قلة من الفرنسيين كانوا يعلمون طبيعة السفراء الذين يمثلونهم في الخارج، وكثير منهم كانوا يجهلون أن أبناء الأسر ذات الأصول الأرستقراطية والأسر الناشطة في مجالات المال والأعمال والأبناك أوفر حظا من غيرهم، في أن يصبحوا سفراء، قبل أن يسحب خريجو المدرسة الوطنية للإدارة البساطَ من تحت أرجلهم، بل إن برلمانيين فرنسيين صوتوا، في أكثر من مناسبة، لصالح تقليص ميزانية وزارة الشؤون الخارجية والأوربية، دونما أخذ بعين الاعتبار التبعات الخطيرة لهذا الإجراء على أداء وفعالية ثاني أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، بعد شبكة الولايات المتحد الأمريكية، وكأنهم لا يعلمون أن الالتزامات المالية لفرنسا تجاه عدة منظمات دولية تمتص نسبة كبيرة من الميزانية الهزيلة لوزارة كوشنير. لم يهتمَّ فرانك رونو، في هذا التحقيق الذي اعتمد فيه بالأساس على أرقام وإحصائيات الخارجية نفسها، بتقديم حلول جاهزة للمشاكل التي تضعف فرنسا دوليا، بقدر ما انكبت على تشريح الوضع الراهن وطرح إشكالياته، التي يتوجب القطع معها عاجلا، وإلا فقدت باريس كثيرا من بريقها الدبلوماسي وجزءا غير يسير مما تبقى لها من تأثير في صنع القرار الدولي. ما هو عدد موظفي وزارة الشؤون الخارجية والأوربية الفرنسية؟ 16.100 منصب شغل بدوام كامل. لا تندهشوا فالرقم صحيح استنادا إلى «الكتاب الأبيض» لهذه الوزارة. لأنه رقم هزيل جدا مقارنة بوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي، التي يتجاوز عدد موظفيها المليون، وهو رقم يقارب نصف مستخدمي الوظيفة العمومية بفرنسا. كما أن عدد موظفي وزارة الشؤون الخارجية يقل أربع مرات عن عدد موظفي وزارة العدل. وتجب الإشارة، كذلك، إلى أن حوالي ثلث 16.100 منصب شغل سالفة الذكر (5.700 منصب بالضبط) هي التي يشغلها موظفون رسميون بالوزارة، مدعومين ب2.400 موظف منتدبين من وزارات أخرى، كالدفاع والتربية الوطنية. في حين أسند قرابة 800 منصب لموظفين يرتبطون بعقود عمل محددة الآجال مع الوزارة. وإذا كان عدد الموظفين، الذين يدمجون في سلك الوظيفة بالوزارة على الصعيد المحلي، يبلغ 5.600 موظف، فإن السفارات تقوم أيضا بتوظيف، مواطنين فرنسيين، غالبا ما يكونون من الجالية الفرنسية المقيمة بالخارج، وتسند إليهم مهام متنوعة، كالإشراف على إجراءات منح التأشيرة، المحاسبة ومتابعة مشاريع التعاون. غير أن موظفي السفارات الفرنسية، على كثرتها وتوزعها على مختلف القارات، يشتغلون في ظروف مزرية ويخضعون لقانون الشغل ببلد إقامتهم، إن وجد، ولا يطبق عليهم قانون الشغل بفرنسا. وقد أدى هذا الوضع إلى بروز العديد من المشاكل لم تسلم منها أي سفارة فرنسية في الجهات الجغرافية الأربع، بعضها ينتهي في المحاكم، كما سيأتي ذكر ذلك في حلقات قادمة من هذه السلسلة. لا تندهشوا مرة أخرى، فهذا الوضع ليس خافيا على المسؤولين وليس مختوما بطابع مكتوب عليه: «سري للغاية»، لأن «الكتاب الأبيض» لوزارة الشؤون الخارجية والأوربية قام بتشريح هذا الوضع جيدا، وإن كان صاغته اختاروا الحديث عنه بحذر شديد، وقالوا: «لا يبدو أن «الكي دورساي» (لقب وزارة الشؤون الخارجية في فرنسا) تتوفر على سياسة واضحة بخصوص موظفيها «المحليين»، مع العلم بأنه لا بديل عن هذا الأمر من أجل تنشيط السفارات ودفعها للقيام بدورها بكل فعالية. لم تسلم الخارجية الفرنسية من إجراءات تقليص الكتلة الأجرية، رغم العجز الكبير الذي تعاني منه على صعيد مواردها البشرية، مما يدعو إلى التساؤل حول أهمية هذه الوزارة أصلا. بعد أن فقدت 8 في المائة من موظفيها في ظرف أربع سنوات، وتحديدا بين سنتي 1994 و1998، كانت أول وزارة توقع مع وزارة الميزانية لتحديث جهازها الإداري وعصرنته، لكنها فقدت ما سنتين 2006 و2008 قرابة 740 منصب شغل. ورغم ذلك، أعلنت الوزارة أنها ستواصل تنفيذ خطة «التحديث والعصرنة» إلى غاية 2011، وإن وجدت نفسها أخيرا مجبرة على الإذعان لقرار وزارة الميزانية، الذي صادق عليه البرلمان في إطار ما يعرف ب«البرمجة الدورية»، القاضي بإلغاء 700 منصب جديد كان من المفترض أن تستفيد منها «الكي دورساي». ويمثل عدد المناصب التي سيتم حذفها من أكثر ثمان سفارات فرنسية أهمية (واشنطن، لندن، برلين، مدريد، روما والرباط) وتلك السفارات المصنفة في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية، أكثر من نصف عدد المناصب التي سيتم حذفها بموجب القرار سالف الذكر، بعد مصادقة المؤسسة التشريعية على مقتضياته، دون الحديث عن عقود العمل المؤقتة التي لن يتم تجديدها، خاصة وأن الخارجية الفرنسية أكدت في لقاء، عقدته مع النقابات في فاتح أكتوبر 2008، أنها لن تجدد قرابة مائة عقد عمل مؤقت، وأن 150 موظفا بإدارتها المركزية سيتركون وظائفهم. خلفت خطة «التحديث والعصرنة» استياء كبيرا في أوساط التنظيمات النقابية، وصراعا كبيرا بين أقوى حزبين في فرنسا: الاتحاد من أجل حركة شعبية الحاكم، والحزب الاشتراكي، لكن ذلك لم يثن البرلمان عن تأكيد خيار السير قدما في تقليص الكتلة الأجرية، خصوصا وأن جميع الوزارات تقريبا، بما في ذلك أكثرها تضررا من هذه الخطة، كوزارة الشؤون الخارجية والأوربية، لم تبد أي معارضة للخطة التي بلورتها وزارة الميزانية، بل على العكس من ذلك، و«الكي دورساي» نموذجا، لا تتخلف عن تطبيق كل الإجراءات التي من شأنها تقليص عدد موظفيها، وإن كان هذا الأمر سيؤثر سلبا على أدائها وفعاليتها. ولا يبدو أن التنظيمات النقابية، خصوصا المقربة من الحزب الاشتراكي، ستبقى مكتوفة الأيدي، بل إنها لا تفوت فرصة دون التعبير عن رفضها الشديد لهذه الخطة، كما لا يفوت المسؤولون النقابيون الفرصة، في كل اجتماعاتهم مع المسؤولين وكذلك التصريحات التي يدلون بها لوسائل الإعلام، دون التذكير بمخطط التحديث والعصرنة الذي عرفته الإدارة العمومية في فرنسا في إطار «المراجعة العامة للسياسات العمومية»، ويبدون استغرابهم عن كيف يمكن للإدارة أن تضطلع بالمهام المنوطة بها، والتي تتزايد يوما بعد آخر، في ظل لجوء الحكومة إلى تقليص عدد موظفيها. كان أول اجتماع بمقر وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية لتدارس الأسلوب الأمثل لتدبير الموارد البشرية بعد تقليص عدد موظفيها ساخنا، حيث افتتح هذا الاجتماع، الذي انعقد في 19 مارس 2009، بالاعتراف بأن تقليص عدد موظفي «الكي دور ساي» يعرقل عملها ويضع أمامها إكراهات عديدة عصية التجاوز، كما تشير إلى ذلك وثيقة وقعتها مديرة الموارد البشرية بالوزارة، إيمانويل داشون، التي تشغل في الآن ذاته منصب المديرة العامة المساعدة للإدارة.