ما الذي تستطيع قصور الثقافة أن تفعله أمام 120 ألف مسجد وزاوية في مصر؟ السؤال طرحه السيد فاروق حسني، وزير الثقافة، أثناء مناقشة أجرتها معه مجلة «روز اليوسف» في عددها الأخير (8/1). كان الحوار قد تطرق إلى ملف التطرف المثار هذه الأيام. وكان السؤال الذي وجهه رئيس تحرير المجلة إلى الوزير هو: لماذا انتصرت عليك مؤسسة التطرف؟ وهو ما رد عليه الوزير بقوله: قل لي من الأقوى في المجتمع: الخطيب الواقف على المنبر أم المفكر؟ ثم ألحق كلامه بالسؤال عن تناقض الأدوار بين قصور الثقافة والمساجد والزوايا. لم يكن السؤال استفهاميا بقدر ما كان احتجاجيا واستنكاريا، أراد به الوزير أن يعبر عن التضاد بين الدور «التنويري» الذي تقوم به قصور الثقافة، والدور «الظلامي» الذي تؤديه المساجد والزوايا. والجملة الأخيرة من عندي، لأن الوزير لم يستخدم هذه الكلمات، ولكن سياق حديثه أشار إليها ضمنا، فضلا عن أن ثمة خطابا عبر عنه نفرٌ من المثقفين يعتبر أن التدين هو المشكلة وهو التربة التي تستنبت التطرف. ولأحد كبار موظفي وزارته كتابات عدة ادعى فيها أن جريمة التدين زادت على حدها في مصر. وعبر آخرون عن ذات الفكرة حين زعموا أن «الوهابية» زحفت إلى العقل المصري واحتلت مساحة كبيرة منه. ويبدو أن تلك الأصوات أحدثت مفعولها في الأوساط الرسمية، حتى تردد أن وزارة الإعلام اتجهت إلى تخفيف جرعة التدين في برامجها. في أعقاب فاجعة التفجير التي حدثت في الإسكندرية. وإذا صح ذلك، فإنه يندرج ضمن الآثار الخطيرة للفاجعة التي وضعت الإسلام وتعاليمه والمتدينين على إطلاقهم في قفص الاتهام، وبات السؤال المطروح هو كيف يمكن التصدي لكل هؤلاء. وكما أن أهل الأمن والسياسة وجدوها فرصة للدفاع عن استمرار العمل بقانون الطوارئ. فإن فئات من الكارهين الذين يبغضون الإسلام وأهله انتهزوا الفرصة ذاتها لإضعاف الإسلام وإيغار الصدور ضده. رغم أن الوزير لم يستخدم وصف الظلامية في وصف خطاب المساجد والزوايا، فإن كلامه واضح في أن ذلك الخطاب يتناقض مع الخطاب الذي تتبناه قصور الثقافة. وأعطى انطباعا بأن ثمة معركة بين الطرفين. وهو منطق يثير الدهشة من ناحيتين. فالوزير أطلق اتهامه وتحدث عن جميع المساجد والزوايا في مصر دون أن يستثني شيئا منها. وهذا التعميم يعني أن وجود تلك المساجد والزوايا هو المشكلة، الأمر الذي يستدعي السؤال التالي: هل يكون الحل بإغلاقها لكي تتاح الفرصة كاملة لقصور الثقافة لكي تبث التنوير على راحتها؟ من ناحية ثانية، فإن المنطق والعقل يفترضان أن تتكامل الأدوار التي تقوم بها قصور الثقافة والمساجد، فلا تتنافى أو تتعارك، خصوصا أننا نتكلم عن حكومة واحدة تضم بين أعضائها وزيرا للثقافة مسؤولا عن قصور الثقافة ووزيرا للأوقاف قائما على أمر المساجد، والتكامل المنشود يعد من أبسط مقتضيات التنسيق بين الوزارتين. أزعم أن هيمنة الخطاب السلفي أو الوهابي على العقل المصري فرية خبيثة، فضلا عن كونها فضيحة ثقافية لماذا؟ هي فرية لأنها غير صحيحة، إذ رغم أن الخطاب السلفي اخترق الساحة المصرية خلال ربع القرن الأخير بسبب الفراغ الذي نشأ فيها والذي صنعته السلطة بأيديها، فإن ذلك الاختراق لا يمكن أن يوصف بكونه هيمنة. وإذا كانت هناك بعض القنوات الفضائية تبث خطابا سلفيا، ففي مقابلها عدد هائل من القنوات لا علاقة له بالسلفية، وأغلبها معاد لها. وهي خبيثة لأن الذين يتذرعون بهيمنة الخطاب السلفي يتخذون منه قناعا لملاحقة وإعلان الحرب على مجمل الخطاب الديني. تماما كما أن الأنظمة الاستبدادية اتخذت من الحرب ضد الإرهاب ذريعة لقمع كل معارضيها السياسيين وتصفيتهم. أما كونها فضيحة ثقافية فمرجع ذلك إلى أنه لا يجوز ولا يليق أن تصور مصر، بلد الأزهر وقلعة الاعتدال الديني في العالم الإسلامي، بحسبانها بلدا انهارت وسطيته واستسلم للفكر السلفي أو الوهابي، الذي يتراجع حاليا في السعودية، حاضنته الطبيعية والتاريخية. لي ملاحظتان أخيرتان، الأولى تتعلق بانصراف الناس عن قصور الثقافة وإقبالهم على خطاب المساجد والزوايا، إذ لا أعرف لماذا يعد ذلك انتصارا للفكر المتطرف، ولا يعد إعراضا عن خطاب قصور الثقافة وإشهارا لتهافته وإفلاسه. الملاحظة الثانية أن الوزير، وهو يتحدث، ظل نظره مصوبا نحو المسلمين المتطرفين ودعاة التكفير، فلا هو رأى مسلمين معتدلين ولا هو لاحظ أن ثمة متطرفين بين غير المسلمين. وهي مشكلة أن تكون تلك رؤية وزير في الحكومة، ومشكلة أكبر أن يكون الرجل وزيرا للثقافة.