يفصح الخطاب الرسمي للمؤسسة الثقافية بالمغرب، كما تؤكد أنشطتها، عن عجز في تقديم مشروع ثقافي يجعل مرجعيته وهدفه خدمة المجتمع والمشاركة في بناء مغرب حديث، بمؤسساته الثقافية والعلمية والتعليمية الحقوقية والنقابية والاقتصادية والدينية... لا بالشعارات الوهمية والتوهيمية بخدمة القراءة في المغرب من خلال تعيين أسبوع للقراءة في السنة، ويومين لحفظ الأشعار، ويوم للرسم قياسا على أسبوع العيطة وأسبوع الطريقة الحمدوشية، ويوم التحسيس بأهمية البيئة، وحفل توزيع قصص الأطفال في مقابل تهميش الكاتب والكتاب المغربي، وتعميم رسوم زيارة معرض الكتاب السنوي والموافقة على رفع أسعار الكتاب، ومجانية الولوج إلى قاعات «ثقافة الميوعة»، وانفتاح مهرجاناتها التي لا تحصى عددا على الساحات العمومية وملاعب كرة القدم وقنوات الإعلام العمومية، رغبة في جعلها السائدة والمهيمنة، وبالتالي تنميط مفهوم الثقافة. إن تنميط الثقافة وتقديم الفعل الثقافي على أنه ذلك الفعل الممسوخ الذي تختصره المؤسسة الثقافية الرسمية في المغرب -إذا جاز الحديث عن مؤسسة ثقافية- في مهرجانات تمييع وتبخيس قيمة فن الغناء والرقص لدليل على عزم هذه المؤسسة، بنية مبيتة، على إفراغ الفعل الثقافي بالمغرب من أي دور وفاعلية، عدا التعبير عن التخلف والجهر بالكبت والإعلان عن مواسم وأسابيع تبذير أو تضييع الوقت. وفق هذا الاعتقاد، يصير كل مثقف ينخرط في ما تعتبره هذه المؤسسة نشاطا ثقافيا أو انشغالا بخدمة الثقافة جزءا من أزمة الثقافة بالمغرب لا سبيلا وحلا وعلاجا للأزمة، لعدم إدراكه أو عدم انتباهه لمغلوطية (أو القصدية في تغليط) مفهوم الثقافة الذي تشيده وتروج له هذه المؤسسة. ولعل سياسة التنميط الثقافي التي تخصص لها الميزانيات الوزارية ملايين الدراهم، ويتدفق عليها التمويل بدون حساب، وتتجند لمتابعة بهرجتها، بدعمها والدعاية لها، القنواتُ السمعية والسمعية البصرية وشركات التواصل والاتصال وحملات الصحافة المكتوبة من جرائد ومجلات تختلف أحجامها وأنواعها ولغاتها من الخاصة بنقل شطحاتها إلى المخصصة للعدد أو البرنامج، (هذه السياسة) هي نتيجة تخوف نابع من إدراك راسمي معالمها وواضعي خطاطاتها من أن الفعل الثقافي المجتمعي المنشود الذي يحمله ويرعاه المثقف العضوي بالمغرب هو عينه المشروع المجتمعي، الذي يخدم مختلف طبقات المجتمع وفئاته والمؤمن بأن الثقافة ركيزة كل تقدم مجتمعي وأن ما يميز المثقف عن فقهاء دواوين وزارة استغلال وإجازة بل وفرض (بالمدلول الفقهي للفرض) فصل الثقافة عن السياسة وهذه وتلك عن الاقتصاد، هو وعي المثقف بدوره الاجتماعي والتاريخي في صنع أفكار وتجديد آليات التفكير في ما يخدم البشرية ويمثل قيمها وأخلاقها ومعتقداتها ويعبر عن همومها وطموحاتها التي تعود جذورها إلى عمق المجتمع الذي يشكل كلا واحدا لا تنفصل فيه الثقافة والسياسة عن الاقتصاد. إن المغالطة القائمة في تصور ووعي السياسي والاقتصادي والمثقف نفسه، والمواطن المغربي والعربي عموما، حول مفهوم المثقف والثقافة كامنة في اعتبار الأول (المثقف) حاملا ومحصلا للمعرفة أو المعارف والناقل لها إلى غيره، ومنتهى هذا التصور أن يصبح المثقف متأملا يقول حكما (لا أن يصير حكيما) وأمثالا تتناقلها الأذهان أو الكراسات. وليس المثقف، في اعتقاد هذا الفهم، صاحب قضية وحامل مشروع -يتأسس على وعي اجتماعي للأشكال الثقافية المتعددة والمتنوعة، المختلفة والمتماثلة، للبنية الثقافية لمجتمعه- يدافع عنه بمعارفه في الثقافة (بمفهومها الواسع) المحلية والكونية، يقينا منه بأنه عنصر فاعل، بل عقل الأمة ومنتج أفكارها. أما الثقافة فهي، في عرف المواطن المغربي، غناء ورقص عبيدات الرمى وما تقدمه فاطنة بنت الحسين والحاجة الحمداوية وما تركه أجدادنا من طقوس مواسم الخيل وما تقدمه فنانات وفنانو العيطة، من كلمات وأشكال، وأجساد الفنانات المشرقيات والمغربيات وكذا الغربيات. وكل ما قيس على ذلك فوازاه هو ثقافة وزارة ثقافة مغرب اليوم. وإذا كنا لا ننكر أن من الثقافة ما يقدمه عبيدات الرمى في أشكاله الحضارية المحترمة وما ورثناه عن الأجداد من فنون العيطة وركوب الخيل، فإننا نفهم من مفهوم الثقافة أيضا تفكيرا في المجتمع وتحليلا لبنياته المختلفة وتوحيدا لأنساقه وطبقاته المتباينة والمتفاوتة سعيا إلى تشكيل نسيج اجتماعي واحد قادر على دفع مؤسسات مجتمعه نحو التقدم والرقي. ليس يختلف في شيء مغرب اعتقال المثقف وسجنه وفرض الرقابة على منتوجه الثقافي بالأمس، عن مؤسسة ثقافة المغرب اليوم، فهذه الأخيرة لا تعترف بالمثقف المغربي بل تبذل الجهد ما استطاعت لتهميشه وإقصائه. إن خدمة الثقافة لا تكون إلا بالاهتمام بدور هذه الثقافة التي باتت خرابا لا يزورها إلا العامل فيها، وذلك بزيادة عددها وتجديد بناياتها وتفعيل الأنشطة في قاعاتها، وكذلك دور الشباب والمركبات الثقافية والخزانات البلدية، وتشجيع الانخراط في برنامجها الثقافي، وإغناء مكتباتها التي ما إن تنظر في رفوفها حتى تعتقد أنك في زمن قبل زمن بني العباس، وتحفيز المختبرات والنوادي والجمعيات والمقاهي التي لها هم وحس خدمة الثقافة، ودعمها ومتابعة أنشطتها، وكذا خلق شراكات مع المؤسسات التعليمية والجامعات، وتسطير برنامج التفكير في طرق وآليات تنمية الثقافة المغربية واستثمارها، ونفض الغبار عما تبقى من الكتب في المساجد العتيقة بإعادة تقديمها إلى العموم، وإغناء مكتباتها في إطار عقود شراكة مع وزارة الروائي والمؤرخ أحمد التوفيق التي ليست بريئة ولا بعيدة عن أزمة الثقافة بالمغرب، ناهيك عما للحفاظ على المسارح، بدعم عروضها وتفعيل ورشاتها، من إحياء دورها في صناعة الفنان المغربي. ويأتي الاهتمام بالمثقف المغربي في مقدمة دور وزارة الثقافة بدعم مشاريعه ماديا ومعنويا، وتخصيص منح وجوائز للمثقف والكتاب المغربي، والاهتمام باللغة العربية، بحثا ودراسة، لكونها موطن وجسد الثقافة ومسكنها. ولن يتم هذا ما لم تكن ثمة إرادة سياسية حقيقية لخدمة الثقافة وجرأة للاعتراف بأنها هي محرك كل تغيير اجتماعي عقلاني ومتقدم. يتعين على كل من يغار على الثقافة بالمغرب أو يهمه أمرها أو أقصى من ذلك أو أقل أن يشارك برؤاه وتصوراته واقتراحاته لإيجاد حلول بديلة تخدم غد الثقافة بالمغرب، وأن يدلي برأيه في سياق إحصاء مظاهر الأزمة والعطب في الفعل الثقافي المغربي وتشخيص علاته والانخراط في احتجاج المثقف المغربي الذي يؤطره ويدعو إليه منذ ما يقارب السنة أو يزيد المرصدُ المغربي للثقافة برئاسة شعيب حليفي، بغاية الوصول إلى تصور المثقف المغربي (الجمعي) للثقافة وعقلنة وتحديث مؤسساتها وفق تمثلات ناجعة بديلة ومختلفة عن الفعل الثقافي المأزوم لمغرب اليوم، ثم منح مساحة واسعة من الأهمية لمناقشة دعوة عبد اللطيف اللعبي إلى ما أسماه بميثاق وطني من أجل الثقافة واعتبارها دعوة مثقف يشهد له تاريخ الزمن القديم بالنضال من أجل مغرب ديمقراطي عقلاني حر، ثم انتهاء إلى التمسك بالدعوة التي صاغها المثقفون المغاربة بعنوان البلاغ الأول للثقافة المغربية والتي أكدوا من خلالها أهمية الثقافة ودور المثقف في ترسيخ أسس مجتمع مغربي ديمقراطي ورسموا فيها الأمل في إجماع المثقف على إدانة فعل المؤسسة واستنكار الوضع المتردي للفعل الثقافي الذي لا بد أن يكون السبب والدافع إلى التغيير. إبراهيم أزوغ - باحث في الثقافة المغربية