في مصر ضجة هذه الأيام، محورها التدخل الأمريكي السافر في الشؤون الداخلية المصرية، من خلال مطالبتها، وعبر أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الأمريكية، بضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة، في حضور مراقبين دوليين، والسماح بالتجمعات السياسية السلمية، وتغطية إعلامية جيدة لكل الاتجاهات. من المفترض أن العلاقات المصرية الأمريكية جيدة، وقوية، يسودها التنسيق في الشؤون الاستراتيجية الذي تدعمه الإدارة الأمريكية، بمساعدات سنوية، عسكرية واقتصادية، تصل قيمتها إلى حوالي ملياري دولار، ولكن يبدو، ومن خلال الغضبة الرسمية المصرية التي تنعكس على شكل تصريحات غاضبة للمسؤولين المصريين وهجمات إعلامية أكثر شراسة، أن هناك بوادر أزمة يمكن أن تتطور في ما هو قادم من أيام. مسؤول في وزارة الخارجية قال: «إن المواقف الأخيرة للإدارة الأمريكية تجاه الشؤون الداخلية المصرية هي أمر مرفوض بشكل قاطع من جانب مصر»، وأضاف: «مصر تعتز كل الاعتزاز بسيادتها واستقلال إرادتها الوطنية، لكن الجانب الأمريكي يصر على عدم احترام خصوصية المجتمع المصري، بتصرفات وتصريحات تستفز الشعور الوطني». وذهب أكاديمي محسوب على النظام والحزب الحاكم إلى ما هو أبعد من ذلك عندما قال، في حديث لصحيفة «روز اليوسف»، إن «الشعب المصري بلغ سن الرشد قبل أن تبلغه أمريكا، وإن الممارسة البرلمانية موجودة في مصر منذ عام 1866، وبالتالي ما تطلبه واشنطن هو إهانة للشعب المصري، لأن المصريين قادرون على مراقبة أنفسهم، والبحث عن مصائرهم أكثر من أي دولة أخرى». الشعب المصري بلغ سن الرشد فعلا، لا جدال في ذلك، ولكن المشكلة تتمثل في نظامه الحاكم الذي يتعامل مع هذا الشعب وكأنه قاصر لم يبلغ مرحلة الفطام بعد، والمطالب الأمريكية بانتخابات حرة ونزيهة هي مطالب الشعب المصري وأحزابه وقواه الحية الشريفة التي تعتز بتراث بلدها الحضاري وعقيدته راسخة الجذور. النظام يزوّر الانتخابات البرلمانية في مصر، وهذا التزوير ليس اختراعا أو افتراء، وإنما حقيقة موثقة بالوقائع الدامغة بالصوت والصورة، والأخطر من ذلك أن النظام بات يصدر خبراته في التزوير إلى الدول العربية المجاورة، حتى تتم الاستفادة منها وأساليبها الحديثة في تبديل صناديق الاقتراع، وإخراج النتائج بما يرضي الحاكم ويغضب الله والشعب. نعم.. الحياة السياسية الديمقراطية تتسم بالعراقة وكانت على درجة كبيرة من النزاهة والشفافية لا نرى لها مثيلا هذه الأيام، حيث كان البرلمان يمثل مختلف القطاعات الشعبية، ويمارس دوره الرقابي على السلطة التنفيذية بكفاءة عالية، ويحاسب الوزراء، ويسحب الثقة من الحكومات ورؤسائها، مدعوما بصحافة حرة ونظام قضائي عادل ومستقل. الإدارة الأمريكية لم تنتهك السيادة المصرية بمطالبتها بانتخابات حرة ونزيهة، لأن هذه السيادة منتهكة أمريكيا منذ عقود، ولا جديد في الأمر، وبالتحديد منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد وتوريط مصر في معاهدات سلام مهينة مع إسرائيل، تفرض عليها بيع الغاز والبترول بأسعار بخسة، وحراسة الحدود الإسرائيلية مجانا، والمشاركة بحماس منقطع النظير في تشديد الحصار الظالم على قطاع غزة، والتنسيق مع أجهزة الأمن الإسرائيلية لقمع المقاومة وتصفية رموزها ورجالاتها باعتراف المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم. مطالبة أمريكا بانتخابات حرة ونزيهة بحضور مراقبين دوليين تشكل انتهاكا للسيادة المصرية، أما مطالبتها ببناء سور فولاذي لخنق أبناء قطاع غزة، يشرف على بنائه مهندسون أمريكيون، فليس كذلك. التدخل من وجهة نظر النظام يعتبر مرفوضا ومهينا طالما أنه يصب في مصلحة الشعب المصري وبما يؤدي إلى تحقيق مطالبه في الإصلاح الديمقراطي، ولكن عندما يكون هذا التدخل في خدمة تعزيز النظام واستمراره في الحكم وتسهيل خططه في التوريث، فإنه تدخل محمود ومرحب به، ينزل بردا وسلاما على قلوب أهل السلطة والسطوة في قاهرة المعز. فإذا أراد النظام إعلاء أسواره وسد الثغرات التي يمكن أن تفتح المجال لحدوث هذا التدخل، فإن الوصفة السحرية لذلك هي إجراء انتخابات حرة ونزيهة، في حضور مراقبين دوليين، تماما مثلما تفعل كل الدول والحكومات الأخرى الواثقة من نفسها ومن صلابة نظامها السياسي وشرعيته. الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر يعتبر نموذجا للمراقب المحايد، وأصبح وجوده علامة فارقة في كل الانتخابات التي تجري في العالم الثالث وعنوانا لنزاهة معظمها، حتى إن الرجل، المتقدم في السن، يتنقل من الخرطوم إلى رام الله، إلى بيروت إلى الرباط هو وفريقه لمراقبة الانتخابات وتقديم شهادة حسن سلوك ديمقراطية إلى الأنظمة التي تشارك فيها، فما المانع لو حط الرحال وفريقُه من المراقبين الدوليين في القاهرة لفعل الشيء نفسه، ولماذا الخوف منه؟ وجود مراقبين دوليين، يتابعون سير الانتخابات ويراقبون عملية الاقتراع، لا يشكل انتهاكا للسيادة، وإنما تعزيزا لها، والأنظمة التي تعارض وجود هؤلاء تضمر نوايا مسبقة في التزوير، لانتخاب برلمان غير شرعي، تكون مهمته البصم على سياسات الحكومة، والتغطية على الفساد المستشري في مفاصلها الرئيسية. نحن ضد أي تدخل أمريكي في شؤون مصر أو أي دولة عربية أخرى، لأننا نعرف نتائج مثل هذا التدخل، كما نرى بأعيننا آثار الكوارث التي ترتكبها أمريكا باسم التغيير الديمقراطي في كل من العراق وأفغانستان، ولكن معارضتنا لهذا التدخل تتناقض كليا مع أسباب معارضة النظام المصري له، لأن هذا النظام شريك أساسي في السياسات الأمريكية في المنطقة، وأحد أبرز مهندسيها تحت مسمى «الاعتدال» و«الواقعية». الذين يعرفون الشأن المصري جيدا يدركون أن هذه «الهبة» الأمريكية، الداعية إلى النزاهة والمراقبة الدولية، ليست جديدة، وهناك شكوك عديدة حول صدقيتها، ويبدو أن المطلوب من هذه الإدارة «الديمقراطية» أن توجه هذه الانتقادات والمطالب إلى النظام المصري، لرفع اللوم والعتب وإسكات بعض الأصوات «الليبرالية» داخل مصر، ومن المتوقع أن يرد النظام بكلام آخر حول السيادة ويبقى الوضع على حاله إن لم يكن أكثر سوءاً إذا كانت إدارة أوباما جادة فعلا في ما تقوله لدعمت القول بالعمل، وهي تملك أوراق ضغط كثيرة تستطيع استخدامها بفاعلية لو أرادت، مثل ورقة المساعدات المالية. فالتلويح بها كفيل بإجبار النظام على إجراء التعديلات الدستورية المأمولة، وإجراء الإصلاحات السياسية التي يطالب بها الشعب. الشعب المصري، في تقديرنا، سيخرج الكاسب الأكبر من هذا الاشتباك بين الفيلين الأمريكي والمصري الرسمي، فحالة الخوف التي دبت في أوصال النظام من جراء المطالب الأمريكية هذه تعكس مدى هشاشته، ولا نستبعد أن تقلل من حالة تغوله المألوفة في تزوير الانتخابات وقمع المعارضة والتعاطي بخشونة مع الناخبين. الأمر المؤكد أن ما كان يصلح لمصر، أو أي بلد عربي آخر، قبل ثلاثين أو أربعين عاما، لم يعد يصلح حاليا، بسبب حالة التطور التكنولوجي التي تسود العالم، وخاصة على صعيد ثورة الاتصالات. النظام المصري ربما يحاول ممارسة التزوير مجددا، ولكن أدواته أصبحت بالية ومكشوفة، ولكنه لن يستطيع في ظل هذه الثورة إخفاء المعلومات التي باتت الحليف الأقوى للمعارضة الشعبية المتنامية. امتحان الانتخابات المقبل سيكون الأكثر عسرا بالنسبة إلى النظام في مصر، ومع اعترافنا بقدرته على البطش من خلال آلة القمع الجبارة التي تعمل تحت إمرته وأبقته على كرسي الحكم ثلاثين عاما، فإن عجلة التغيير بدأت في الدوران، ومن الصعب أن تتوقف أو هكذا نعتقد.