كم هي كثيرة القضايا التي يتم فيها الحسم على ساحة الذاكرة، منعا للنسيان وضمانا لعدم التكرار، وكم هي كثيرة أيضا القضايا الآنية التي تزيدها المعرفة بالذاكرة تعقيدا وخطورة، خصوصا عندما نكون مفعمين بالانفعال الناجم عن التغليط والطمس لجزء نعتقد أو نحسب أنه مهم من ذاكرتنا.. فالبحث في الذاكرة ليس سردا شفافا لأزمنتها أو كرونولوجيا تقتفي أثر الاكتمال، بل هي أساسا بحث مشروع عن الإنصاف والاعتراف.. إن الذاكرة لا تعلمنا حقائقَ محدَّدةً فيه تحيل الأفراد على التضاد، فهي تحيل على ما يسعدهم وعلى ما يتعسهم، على ما يفخرون به وما يخجلون منه.. فمهما كانت عدتنا المنهجية في هذا البحث دقيقة، يبقى لعنصري الوجدان والانتماء نصيبهما الأوفر في ترجيح هذا التأويل أو ذاك، لذلك ففحص موضوع الذاكرة هو مناسبة لطرح الأسئلة بما تستلزمه أدوات العصر الحالي من عُدّة لقراءة هذه الذاكرة واستنطاقها، فتكون لدينا الشجاعة لنقول ما كان لنا ونسعى حثيثا إلى تعزيزه، وما كان علينا فنسعى -نحن المفعمين بروح عصرنا- إلى تجاوزه، متصفين بشجاعةِ أمم تعاصرنا، أبت إلا أن تكتب تاريخها وفق منطق حاضرها، فأضحت بذلك أمة لها ماض، بدل أن تكون أمة تُخدّر وعيها بماضيها وأمة لها ذاكرة، بدل أن تكتفي باجترار هذه الذاكرة لتهييج تخيلاتها، وأخيرا أمة لها تراث، بدل أن تكون أمة تراثية مغرقة في أوهام تميزها. وبين هذا وذاك، تتناسل الأسئلة والإشكالات، منها ما هو متعلق بعلاقتنا بالدين واللغة والقيم والسياسة، ومنها ما هو متعلق بالعلاقة مع الآخر، في اختلافه عنا، لا في إرغامنا إياه على التّشبُّه بنا... المغاربة وذاكرتهم الجماعية هل صحيح ما يقال عن المغاربة من أنهم ينسون وأن ذاكرتهم عن ماضيهم قصيرة؟ سيفرض علينا شق كبير من إجابتنا عن السؤال الخوضَ في عوامل السياسة وما يرتبط بها من رهانات سنقف عندها في ما سيأتي، لكنْ قبل ذلك، نشير أيضا إلى ما تتعرض له الذاكرة الجماعية للمغاربة -من طرف المغاربة أنفسِهم- من تهميش وعدمِ تقدير، وكم يصعب، ونحن نرى التهميش الذي تتعرض له مآثرنا التاريخية من طرف أبناء الشعب، تحميلُ كل المسؤولية للدولة، لِنزُرْ ضريح يوسف بن تاشفين في مراكش والقصبة الإسماعيلية في قصبة تادلة ونتجه رأسا إلى مآثر فاس ومكناس لنرى المغاربة «يفعلون» على مآثرهم! ومن ثمة على ذاكرتهم!... الوجه الآخر لعلاقتنا بالذاكرة الجماعية هو تجزيء واختزال المخزون الثقافي المغربي، الغني والمتنوع، في كليشيهات محكومة بدوافع غير ثقافية، وخاصة التجاري منها، مثل اختزال الثقافة الأمازيغية في الخيمة وأحيدوس، واختزال الثقافة الحسانية في جلسات الشاي، واختزال الأدب الشفهي عموما في «الشيوخ والشيخات» ومهرجانات الرقص كيفما حصل، فبعض الفاعلين في حقول هذه الثقافات السابقة يحسبون أنهم يُحْسنون صنعا لثقافتهم، في حين أنهم يسيئون إليها. إن من لا يعيش في خيمة ومن لا يعرف أحيدوس وغيره من مظاهر الثقافة الأمازيغية الأصيلة من الأمازيغيين أنفسهم لا تعتبر الأمازيغية بالنسبة إليه ثقافة بل فلكلورا، فالثقافة الأمازيغية يعيشها الناس بعفوية، وهذا توضيح مهم سبق للأستاذ العروي أن وقف عنده بتفصيل في كتابه الشهير «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، لأن هذه المقاربة «الإحيائية» للثقافة الأمازيغية غالبا ما تحكم أصحابها عواطف ووجدانات أقرب إلى ردود الفعل منها إلى الفعل، فيعتبرون تنظيم مهرجان للأغنية منتهى الثقافة، في حين أن الفن مجرد تعبير من ضمن تعابير كثيرة لا يعرفها أغلب منظمي هذه المهرجانات، وما أريد التأكيد عليه هو أن أخطر ما يواجه الذاكرة الجماعية هو جهل أصحابها بها... لِنَقُم بزيارتين لمكانين مختلفين، لنتبيَّن ضعفنا في صيانة ذاكرتنا بل وإساءتنا إليها، نبدأ أولا بزيارة واحة من واحات الراشدية أو ورزازات ونستقرَّ في إحدى القصبات التي حولها أصحابها إلى منتجعات، حيث سنقف عند حقيقة ما أشرنا إليه سابقا، وهو التوظيف التجاري الخالص للذاكرة، إذ نجد تعمدا لتأثيث الفضاءات بمنتوجات يقول أصحابها إنها عريقة، لكن الخلفية التسويقية تبقى العاملَ المحدد، فتجد الفرق بين الغرف في الأثمنة ليس في الخدمات المقدمة بل في «قيمة» الأثاث التراثي الموجود في الغرفة، وهو أثاث غير صالح للاستعمال، بل هو صالح للتزيين فقط، وعندما نصل إلى ورزازات -المدينة أو الراشدية-المدينة، فإنهما لا تختلفان عن باقي المدن المغربية الساحلية أو الداخلية، حيث يقتل التشابه هوية المدينتين، ولا شيء يشير إلى ثقافتهما التي وجدناها في الفنادق والمنتجعات السياحية... بعد هذه الرحلة، لِنزُرْ مدينة إشبيلية الإسبانية، وهي الأقرب إلينا ثقافيا، حيث إن أول شيء يستوقفك وأنت تستقر في فندق هو أن ثمن الغرفة محدد بنوعية الخدمات، ثم بعد أن يستقر بنا المقام في الغرفة، فإننا لن نجد ما يجعلنا نقول إننا في إشبيلية أو إسبانيا عموما، ما عدا النسخة الاسبانية للإنجيل قرب السرير، لكنْ أين ثقافة المدينة؟ أين ذاكرتها الممتدة لقرون طويلة جدا؟ إنها شامخة في الساحات العامة وفي عمران المدينة، في تشعبات شوارعها، في الأطعمة واللباس.. الذاكرة الجماعية لا تُسوَّق للزوار بأقل ثمن في غرف نومهم، إنها هناك، تُجبرك على فهمها وسبر أغوارها، في المتاحف المفتوحة على مدار الساعة، في الأوبرا التي تحتفل بأمجاد الذاكرة، لذلك قد نشعر بالغرابة حقا إنْ لم نكن نعرف الإسبانية. أما عندنا، فالسائح الاسباني الذي نعرض عليه ذاكرتنا بطريقة فلكلورية في غرفة نومه، غير مضطر لأن يتعلم لغتنا، بل تجد المرشدين وأصحاب الفنادق يتكلمون بلغته.. وهذا هو الفرق بين شعب صان ذاكرته وشعب يُسوِّقها ويتاجر بها... من البديهي القول بالحاجة الملحة اليوم إلى تحسيس المغاربة بأهمية الاهتمام بذاكرتهم، في اتجاه معرفتها أولا، ثم لصيانتها، خصوصا أن التحولات المجتمعية المتلاحقة أصابت المغاربة بما يشبه انفصالا عن ذاكرتهم، أو ربما هي الرغبة اللاشعورية في النسيان، قصد صقل الذاكرة الجماعية وتعريف الأجيال الجديدة بمزايا الحفاظ على هذه الذاكرة وخطورة محوها أو تشويهها، لذلك فالعمل جبار وشاق، على ألا نكتفي بتاريخ الكليشيهات، كما يُدرَّس في مدارسنا، من قبيل «فلان باني الدولة كذا أو فلان باني الصومعة كذا»... فهذا هو التشويه ذاتُه، بل تكون هذه اللحظة فرصة لنا لأن نفكر بمنطق انتمائنا المتجذر في الحاضر، فيما لم يتسنَّ لأسلافنا -على مدى القرون التي تمتد فيها ذاكرتنا- أن ينجزوه أو حتى أن يفكروا فيه. ولعل أهمَّ ما يمكن اعتباره داعيا علميا لرؤية كهذه هو أننا، حتى اليوم، لم ننفصل بعدُ عن الإشكالات السياسية والاجتماعية والثقافية المرافقة لاستعادة ذاكرتنا، لكوننا لا نتذكر إلا لنقصي، ولا ننسى إلا لنطمس... الذاكرة الجماعية وإلحاحية التأويل السياسي احتفل المغرب الرسمي في السنة الماضية بمرور ما اعتبره إثني عشر قرنا من تاريخ تأسيس المملكة، فبغض النظر عن مدى دقة هذا التأريخ، يبقى علينا التساؤل هل كانت اثنا عشر قرنا من تاريخ المملكة السعيدة تاريخا واحدا تحكمه الوحدة والاتصال، أم كان تاريخ قطائع، هي قطائع القلاقل والثورات السياسية؟ وكيف ينبغي تعزيز عوامل الاستقرار، المتمثلة في احترام قيم التسامح والاختلاف والتعدد، والتي لم تكن متوفرة دائما في تاريخنا والتي هي شرط تعايشنا اليوم؟ ثم الأهم: كيف ننقل الاحتفال بماضينا إلى لحظة لتعزيز انتمائنا إلى حاضرنا؟ لقد كانت هذه الأسئلة بمثابة الفريضة الغائبة في الطريقة التي احتفلت بها جمعية 0021 سنة بتأسيس مدينة فاس، حيث تم ضخ ملايير السنتيمات في حساب هذه الجمعية وتم هدر هذه الملايين بطريقة عشوائية في السهرات والاحتفالات فارغة المحتوى والبعيدة عن الاحتفال الحقيقي بتاريخ إشكاليّ وعريق، كتاريخ المملكة، وتم «اختزال» هذه المناسبة في قافلة تختصر تاريخا عظيما في الفلكلور، بطريقة تعكس نظرة كولونيالية إلى الثقافة المغربية، بميزانية ضخمة استفاد منها فرانكفونيون لا يعرفون حتى من أسس مدينة فاس.. فاس، التي تتداعى أبنيتها القديمة على رؤوس سكانها، فاس، التي كانت مهدا للعلم وصيّرها التجاذب السياسي مختبرا ل«تفريخ» ساسة من جنس جديد... أسئلة كثيرة تطرحها طريقة احتفالنا بتاريخ شعب بأكمله، إنها تعطينا درسا مهما عن ضرورة مناهضة فئة تتهافت على المناسبات والاحتفالات، دون رؤية، وتحتكر الحديث باسم المغاربة، بينما كانت مناسبة بهذه الضخامة فرصةً لنا لأن نفكر بمنطق انتمائنا المتجذر في الحاضر، فيما لم يتسنَّ لأسلافنا، على مدى اثني عشر قرنا، أن ينجزوه أو حتى أن يفكروا فيه. ولعل أهم ما يمكن اعتباره داعيا علميا لرؤية كهذه هو أننا، حتى اليوم، لم ننفصل بعدُ عن الإشكالات الرئيسية المرتبطة بتاريخنا، كالإشكالات السياسية والاجتماعية والثقافية... إن فهم الإشكال السياسي مثلا، الذي تطرحه الأنظمة السياسية المتعاقبة على مدى اثني عشر قرنا، يمكن أن يكون فرصة ذهبية لنا اليوم لوضع أسس ممارسة سياسية جديدة كليا، تعتمد الانتماء إلى الوطن على حساب الانتماء إلى عرق أو مجال أو ثقافة أو لغة، في تمتيع المواطنين بحقوقهم، وتعتمد السيادة للشعب على حساب سيادة القبائل والعائلات المقنَّعة بحجاب الحزبية والنقابية، والتي هي أصل كل فساد... لذلك، فهو رهان يخص النظام، كما يخص المجتمع المدني والأحزاب السياسية، ويخص هؤلاء، تماما كما يهم هذا الشعب العظيم، يهم النظام عندما يُقْدم على تنازلات شجاعة في قضايا دستورية تعرقل اليوم مسيرة التنمية الحقوقية والسياسية والاقتصادية الحقيقية، ويهم المجتمع السياسي والمدني عندما سيقدم على خطوات جريئة في سبيل إرساء الديمقراطية الداخلية والشفافية في تدبيره للشأن المحلي الذي يتولاه في هذه الجهة أو ذاك الإقليم، وهذا المنطق الذي يحكم الطرفين ينبغي فهم إلحاحيته، فمن جهة النظام، فإن عدم ضمانه استقلاليةَ القضاء وحقوق الإنسان والسيادة للقانون وتساهله مع قضايا الفساد وعدم جديته في تصفية ملفات انتهاكات حقوق الإنسان وغيرها من القضايا هو بمثابة الدعم المباشر لثقافة العدمية، المعادية لقيم الانتماء إلى هذا الوطن... لذلك، فالمسألة تفترض بشكل صريح تعاقدا شجاعا بكل ما يحمله مفهوم التعاقد من معنى، إنه يعني الإشراك والاعتراف بالتواجد والحق في الإشراك: الإشراك في السلطة والإشراك في الثروة والإشراك في المواطنة، فإذا كان يحلو لنا اليوم أن نعلن للأمم عراقة ماضينا، فكم هو أولى أيضا أن نعلن فيهم أيضا انتماءنا العميق إلى حاضرنا، وهذا الحاضر هو لدولة الحق والقانون والمؤسسات، هكذا يجب أن يقرأ ماضينا، نقرؤه لأننا منفتحون على أحسن ما في حاضرنا، وهو سياسي طبعا وقطعا، دولة الحق والقانون والمؤسسات والسيادة للشعب، ولا نعرف لها من عنوان غير العنوان الذي طرقته أمم أمثالنا، عندما ولجوا المعاصرة بقراءات عقلانية وعلمية لتاريخهم، فكان من أمرهم ما أبهر العالمين.. ترى، هل سننجز اليوم ما يمكن لحفدتنا مستقبلا، وهم يحتفلون بثلاثة عشرة قرنا أو يزيد من تاريخ مملكتهم، أن يفتخروا بنا؟ سؤال سيسجل التاريخ إجابتنا عنه في مطلق الأحوال.. ولحفَدتنا، بعد حين، حق الحكم على ما أضفناه إلى ذاكرتهم.