إنهما عرضان يسيران على نفس السكة من حيث كونهما يستثمران القالب البيكيتي، وإن كانا مختلفين على مستوى المضمون المسرحي، لكن تيمة العبث تيمة جامعة بين عرض «اتشاش» لفرقة ومضات وبين «سالى الطرح» لفرقة أسيوان. ففي حين كان الخطاب السياسي حاضرا في الأولى، انحازت الثانية إلى المنظور البيكيتي من خلال تحويل نصه «نهاية اللعبة» إلى النص الدارجي «سالى الطرح»، نصان قاسيان جدا وموخزان. مايزال صمويل بيكيت يثير الفضول ويغري المسرحيين بنصوصه التي تشبه فخاخا منصوبة، كل من دخلها يقع في أسر الرجل وحبه إلى الأبد. فبنية نصوصه التوليدية وقوة السؤال الوجودي وقسوته لديه، تدفع بالكثير من المشاهد المسرحية إلى استعارته للحديث عن واقعها الاجتماعي الممزق. هذا ما يفعله تحديدا عبد العاطي لمباركي، حين يقدم لنا العمل المسرحي «نهاية اللعبة»، وهو عمل مغو، فقد أغرم به الهواة والمحترفون على حد سواء، ولعل الذاكرة المسرحية المغربية لمسرح الهواة تحتفظ بموضة بيكيت في أكثر من محاولة مسرحية، مثل محاولة محمد قاوتي في «ميسا»، وهو العنوان القريب من العنوان الذي اختاره عبد العالي لمباركي «سالى الطرح». الجو العبثي يتجلى بوضوح في العرض المسرحي، وبالأخص من خلال التقنية التوليدية التي تميز بنية النص البيكيتي. لقد حافظ المخرج عبد العاطي لمباركي على نفس الملامح المسرحية التي وضعها بيكيت لمسرحيته، من قبيل أسماء الشخصيات، والفضاء العام للعرض في نقطة معلقة بين الأرض والسماء. يقدم العرض حكاية الجلاد الأعمى والكسيح الذي يجد لذة في عذابات ضحاياه، وما ضحاياه إلا أفراد عائلته: أبوه وأمه وابنه. من خلال سينوغرافية العرض المسرحي والتي هي عبارة عن فضاء فارغ يقبع في وسطه كسيح، أعمى، يسوي العالم على طريقته وذوقه، ولا يجد غضاضة في إيداع والده ووالدته في قبو، بينما يتلذذ بالحديث إليهما في لحظات صفوه، في الوقت الذي يحول فيه ابنه إلى خادم مطيع له، يسخره لربطه بالعالم الخارجي، وينقل إليه ما يجري في هذا الفضاء المعلق، الفضاء الاحتمالي بين السماء والأرض، المفتوح على الممكن والمستحيل، الوجود والعدم. من خلال هذا الفضاء العام، يتوالد العرض المسرحي. عرض المباركي لم تخنه السخرية، وقدم فرجة مسرحية حقيقية ساهم في نجاحها، على وجه الخصوص، النسيج النفسي الذي يوفره نص بيكيت، زيادة على الاستبطان الجيد للملامح النفسية للشخصيات والقدرة الأدائية المحكمة والتصاعدية، التي انتشلت العرض من الرتابة التي تتهدد المتعامل مع نصوص بيكيت. ويمكن هنا تسجيل العودة القوية لعبد العاطي لمباركي ممثلا ومخرجا، بعد غياب طويل عن الخشبة، كما يجدر التنويه بالعمل الرائع للممثل سعيد آيت باجا، والذي قدم نموذج الممثل المطواع رشيق الأداء في نص لا يرحم أبدا. في العرض الثاني الذي قدمته فرقة ومضات للمسرح والمعنون ب«اتشاش»، ينفتح الفضاء الركحي على نفس المكونات التي تعزز من تيمة العبث، وقد ساهم التصور السينوغرافي للعرض في تعزيز المحور الذي يتحرك فيه، ففضاء القبو المصمت الذي لا يؤدي إلى شيء، فضاء يعزز من عبثية الوجود، ويلقي الضوء على مرحلة من تاريخ المعتقلات السرية في المغرب، وهي فترة تميزت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وباعتداء شنيع على الأرواح والأجساد. ثلاثة عميان وثلاث شخصيات وجلاد يحمل اسم الشاف حمان أو الحاج ومحقق شاب من الزمن الجديد يأتي كي يمسح آثار الماضي الأسود قبل أن تأتي لجنة التحقيق الأجنبية، لتجد السجلات أمامها نظيفة، وكل شيء على ما يرام، وهيا نبدأ من البداية. الشاف حمان، الذي لعب دوره باقتدار إسماعيل العنطرة، يجد صعوبة بالغة في الانتقال إلى الوضع الجديد، هو الذي ألف التعامل «بشكل عملي» مع المعتقلين، من دفن وردم وتقطيع أظافر وفرم لحم وكسر أسنان، هذا الرجل سيجد نفسه عاطلا عن العمل ولا وظيفة له تقريبا، بعد أن باغتته التحولات. للحاج ذاكرة مسكونة بالأصوات وبالصراخ، ولذلك تداهمه في اليقظة وفي الأحلام وتقض عليه المضجع. الصوت السياسي العالي كان حاضرا في العرض، وبدت الممثلة سهام حراكة وكأنها تخوض تحديا ضد نفسها في الدور المركب الذي لعبته، ونفس الأمر ينطبق على العربي المحمدي وسيف الدين آيت موسى ومصطفى خونا، في حين كانت سينوغرافيا العرض وظيفية. بيكيت ونص رشيد اطرحوت وعمر سحنون يجتمعان في ليلة عرض واحدة، كي يمنحا المهرجان نكهة أخرى، فأن نطرح كما نشاء أسئلتنا الوجودية الحادة، شيء جيد وأن نفكك مرحلة من تاريخ المغرب أمر في غاية الأهمية، لكن كنس هذا الماضي الأسود يحتاج إلى طي جيد، وليس إلى ارتجالية تخضع لإملاءات خارجية لا غير. نتمنى أن ينتهي «الطرح» فعلا، فما وقع ليس مجرد «اتشاش»، بل هو حقيقة تمشي على قدميها. عروض اليوم < يختتم المهرجان الوطني للمسرح في مكناس في دورته العاشرة اليوم بآخر عرض، وهو عرض مبرمج خارج المسابقة الرسمية، حيث سيقدم عبد الحق الرزوالي عرض «نشوة البوح»، وهو من تأليف عبد الحق الزروالي، وإخراج عبد الكبير الشداتي، وسينوغرافيا وملابس محمد الشريفي، وموسيقى عبد العزيز الطاهري ومنير صابر. ونشوة البوح حكاية عشق وبوح وأمل وألم، حيث يستأسد الزروالي كالعادة في عرضه من البداية إلى النهاية.