سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
سفيران متقاعدان يتورطان في التلاعب ببرنامج النفط مقابل الغداء بنك مغربي يرفض اقتراحا عراقيا بوساطة أحد السفيرين للحصول على النفط كجزء من قرض في ذمة بغداد
قلة من الفرنسيين كانوا يعلمون طبيعة السفراء الذين يمثلونهم في الخارج، وكثير منهم كانوا يجهلون أن أبناء الأسر ذات الأصول الأرستقراطية والأسر الناشطة في مجالات المال والأعمال والأبناك أوفر حظا من غيرهم، في أن يصبحوا سفراء، قبل أن يسحب خريجو المدرسة الوطنية للإدارة البساطَ من تحت أرجلهم، بل إن برلمانيين فرنسيين صوتوا، في أكثر من مناسبة، لصالح تقليص ميزانية وزارة الشؤون الخارجية والأوربية، دونما أخذ بعين الاعتبار التبعات الخطيرة لهذا الإجراء على أداء وفعالية ثاني أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، بعد شبكة الولايات المتحد الأمريكية، وكأنهم لا يعلمون أن الالتزامات المالية لفرنسا تجاه عدة منظمات دولية تمتص نسبة كبيرة من الميزانية الهزيلة لوزارة كوشنير. لم يهتمَّ فرانك رونو، في هذا التحقيق الذي اعتمد فيه بالأساس على أرقام وإحصائيات الخارجية نفسها، بتقديم حلول جاهزة للمشاكل التي تضعف فرنسا دوليا، بقدر ما انكبت على تشريح الوضع الراهن وطرح إشكالياته، التي يتوجب القطع معها عاجلا، وإلا فقدت باريس كثيرا من بريقها الدبلوماسي وجزءا غير يسير مما تبقى لها من تأثير في صنع القرار الدولي. استهلت الدبلوماسية الفرنسية خريف سنة 2005 على إيقاع الفضائح بعدما قرر القضاء متابعة دبلوماسيين بارزين بتهمة «استغلال النفوذ وارتشاء موظف عمومي ينشط في الخارج». نزل هذا القرار الذي اتخذه القاضي فيليب كوروي كالصاعقة على الخارجية الفرنسية التي وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه بسبب اتهام عضوين بارزين في السلك الدبلوماسي بالمشاركة في تحوير مسار برنامج «النفط مقابل الغذاء» الذي كانت تشرف عليه الأممالمتحدة في إطار العقوبات الأممية المفروضة على نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. تصدر السفيران، سيرج بوادوفي وجون برنار ميريمي، صفحات الجرائد واحتلت القضية التي يتابعان فيها حيزا مهما من صفحات «الأحداث». فيما كشفت لجنة التحقيق المستقلة عن تفاصيل جديدة في هذه القضية، مؤكدة أن بوادوفي حصل على 29.5 مليون برميل نفط عبر شركة «فيتول» السويسرية، في حين اكتفى ميريمي بما يربو عن مليوني برميل نفط بقليل فوتها لشركة من «ليشينشتاين». استنجد الدبلوماسيان المتقاعدان بكبار وسامي موظفي «الكي دورساي». كلا الرجلين أبليا حسنا في كل العواصم التي مثلا فيها باريس، وحظيا بتكريم خاص حينما أحيلا على التقاعد، وظلا نموذجين للدبلوماسيين الناجحين إلى أن افتضحت «مغامراتهما العراقية» التي توشك أن تدمر كل ما بَنَيَاهُ على مدى عقود من تحمل المسؤوليات سواء في الإدارة المركزية للخارجية الفرنسية أو في التمثيليات الدبلوماسية الفرنسية في الخارج. تقرب جون برنار ميريمي، بداية من سنة 1999، من إحدى أبرز الأبناك الخاصة بالمغرب، البنك المغربي للتجارة الخارجية، الذي تعرف على رئيسه المدير العام خلال الفترة التي كان فيها سفيرا لباريس في الرباط. بعد وقت وجيز من تعيينه مستشارا للرئيس في القضايا الدبلوماسية، سيرتقي ميريمي إلى منصب مدير للقضايا الدبلوماسية لدى رئاسة الجمهورية في أبريل 2000، بالموازاة مع استمراره في أداء مهامه كمستشار خاص لكوفي عنان، الأمين العام السابق لمنظمة الأممالمتحدة. كان العراق مدينا للبنك المغربي بما يناهز 22 مليون دولار، فاقترح الدبلوماسي الفرنسي التدخل لدى سلطات بغداد من أجل الحصول على قيمة القرض. واعترف ميريمي نفسه لدى استجوابه من لدن القاضي كوروي في أكتوبر 2005 بوساطته بين السلطات العراقية والمؤسسة البنكية المغربية لحل هذه المسألة قائلا: «التقيت طارق عزيز، نائب الرئيس ووزير الشؤون الخارجية العراقية، وقال لي إن العراق لا يمكنها أن تسدد القرض الذي تدين به للبنك المغربي في ظل الحظر المفروض على بغداد.. وبعد ذلك، أبدى طارق عزيز استعداده لتمكيني من كمية من النفط تكفي لتسديد جزء من القرض لفائدة البنك المغربي للتجارة الخارجية». ورغم أن البنك المغربي رفض المشاركة في هذه اللعبة الخطِرة، فإن ميريمي أقر أمام القضاء أن طارق عزيز أثنى عليه وشكره ومنحه في أكتوبر 2001 مليوني برميل نفط ضخت في حسابه البنكي 150 ألف دولار، وقال «ما كان علي فعل ذلك، وأنا نادم على ما فعلت». مسار بوادوفي لا يختلف كثيرا عن مسار ميريمي. فقد تقلب بدوره في مسؤوليات سامية في الخارجية الفرنسية قبل أن يعين سفيرا لباريس في عدد من العواصم العالمية أهمها واشنطنوبرلين إلى أن ألحق في سنة 1974 بديوان جاك شيراك الذي عينه الرئيس فاليري جيسكار ديستان، مباشرة بعد انتخابه رئيسا للجمهورية، في منصب الوزير الأول. تميزت هذه الفترة بتقارب كبير بين فرنسا والعراق وتم التوقيع على اتفاقيات تعاون كثيرة بين باريس وبغداد. اضطلع بوادوفي بدور بارز في هذا التقارب. ولذلك لم يتفاجأ كثيرون بتعيينه سفيرا في وارسو مباشرة بعد إعفاء شيراك من مهامه في صيف 1976 قبل أن تسند إليه مهام عديدة في الإدارة المركزية ل«الكي دورساي»، قبل أن يعين سفيرا في الهند، ثم في ألمانيا التي شهد فيها سقوط جدار برلين. وقد قام بوادوفي، حينما كان مستشار دولة مكلفا ب«بمهمة خاصة» بين سنتي 1993 و1997، بأول زيارة له إلى بلاد الرافدين سعيا لإطلاق سراح مواطن فرنسي اعتقله الأمن العراقي. ظل بوادوفي إلى حدود 1997 أحد أنجح كبار موظفي الخارجية الفرنسية. غير أن إقدامه في هذه السنة على تأسيس شركة خاصة للاستشارة سيدخله عالما ما كان يخطر بباله، حيث كان اتصال شركة «فيتول» السويسرية به في السنة الموالية أولى خطواته نحو الانحدار بعد أن قبل عرضها الاشتغال لصالحها في العراق مقابل عمولة تصل إلى 1 في المائة من قيمة كل برميل نفط ينجح في شرائه من بلاد الرافدين لفائدة «فيتول». وقال بوادوفي أثناء التحقيق معه: «أعرف العراق جيدا، بحكم أني كنت مديرا لشمال إفريقيا والشرق الأوسط بوزارة الخارجية ما بين 1980 و1983 وكانت تربطني علاقات مع معظم المسؤولين العراقيين. عرفت طارق عزيز منذ سنوات، لأنه كان رجلا ذكيا وزعيم الطائفة الكاثوليكية. أعرف كذلك الرئيس صدام حسين منذ سبعينيات القرن الماضي، حينما حملت إليه رسالات من عدد من رؤساء الجمهورية الفرنسية»، ثم ادعى أنه كان يحيط الخارجية بكل تحركاته. فيما نشرت جريدة «لوكنار أونشيني» المثيرة للجدل، مقالات سخرت من ميريمي، وكشفت عن تلاعبه بفاتورة الاحتفال بالعيد الوطني لفرنسا حينما كان سفيرا في روما، حيث سجل أنه قدم لضيوف فرنسا جعة رخيصة وسجل في الفاتورة نوعا فاخرا باهظ الثمن ثم إنه حصل من ملك المغرب الراحل، الحسن الثاني، على عقار قرب بحيرات ورزازات، شيد فيها فيلا من «عائدات النفط مقابل الغذاء». بعد خمس سنوات على تفجر هذه القضية، وفي الوقت الذي كان فيه كل من مريمي، 73 سنة، وبوادوفي، 81 سنة، ينتظران تبرئتهما من المنسوب إليهما أو على الأقل معرفة الكلمة الأخيرة للقضاء في القضية التي يتابعان فيها، استمر الانتظار إلى أن قررت هيئة الحكم في شتنبر 2009 إحالة قضية هذين السفيرين المتقاعدين على المحكمة الإصلاحية.