ليس بنعلي أول زعيم يسقط، ولن يكون الأخير: كثير من الحكام غادروا كراسيهم مكرهين، تحت ضغط الشارع، أو عن طريق انقلاب عسكري، أو ثورات دامية، تتفنن وسائل الإعلام في تلوينها، وربطها بالفواكه والزهور، كي تصير أجمل، رغم الخراب والجثث، الثورة الحمراء والخضراء والوردية، وثورة البرتقال والبنفسج والياسمين. صحيح أن محمد البوعزيزي لم يكن بائع ورد، ودور الزهور أقل من دور الخضر في أحداث تونس، لكن البصل أقل شاعرية من الرياحين، والمهم أن الدكتاتور سقط في النهاية، سواء ضربوه بالطماطم أو البيض أو الياسمين. من لويس السادس عشر إلى صدام حسين مرورا بنيكولا الثاني، آخر قياصرة الروس، وبينوتشي وتشاوسيسكو وشاه إيران الذي أطاح به الخميني وأمير قطر الذي أسقطه أمير «الجزيرة»... حكام كثيرون خلعوا من مناصبهم، غير أن لقب الرئيس «المخلوع» لم ينطبق على واحد منهم كما انطبق على زين العابدين بنعلي، ونتحدث طبعا عن «الخلعة» بمفهومها المغربي، التي جعلت الدكتاتور يهرول نحو المطار، بشكل فاجأ الجميع، كما يفعل أي لص هارب من الشرطة، الشرطة التي ظلت وفية لأوامره حتى النهاية، وتركها عرضة لانتقام المحتجين وهرب. عندما سمعنا بنعلي يقول لشعبه: «لقد فهمتكم»، ظن البعض أن الرئيس القصير كسب سنتمترات في الطول والفكر، وقد يتحول إلى دوغول عربي، يضحي بجناحه الأمني، وينظم انتخابات حرة، ويطلق الحريات، ويخرج كبيرا من السلطة. الأكثر ارتيابا رأوا في خطابه مناورة لتقسيم المعارضة، كي يستعيد زمام الأمور، لكن لا أحد فكر أن الدكتاتور، الذي نسجت حول جبروته الأساطير، مجرد إشاعة صدقها التونسيون، وكان يكفي أن يخرجوا إلى الشارع كي تبددها شمس الحقيقة. حتى حلفاء «صديقنا بنعلي»، وفي مقدمتهم فرنسا، صدقوا أن الرجل واثق من سلطته ورحبوا بخطاب الدكتاتور الأخير، داعين إلى مزيد من الانفتاح، قبل أن يفتح عليهم باب طائرته في باريس طالبا «ضيف الله»، وكاد ساركوزي يستقبله لولا أن رفاق البوعزيزي كانوا في انتظاره بالمطار، جاهزين ل»ضرب الطر» للضيف والمضيف، الذي اضطر إلى التراجع عن كرمه المكلف في آخر لحظة. رغم أن ملابسات الرحيل المفاجئ لم تتوضح بعد، فإن الطريقة التي استقل بها الطائرة تحت جنح الظلام، متخليا عن أقرب مساعديه، لا يمكن أن تصدر إلا عن شخص جبان. كثير منهم حاول الفرار، وبينهم مدير الأمن الرئاسي ووزير الداخلية، لكن كما يقول الشاعر: «وين الهربة وين...» أمسكهم الجيش، وهم يحاولون العبور إلى الحدود الليبية، وانتهوا في السجن كأي مجرمين. لو تركتها القوى الخارجية تتدبر أمرها، بإمكان تونس أن تشكل نموذجا فريدا للديمقراطية في الوطن العربي. معنويات الشعب مرتفعة، مثل معنويات الفرنسيين، بعد أن قطعوا رأس لويس السادس عشر عام 1793، وإلى اليوم مازالت فرنسا تستلهم قوتها من ثورتها. ومن حظ تونس أنها دولة صغيرة، بنيتها حضرية، وسكانها متعلمون، ونساؤها حصلن مبكرا على حقوقهن، وليست فيها تيارات إسلامية متطرفة... ما يؤهلها لأن تكون أول دولة ديمقراطية حقيقية في العالم العربي، إذا لم تتدخل القوى الكبرى، وتزرع فيها خلية إرهابية، تفتح الطريق أمام التدخل الأجنبي وتحولها إلى عراق جديد، لا قدر الله. على كل حال، قياسا إلى الثروات التي عرفها التاريخ، لم تدفع تونس فاتورة باهظة، لأن الرجل الذي أرهب الشعب طوال ربع قرن، يشبه صورته التي أحرقها المتظاهرون في الشوارع: «غول من ورق»!