عرف عن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أنه لم يكن يميل إلى سياسة زلة اللسان. وبالرغم من أن ما كان يصدر عنه في كثير من الأحيان لدى اجتماعه مع مسؤولين مغاربة. يبدو بمثابة «انسياب» لزلة اللسان، فإنه كان يعرف جيدا ماذا يريد ولماذا يختار هذا الأسلوب في حواراته مع المغاربة. بيد أن سقطة اللسان التي صدرت عنه قبل اندلاع نزاع الصحراء، في بداية سبعينيات القرن الماضي، تشير إلى أن التعاطي الجزائري مع قضية الصحراء كان مدبَّرا، فقد نقل عنه القول في أحد الاجتماعات إن الجزائر مستعدة ل«تحرير الصحراء» إذا لم يكن المغرب وموريتانيا يرغبان في ذلك. وإن إنهاء الاحتلال الإسباني قضية تعني الجزائر، أي أن تصبح الصحراء تابعة لها. في مناسبة أخرى، وقد أصبح رئيسا للجمهورية، سأل أحد المسؤولين المغاربة: «لماذا لا تفكر الرباط في اقتسام الصحراء؟» وكان ذلك مقدمة سبقت اقتراحه الذي قدمه للوسيط الدولي الأسبق جيمس بيكر، حين تعمد أن يضع على رأس الصفحة التي تضمنت ذلك الاقتراح اسمه «حافيا»، دون ألقاب، أي عبد العزيز بوتفليقة، دون أن يقرنه بمهمته كرئيس للجمهورية الجزائرية. بين هذا وذاك، برزت تناقضات عديدة في الموقف الجزائري، أقربها أنه لم يمض على استرجاع المغرب أراضيه الصحراوية غير بضعة أسابيع، حتى رعت الجزائر مهزلة الإعلان عن إقامة «جمهوريتها الصحراوية»، وكانت في مقدمة من اعترف بها، لتأكيد معاداتها للمغرب. وجاء ذلك الاعتراف، ذو الطابع غير القانوني وغير المسؤول، ردا على أسْر القوات المغربية أعدادا من ضباط وجنود الجيش الجزائري الذين توغلوا في منطقة أمغالا مرتين على الأقل، وكان مصيرهم الاندحار والأسر. بسبب العجز الكبير في تحقيق أي مكسب في ساحة الميدان، كان اللجوء إلى أسطوانة «الأراضي المحررة»، التي لا تعدو أن تكون مناطق عازلة ارتأت الأممالمتحدة أن تتركها كذلك للحيلولة دون حدوث انتهاكات لوقف إطلاق النار، فيما شكلت، من الناحية الاستراتيجية الصرفة، خيارا مغربيا لتلافي الدخول في مواجهات مباشرة للاحتكاك مع الجيش الجزائري، الذي شكلت الانتصارات المغربية ضده، في حرب الرمال لعام 1963 وفي مواجهات الصحراء، عقدة ما يزال يرزح تحت تأثيرها النفسي والسياسي. مصدر التناقض الصارخ في الموقف الجزائري أنه أمسك ملف العداء للمغرب تحت ذريعة الدفاع عن مبدأ تقرير المصير، غير أن اعتراف الجزائر بما أطلقت عليه اسم «الجمهورية الصحراوية» يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أنها نابت عن الصحراويين، بما في ذلك المقيمون قسرا في مخيمات تندوف، في تقرير مصيرهم، وبالتالي فأي مصداقية تكون لموقف طائش وأرعن بهذا المستوى من الانحدار السياسي، الذي لا يقيم وزنا لا للقانون الدولي ولا لمواثيق الأممالمتحدة، التي ترهن الاعتراف بالدول الحقيقية بوجود مقومات السيادة والأرض والشعب، والتي لا يتوفر أي منها لصنيعتها التي حولتها إلى «حصان طروادة»، لإخفاء أطماعها في الهيمنة على المنطقة برمتها. الشيء الوحيد الثابت في السياسة الجزائرية هو الاختفاء دائما وراء ما تتصور أنه يعفيها من مسؤولياتها إزاء استمرار النزاع الإقليمي حول الصحراء. فالبوليساريو موجودة فوق أراض واقعة تحت النفوذ الجزائري، ومع ذلك فإنها تلوح دائما بوهم «الأراضي المحررة»، وهو فاقد لأي استقلالية أو تمثيلية شرعية، ومع ذلك، فإن الجزائر تدفعه إلى الواجهة لالتقاط صور تذكارية عن تورطها المكشوف كطرف أساسي يحرك الدمى من وراء الستار. بل إنها تزيد على ذلك، من خلال ربطها لإعادة تطبيع العلاقات الجزائرية المغربية، بحل قضية الصحراء، مع أنها طرف أساس في المشكل وفي الحل معا، ولو أرادت أن تكون منسجمة مع نفسها، لعبرت بوضوح عن رفضها أي توجه لتحقيق الانفراج، أقله فتح الحدود المغلقة منذ أزيد من عقد ونصف العقد. الآن، تسعى الجزائر إلى افتعال أزمة جديدة مع المغرب، والسبب في ذلك أن الحبل الذي تصورته طويلا ويمكن أن يتحول إلى شباك للإيقاع بالمغرب، التف على عنقها إلى درجة تضييق الخناق، فقد عزفت في الأشهر الأخيرة على مقولة احترام حقوق الإنسان، بعد أن انفلتت من أيديها كافة الأوراق التي كانت تستخدمها لتحويل الأنظار عن واقع المخيمات وعن ثوابت تورطها الفاضح وعدم إبداء أي رغبة في حل المشكل. أما الأزمة التي أرادت تصريفها، عبر دعوة السفير المغربي في الجزائر لتقديم إيضاحات حول قضية احتجاز صحافيين مغربيين في أحد فنادق تندوف، فهي مؤشر على الميل نحو التصعيد السياسي والإعلامي، بل والعسكري كذلك، طالما أن التحرك في المنطقة العازلة، الذي يرعاه الجيش الجزائري، يعتبر بمثابة انتهاك لوقف إطلاق النار. وفي خلفيات هذا التوجه أن الجزائر ترفض، بعناد وإصرار، فتح ملف المخيمات بأي شكل من الأشكال. إنها لا تريد أن تسمح للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بإحصاء المقيمين هناك وترفض زيارات المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية برصد انتهاكات حقوق الإنسان، كما أنها تضع المزيد من العراقيل أمام أي مساع إلى استئناف المفاوضات على أسس جديدة. فقد جربت ذلك من خلال دفع صنيعتها البوليساريو إلى التلويح بالعودة إلى حمل السلاح، مع أن الجميع يدرك أنه إذا كان هناك قرار ما بالعودة إلى الحرب، فلن يصدر إلا عن السلطات الجزائرية، والأكيد أن كل ذلك يندرج في إطار حسابات دأبت الجزائر أن تنشغل بها ليلا... يعكس المشكل، في جوهره، عقدة حقيقية، لعل مصدرها أن الجزائر فكرت يوما في أن تصبح «يابان» شمال أفريقيا، قبل انهيار خطتها في اللجوء إلى التصنيع الذي أهدر إمكانيات بلا طائل، ما تزال تحلم بالهيمنة، وهي كاد تصنف نفسها كدولة كبرى «مؤثرة» في الأحداث. فقد أفادت، خلال فترات الحرب الباردة من الصمت الدولي على تسليحها ميليشيات البوليساريو بعتاد سوفياتي وشرقي الصنع، ولم تفهم بعد أن ظروف الحرب الباردة انتهت إلى غير رجعة، وأن الأطراف التي كانت تسخرها لإذكاء تلك الحرب لم تعد تعنيها العودة إلى الوراء. وما يزيد العقدة الجزائرية استفحالا أنها لجأت من جديد إلى خيار التسلح، للإيهام بأنها قوة إقليمية، وبالتالي هذه القوة المتوهمة أفلحت في بسط سيطرة الدولة الجزائرية على حدودها، أما وهي تقف عاجزة عن أن تكون دولة بالمعنى المتعارف عليه للدولة التي تحترم المواثيق الدولية، فلا ضير أن تتشبه ب»الجمهورية الصحراوية» التي خلقتها من عدم، فبعض العدم من فصول التاريخ المفترى عليه !...