على العجز الاجتماعي الذي يتجلى في حجم البطالة، التي تصيب الشباب أكثر، وتفاقم الفوارق في المداخيل والممتلكات، التي يؤشر عليها اتساع دائرة فقر الإمكانيات والولوج إلى الصحة والتعليم. ويعكس هذا العجز الثمن الاجتماعي للسياسات العمومية على مستوى التشغيل والنمو والرفاه. هاته السياسات، التي تترجم بتوزيع التكاليف والامتيازات، يجب أن يتم تقييمها، بالنتيجة، من زاوية الحريات والموارد. منظورا إليه من هاته الزاوية، يبدو البحث عن الاستقرار الماكرو اقتصادي بعيدا عن تأمين المساواة في الفرص الاجتماعية وتوسيع الحريات الحقيقية. ومن جهة أخرى، تؤكد المطالب المعبر عنها على أهمية الرشوة في العجز الاجتماعي، على اعتبار أن الممارسات المرتبطة بالرشوة تشكل تعديا على المصلحة العامة لفائدة المصالح الخاصة ضدا على القانون، فسواء استمد أصحاب القرار سلطتهم من التمثيل الانتخابي أو التفويض، فهم يتصرفون من جميع المستويات كناهبين، ويستعملون السلطة العمومية من أجل تطويعها لرغباتهم الخاصة أو مصالحهم الفئوية على حساب القانون، و يستغلون المقتضيات الشكلية التي تؤطر القرارات العمومية طبقا لطموحاتهم الخاصة عبر تحريف القانون عن هدف خدمة المصلحة العامة. - هل هاته الاختلالات مردها طبيعة السياسة الاقتصادية أم نمو الحكامة السائد؟ يجب تحليل العجز الديمقراطي، الذي يميز المؤسسات العمومية، من زاوية السياسة الاقتصادية والرشوة، فبلورة السياسة الاقتصادية مطبوعة بإخضاع تحديد الأهداف والأدوات للخبرة الماكرواقتصادية، فالخبير يكلف بتوفير مبررات لاختيارات صاحب القرار السياسي، وهذا الأخير يعمل على شرعنة قراراته عبر توظيف مبادئ الإقناع عند عرضها على الساكنة. هاته المبادئ تعتمد على مجموعة من الحيل من أجل رفع التحكم في التضخم والعجز العمومي إلى مرتبة قانون لا مفر لصاحب القرار في السياسة الاقتصادية من الانصياع إليه، فعبارة مثل «الدولة يجب ألا تعيش فوق إمكانياتها»، التي توظف دائما من أجل تبرير نوع من التشدد الموازني، يتم إيرادها من أجل التأكيد على أن الحس السليم يقتضي التسليم بها. هاته العبارة تترسخ في الأذهان ويراد لها أن تكون نقيضا للسياسات الاقتصادية التوسعية، التي تقدم على أنها رديف ل«التبذير» و«التهاون»، بينما تقدم السياسات التي تقوم على نوع من التشدد على أنها رديف ل«الدقة» و«التطهير» و«وضع النظام في السياسة العمومية». - ما الذي يعطي لمثل هذا الخطاب حضوره القوي في المغرب؟ انتشار خطاب الاستقرار الماكرواقتصادي يستمد مبرراته من سلطة تقدم على أنها ضامنة لصحته. فهذا الخطاب يشكل جوهر نظرية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هاتان المؤسستان تؤكدان على ضرورة التزام نوع من السلوك الموازني، الذي يشدد على محاصرة العجز والتحكم في التضخم الذي تعتبرانه شرا مطلقا، وبالتالي يتم التعامل مع كلمة الخبير كما لو كانت وحيا منزلا. ويتعاضد تحليل الخبير وخطاب صاحب القرار العمومي، حيث يقدمان الصرامة الموازنية باعتبارها السياسة الوحيدة الممكنة عبر ترديد عبارة «لا يوجد بديل آخر». هذا خطاب منتشر بشكل واسع من أجل رفع التحكم في المالية العمومية والتضخم إلى مرتبة القانون مثله مثل قانون الجاذبية. - وما الذي يترتب عن ذلك؟ ضمن هذا السياق، يتم تقليص ممارسة الحقوق الديمقراطية، وهذا يتجلى في ثلاثة أصعدة: أولا، تفلت السياسة الاقتصادية من النقاش العقلاني والنقدي، فالاختيارات النقدية والموازنية لا تتمخض عن نقاشات يحدد المشاركون فيها تلك الخيارات على أساس مبدأ الرفاه الاجتماعي. والملاحظ أنه خلال مختلف الاستشارات الانتخابية لم تثر السياسة الاقتصادية تساؤلات مهمة، إذ أن اللعبة الانتخابية يتم الانخراط فيها، كما لو أن الخيارات النقدية والموازنية ليست لها رهانات سياسية. ثانيا، لا تقدم مبادئ بلورة السياسة من قبل الخبراء ضمانات ديمقراطية، فاستقلالية اختيار الأهداف يترتب عنها انتفاء إمكانية القيام بأي رقابة من أجل تفادي القرارات التي تضر بالرفاه الاجتماعي. وأخيرا، يعتبر صاحب القرار السياسي، عبر البحث عن مصداقية قراراته، أن معيار المشروعية الأول يتمثل في الحصول على رضى المنظمات الدولة وليس ضمان تقبل السكان لآثار تطبيق تلك القرارات.فعند قراءة تقرير مجلس الحسابات نتوصل إلى خلاصة أساسية، مفادها أن الرشوة شريك ثابت لممارسة السلطة، التي تحد بشكل قوي من ممارسة الحقوق الديمقراطية. وفي غياب الضغوط من أجل فرض احترام القانون، يتم تقليص ممارسة المواطنة، خاصة أن الرشوة تضر بالمواطنة المدنية، فشراء الأصوات وتبادل التأثير لنفوذ مقابل منافع فردية، يجعلان ممارسة الحقوق المدنية سوقا لتبادل المنافع والتأثير السياسي من قبل رجال سياسة يعملون من أجل إخضاع السلطة العمومية لرغباتهم أو مصالحهم الفئوية. والنتيجة أن ممارسة المواطنة تنحرف، فتختزل الانتخابات في صراع تنافسي من أجل تدبير الشأن العمومي، حيث تغيب الرهانات في البرامج، مما تنجم عنه، غالبا، العلاقات الزبونية والولاءات التي تقوم على توزيع ثمار الممارسات القائمة على الرشوة. وتنال الرشوة من المواطنة الاجتماعية، فخرق القانون على مستوى مدة الشغل وشروط الشغل والحد الأدنى للأجور والولوج إلى الخدمات الصحية مقابل الرشوة... كلها خروقات تجيزها السلطات العمومية، فالعجز الديمقراطي الناجم عن انتشار الرشوة يتغذى من غياب مشروع تنموي كفيل بأن يؤمن توزيعا مناسبا للحقوق والواجبات ويدمج الحريات الأساسية وممارسات تجليات المواطنة. - في النقاش الحالي حول الشأن الاقتصادي يتم التأكيد على ترسيخ حقوق المنافسة وفصل الثروة عن السلطة. كيف تابعت هذا النقاش؟ الطريقة التي تطرح بها هاته القضايا لا تبدو في نظري سديدة. أولا، التشدد على مبدأ المنافسة يعني التنافس بين المصالح الاقتصادية المهيمنة، على حساب رؤية شاملة لحقوق جميع شركاء علاقات المقاولة. ثانيا، يقوم هذا المبدأ على مرجعية تفترض أن المقاولات من ذات الحجم تفضي المنافسة فيما بينها إلى الرفاه الجماعي لجميع الفاعلين، غير أن هاته الصورة تدحضها بنية سوق الأنشطة الإنتاجية والمالية التي تقع في جزء كبير منها تحت احتكار القلة. وأخيرا، يحيل الحديث عن سلوكات ريعية على تعريف غير متناغم للريع الذي نجد فيه ريع الاحتكار والريع الناجم عن الحصول على امتيازات وريع المال المرتبط بممارسة السلطة. والحال أنه لا يمكن محاربة سلوكات دون تحديدها بشكل دقيق. وأتصور أن دراسة مسألة المنافسة تعتبر جزءا من دراسة مسألة الرشوة، باعتبارها نظاما من قواعد السلوك والتمثلات الجماعية للمؤسسات، التي تؤطر العلاقات بين ممثلي السلطات العمومية والفاعلين الخواص وبين هؤلاء الأخيرين أنفسهم. ذلك أن الأفراد يعتبرون منح امتياز غير مستحق من أجل الالتفاف أو خرق القانون أمرا ضروريا. هاته الخروقات القانونية تترتب عنها بعض السلوكات التي تظهر في الممارسة وكأن لها منطقها الخاص المستبطن من قبل الأفراد. ويتم تأبيد تلك الممارسات عبر التصورات والمعتقدات، التي تهم لعبة المصالح بين الأطراف المتواطئة في علاقة الرشوة. فالرشوة تستمد شرعيتها من عدم احترام القانون. - ما السبيل إلى محاربة تلك السلوكات؟ أي مخطط لمحاربة الرشوة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الطابع النسقي لهاته الأخيرة، وبالتالي، يجب أن يستند على تطبيق القانون وأسبقية القاعدة القانونية في جميع المجالات. هكذا لا يجب أن تقيم تمييزا بين الرشوة الصغيرة والرشوة الكبيرة، فالرشوة في تدبير الشأن العمومي وخرق القانون الضريبي وقانون الشغل والقانون التجاري... تعتبر من طبيعة واحدة. هكذا يفترض أن تطبق القوانين والرقابة القانونية بشكل غير منفصل، وتعتبر «المحاسبة»، كما العقوبات، مبادئ أولية على هذا المستوى. ويبدو لي أن الوقاية من تنازع المصالح، التي يتوجب أن تكون مقتضى دستوريا، ضرورية من أجل تفادي التشابك غير المشروع بين الحقوق والامتيازات المتحصل عليها في الفضاء السياسي وكذا الامتيازات المتحصل عليها في الفضاء الاقتصادي. إذ يجب الاختيار بين المحفظة السياسية والمصلحة العامة، وبين المحفظة السياسية والمصلحة الخاصة. - يبدو أن رفع الأجور من المطالب التي عادت بقوة في الفترة الأخيرة والتي عبرت الحكومة عن استعدادها للتعاطي معها.
ثمة اتجاهان متعارضان برزا في المغرب عند تناول مسألة الزيادة في الأجور، فهناك الرأي الذي يعتبر الزيادة في الأسعار وسيلة لتحسين وضعية الأجراء، وهناك الرأي الآخر الذي يرى أن الزيادة في الأجور أمر غير مستحب بالنسبة للتنافسية. وإذا ما درسنا مسألة الأجور من زاوية معايير الإنصاف والفعالية، فإن مطلب الزيادة في الأجور لا يمكن التعاطي معه بأنه أمر غير جيد. إذ أن بعض التقديرات في المغرب تشير إلى أن الأجور في الوظيفة العمومية ارتفعت ب 35 في المائة بين 2004 و2010. غير أن هذه التقديرات ليست دقيقة ولا تعكس الحقيقة، على اعتبار أنها تدمج الانخفاضات التي عرفتها معدلات الضريبة في السنوات الأخيرة، ويبدو أن ارتفاع الأجور يمكن رده أساسا إلى ارتفاع معدل التأطير في الوظيفة العمومية. وبالتالي، فالزيادة في الأجور تساوي بالكاد معدل التضخم الذي يصل في المتوسط إلى 2 في المائة في السنة وليس 5 في المائة كما تدعي تلك التقديرات. - وما هي الشروط التي يمكن أن تؤدي إلى الزيادة في الأجور؟ الشروط التي يمكن أن تفضي إلى الزيادة في الأجور متعددة. أولا، وعكس الفكرة السائدة، لا تبدو هوامش رفع الدين العمومي ضيقة، حتى بالنظر إلى معايير صاحب القرار الاقتصادي نفسه، فمعدل المديونية منخفض ب10 في المائة عن المعدل الذي يعتبر سقفا لا يمكن تجاوزه. ثانيا، من شأن رفع الأجور أن يؤدي إلى الزيادة في الطلب والمداخيل. وأخيرا، لن يكون خطر التضخم مهما. ويجب أن نشير إلى أن ارتفاع الأسعار في الوقت الحالي يعود إلى التضخم المستورد، وبالتالي، إذا ما كان ثمة تضخم ناجم عن عوامل داخلية، فسوف يكون جيدا للنشاط. وفيما يتصل بالرأي القائل إن ارتفاع الأجور يكبح تنافسية المقاولات، فهذا رأي قابل للنقاش، وهو يعبر عن تصور تتعارض فيه المصالح بين الأجور والمقاولات، التي تنظر إلى الأجر على أنه كلفة حاسمة في التنافسية في الأسواق الخارجية، والحال أن التنافسية رهينة بالتكوين والتعلم وعقود الإنتاجية والتجديد، وهي عوامل لا تستحضرها العديد من المقاولات التي تعول في تنافسيتها على مستوى الأجور. - ما هو المسكوت عنه في النقاش الحالي حول شكل الاقتصاد الذي يريده المغرب؟ بمجرد الإعلان عن مشروع مراجعة الدستور، تتالت المواقف، التي ركزت على إعادة تحديد اختصاصات المؤسسة الملكية والحكومة وجهاز القضاء، فالأهمية التي أعطيت لمسألة توزيع السلط على حساب إشكالية الحقوق تفترض أن توسيع مجال الديمقراطية رهين بإصلاح المؤسسات، ويسكت عن الانفصام الظاهر بين روح القوانين والواقع وشروط ممارسة المواطنة. فمثل هاته المقاربة لا تسكت عن الديمقراطية باعتبارها حالة اجتماعية. وبعيدا عن تحديد مجال السلط الذي يكرس استقلاليتها، تحيل الديمقراطية على ذلك التشابك بين الحريات والمساواة المدنية والسياسية والاجتماعية. فإذا ما أمعنا النظر في مفهوم التنمية البشرية، نلاحظ أنه يستعمل كديكور أو يختزل في محاربة الإقصاء عن فئات من الساكنة. هذا التعاطي مع التنمية البشرية يخفي حقيقة مفاده، أن التنمية البشرية مسلسل مرتبط بالحريات والعدالة الاجتماعية والنجاعة الاقتصادية. فالتنمية البشرية تحيل على تساوي قدرات الأفراد، وهي تشترك على هذا المستوى مع الديمقراطية، مما يعني أنه يتوجب منح التنمية البشرية مركزيتها في الخيار المؤسساتي، باعتبارها مسلسلا في خدمة الحريات الحقيقية.