شهد العالم تطورات متسارعة مهمة منذ عدة سنوات، غير أن هذه التطورات بقيت متأرجحة بين الوضوح وعدم التأكد من حقيقة التطور أكان إيجابيا أم سلبيا، وظلت تنبؤات جل الكتاب والأخصائيين بشأن التطورات، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، التي أفرزتها العولمة غير مستقرة حول مدى مصداقية تنبؤاتهم ومدى تلاؤمها مع الواقع. وفعلا، تفاقمت في السنوات العشرين الماضية على مستوى العالم ككل اللاعدالة الاجتماعية من خلال سوء توزيع المكاسب وما ينتج عنها من مآس اجتماعية، وهو ما عبر عنه المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي سنة 1999 محذرا من أن «اللامساواة المتطرفة في توزيع مكاسب الرفاهية تشكل خطرا يهدد على نحو متصاعد الاستقرار السياسي والاجتماعي في العالم أجمع». فكل التحولات، التي عرفها المسار الاقتصادي الدولي، شكلت الأسباب الحقيقية لإعادة توجيه السياسات العمومية من خلال إعادة تنظيم الإدارات وفق المبادئ الجديدة للتسيير العمومي. وبظهور أي أزمة، يكون موقف الحكومات متأرجحا بين الاستخفاف بالمشكل وتأجيل البت فيه، وبالتالي تقاذف المشكل والتملص من المسؤولية، تاركة الحكومة التي تليها تقدر كيفية تدبير الأزمة. وموضوع التقاعد لا يخرج عن هذه القاعدة من خلال علاقة التأثر بالتوجه السياسي العام المحكوم بظرفية معينة وبتصور معين خدمة لأهداف سياسية معينة غير معلنة. وقد ينطبق ذلك بالحرف على النموذج الفرنسي للتقاعد، الذي كان مثار جدل حرك مشاعر الفرنسيين النائمة للانتفاضة ضد سياسات ساركوزي، بصفة عامة وعلى مشكل التقاعد بصفة خاصة. ساركوزي، الذي راهن من وراء تمرير القانون الجديد للتقاعد على إعادة تسويق صورته كمنتوج سياسي، لم تنته بعد مدة صلاحياته بعد أن تراجعت شعبيته في استطلاعات الرأي خلال الأشهر الأخيرة، راجيا استعادة مكانته السياسية استعدادا لاستحقاق 2012. صحيح أن كل التقارير خلصت إلى اتجاه فرنسا نحو الكارثة في هذا المجال مادامت لم تواكب الدول الأوربية الجارة في معالجة هذه المشكلة من خلال رفع سن التقاعد إلى 62 أو 67 سنة، وأن تشغيل الفرنسيين لمدة أطول يمثل الخيار الأمثل لضمان حاجات التمويل وتوفير نحو 70 مليار أورو مع حلول سنة 2030. لقد سبق للوزير الأول الفرنسي السابق ميشيل روكار أن أكد بخصوص هذا المشكل أنه «خلال عشرين سنة، سيقفز نظام المعاشات ومعه خمس أو ست حكومات». وقد كان يهدف، من خلال ذلك النداء، إلى تأكيد طابع الاستعجال لإقحام الدراسات الضرورية من أجل إصلاح أنظمة التقاعد والتي لم تخلص إلا إلى أن التحملات مدعوة إلى التضاعف ثلاث مرات وأن كتلة الأجور ستتضاعف مرة واحدة، وبذلك يصل العجز إلى 167 مليارا. ولم يكن من باب أمام الدولة الفرنسية -أمام غياب تنمية متوازنة، افتقرت إلى الإدماج الحقيقي للقطاعات الاجتماعية وغياب التوفيق بين التطور الاقتصادي والتطور الاجتماعي الإيجابي- إلا الرهان على الرفع من سن التقاعد من 60 سنة إلى 62 سنة، مستبعدة الأسوأ والمتمثل في تمويل العجز بتغطيته بالاقتطاعات، وبالتالي الرجوع، لا محالة، إلى إعانات ميزانية الدولة، مما يعني الزيادة في الاقتطاعات الضريبية. بالنسبة إلى المغرب، وفي ما يخص نظام التقاعد المطبق على موظفي الدولة، فقد كانت مؤسسة الصندوق المغربي للتقاعد سنة 2003 قد اعتمدت مكتب دراسات فرنسيا أنجز دراسة أفضت إلى كون بداية العجز في المعاشات المدنية (موضوع الدراسة) ستكون سنة 2006. ومحاولة من الدولة إيجاد مخرج من المأزق الحرج، عمدت إلى وضع تقييم للوضعية وطرح سيناريوهات للإصلاح من خلال المناظرة الوطنية حول إصلاح أنظمة التقاعد والتي اعتبرت بطبيعة الحال -لتأجيل سبل العلاج للحكومة المستقبلية آنذاك- أن إشكالية نظام التقاعد الحالي هي إشكالية مطروحة بصفة عامة على الصعيد العالمي. غير أن المثير للانتباه في ذلك الوقت هو أن دراسة مكتب الخبرة الفرنسي وخلاصات المناظرة الوطنية لم تشر، ولو بعبارة صغيرة، إلى نظام المعاشات العسكرية، فيما تم الاقتصار على الإشارة إلى وضعية نظام المعاشات المدنية التي اعتبرت غير مريحة على المدى الطويل. واكتشفت خلاصة محورية مفادها أن نظام التقاعد المطبق على موظفي الدولة، المسير من طرف الصندوق المغربي للتقاعد، هو نظام سخي وأن مساهمات الموظفين ضعيفة جدا، سواء على مستوى النسبة أو الوعاء. وبالفعل، كان أول إجراء سيعتمد هو لجوء الصندوق المغربي للتقاعد إلى سيناريو الزيادة في الاشتراكات المهنية لتحقيق التوازن المالي لتنتقل مساهمات المنخرطين من 7 في المائة إلى 10 في المائة ومساهمات المشغل من 7 في المائة إلى 10 في المائة كذلك، وهو إجراء يساوي المنخرط بالمشغل في الاقتطاعات، وهذا استثناء عالمي لا يوجد إلا في المغرب، ومع ذلك تعتبر الدراسة النظام سخيا تجاه المنخرطين. قد لا يفوتنا أن نشير إلى الإصلاح الترقيعي الآخر الذي شمل تشجيع الموظفين على مغادرة الأسلاك الإدارية بهدف تقليص حجم كتلة الأجور من 12 في المائة إلى 8 في المائة، غير أن من أهم انعكاسات هذا الإجراء أنه كان إجراء ماليا أكثر منه إصلاحا للنظام، لأن فاتورة تقليص حجم كتلة الأجور التي تصرفها الدولة تحملها، بشكل غير مباشر، المنخرطون في نظام المعاشات المدنية. لعل قضية المحافظة على التوازن المالي للصندوق المغربي للتقاعد قد أصبحت أكثر تعقيدا في غياب جرأة حقيقية على إصلاح النظام من خلال الحد من تدني الفائض المالي وتزايد عدد المستفيدين. فإذا كانت فرنسا، من منطلق تداركها لتحقيق تنمية متوازنة بالتوفيق بين التطور الصناعي والتطور الاجتماعي الإيجابي، قد عمدت إلى الرفع من سن التقاعد من 60 سنة إلى 62 سنة، علما بأن إرساء أي مقاربة إصلاحية لضمان ديمومة واستمرارية أنظمة المعاشات لا يمكن أن تكون فاعلة ونافذة خارج ملامسة حقيقية وموضوعية لحجم الإكراهات، فهل السيناريو المحتمل بالمغرب للإصلاح سيبتعد عن الرفع من الاقتطاعات رحمة بالموظف؟