قبيل نهاية الألفية الثانية عاشت المجتمعات البشرية على إيقاع انهيار المعسكر السوفياتي، وحينذاك هب الكثير من المحللين الاقتصاديين والسياسيين إلى استصدار مواقف متباينة فيما يخص التطورات اللاحقة لهذا الحدث الكبير. ونشرت جريدة «فايناتشل تايم» مقالا لجيمس مورغان جاء فيه «أن انهيار المعسكر السوفياتي قد ترك المجال شاغرا أمام صندوق النقد الدولي ومجموعة السبعة الكبار G7 للتحكم في العالم وخلق مرحلة إمبريالية جديدة... وإن إقامة نظام عالمي جديد هي صنيعة السبعة الكبار وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية غير أن هذا النظام يعمل ضمن نسق غير مباشر للحكم...». لسنا هنا بحاجة إلى إعادة تقرير هذه المسلمة التي أصبحت بديهية لدى العام والخاص، أيضا لسنا بحاجة إلى إعطاء مواقف مختلفة إزاء التطور الذي لحق بالمجتمعات السائرة في طريق النمو من حيث انصهارها أو عدمه في متطلبات العولمة ومتطلبات اقتصاد السوق في مرحلته الجديدة لأنه ببساطة لم يعد لها إلا خيار الانخراط في هذا التطور، مادامت لا تملك المقومات الحقيقية لولوج أي خيار آخر قادر على الإجابة على الإشكالات التي تعانيها التنمية فيها. إلا أن ترتيب أوضاع المجتمعات الفقيرة وبنياته الاجتماعية في إطار نظام عالمي جديد وفق متطلبات السوق الجديدة، كلف وسيكلف القوة العظمى الكثير من الأزمات الاقتصادية والمالية مما سينعكس على مستوى العلاقات الدولية بإفراز تكتلات اقتصادية وبالتالي سياسية تسعى إلى المساهمة في هذا الترتيب، هذه التكتلات الاقتصادية التي تتطور ضمن قوانين المنافسة التجارية الحرة والمضاربات المالية القوية، أفرزت بشكل أو بآخر، بتوجيه من المؤسسات المالية الكبرى تحالفات متنوعة من أجل البقاء على المصالح للكثير من الشركات المتعددة الجنسيات في نفس الوقت الذي أطاحت فيه بالعديد من المؤسسات الاقتصادية في عالمي المال والأعمال (شركات، معامل، مصانع...). هذه الوضعية الجديدة التي زلزلت كل البنى المتخلفة، واكبت التطور غير المسبوق لوسائل الاتصال السمعية البصرية ووسائل الإعلام والمعلوميات بشكل عام، والذي ساعد على تحقيق سرعة الانتقال في الحين إلى متابعة هذه التشوهات الجديدة التي يلحقها التطور العولمي في اتجاه تحقيق ما تصبو إليه القوى العظمى المعاصرة، كما واكبت في نفس الوقت الاستهانة بكل القيم والقوانين الدولية المساعدة على إبقاء ظروف الحوار والتواصل الدولي مفتوحا للعموم؛ من دونه لا يمكن للبشرية جمعاء أن تنعم بالأمن والسلام الدوليين؛ في إطار مؤسسات دولية (الأممالمتحدة، مجلس الأمن...) تحترم فيها السيادة الدولية لكل الأمم. في ظل هذه الشروط الدولية، دأبت القوى العظمى على عقد منتدى اقتصادي عالمي سنوي بمنتجع دافوس بسويسرا منذ عام 1970 تحضره كبار الشخصيات الاقتصادية والتجارية، هدفه التفكير في كيفية ترتيب أوضاع العالم بشكل يضمن هيمنتهم الاقتصادية وأمنهم القومي . هذه القوى تجمعهم قواسم مشتركة من مثل تشجيع النظام الليبرالي الجديد والانخراط فيه والانفتاح على كل تيارات الاقتصاد العالمي. في المقابل ومن أجل مناهضة التشوهات التي أفرزها النظام العالمي الجديد وبناء مشروع سياسي يجمع المعارضات المتنوعة للعولمة الليبرالية, ويوفر مساحات للنقاش وتلاقح الأفكار استطاعت حركة مناهضة العولمة فرض وجودها منذ انطلاق مظاهرتها الأولى في «سياتل» الأمريكية، وأصبحت الآن حركة تضم آلاف منظمات المجتمع المدني؛ في هذا الإطار اجتمعت وفود من 8 منظمات من مختلف دول العالم في ساو باولو ووقعوا على اتفاق تعاون لعقد المنتدى الاجتماعي الأول في بورتو اليغري بالبرازيل من 25-30 يناير 2001 كرد مباشر على المنتدى الاقتصادي العالمي وكخطوة أولى في مسلسل بناء عالمٍ أكثر إنسانية وأقل استغلالا وظلما عن طريق إيقاف هجمة العولمة الرأسمالية القائمة على الهيمنة. انطلاقا من شعار «يمكننا بناء عالمٍ آخر» وُلدت عبارة «العولمة المغايرة» وشكّل المنتدى الاجتماعي العالمي مشروعاً سياسياً يجمع نشطاء فاعلين على عدة مستويات يمكن الاعتماد عليهم في التغيير المراد إحداثه عبر صياغة بدائل تؤسس لعولمة الشعوب المتضامنة كمرحلة جديدة في تاريخ العالم, عولمة تحترم حقوق الإنسان في عمومها - حقوق كل المواطنين (المرأة والرجل) حقوق كل الأمم – حقوق البيئة, عولمة تتأسس على أنظمة ديمقراطية دولية ومؤسسات في خدمة العدل الاجتماعي والمساواة وسلطة الشعوب. يقوم المنتدى على محاربة تمركز الثراء وانتشار الفقر وعدم المساواة، ويعتبر الكفاح والمقاومة أساس تحالف واسع ضد نظام يعتمد على التفرقة الجنسية والعنصرية والعنف، نظام يعطي الأولوية دائما لرأس المال قبل احتياجات وآمال الشعوب، وهذا النظام مأساوي؛ ففي كل يوم يموت نساء وأطفال ومسنون بسبب الجوع أو عدم إمكانية العلاج، ويتم طرد أسر بأكملها من بيوتها بسبب الحروب والمشاريع الصناعية الضخمة، والاستيلاء على الأراضي أو الكوارث البيئية. مجتمعات كاملة تعاني من البطالة ومن الاعتداء على القطاع العام والضمانات الاجتماعية. خلال كل دورة للمنتدى يجتمع أزيد من 15 ألف مشارك في إطار 2500 ورشة عمل لمناقشة موضوعات متنوعة لأجل هندسة تصورات حول إمكانية توجيه العولمة في ما يخدم الأمم والشعوب خاصة المستضعفة منها, يحضرون من مختلف أقطار العالم منهم من يتحمل نفقات التنقل والإعاشة بمفرده ومنهم من يحصل على تمويل من منظمات غير حكومية وكثير منهم من يحصل عليه من الجهات الرسمية بطريقة غير مباشرة لخدمة وتمرير خطابات معينة داخل المنتدى. وفي مدة وجيزة أصبح المنتدى الاجتماعي العالمي محطة أساسية ومختبرا ثقافيا دوليا لمناقشة قضايا الدول المتخلفة, بحيث إن العديد من الخبراء يثمنون هده التجربة , وفي ذات السياق , فالأعداد المتزايدة من المشاركين في هذه التظاهرة العالمية تؤكد أنها أصبحت نموذجا للنضال ولعل في الرسالة التي وجهها الأمين العام السابق للأمم المتحدة السيد كوفي عنان للمشاركين في دورة 2002 دليل على فعالية ومصداقية هذا النوع من النضال الجماهيري الموسع حيث قال السيد الأمين العام في رسالته «كنت أتمنى أن أكون معكم اليوم؛ فإنه حقا شيء رائع وجود هذا الجمع من منظمات المجتمع المدني من أجل مناقشة قضاياهم». مما يعني أن قدرة الأممالمتحدة على تحسين معيشة الأفراد تعتمد على قدرة فعاليات المجتمع المختلفة على العمل معا للبحث عن حلول عملية. إن التحديات التي تواجه المنتدى الاجتماعي في دورته الثامنة التي ستقام أواخر يناير الجاري 2009 بمدينة بليم البرازيلية هو مدى قدرة مناهضي العولمة على تجديد طرحهم وتحديد أجندتهم بشكل يعمل على تحسين حياة الأشخاص على هذا الكوكب الذي يشبه قاربا صغيرا في عاصفة شديدة يحيطه الظلام والمجالات المجهولة، وعلى سطحه ازدحام من البشر يأملون في الحياة، ولا أحد منا يستطيع تجاهل حالة الركاب؛ فإذا كنتَ مريضا فقد تنتقل العدوى لي، وإذا كنتَ غاضبا فقد نصاب بسهولة. إن المطالب التقليدية لمناهضي العولمة من مثل إلغاء ديون العالم الثالث أصبحت متجاوزة خاصة مع ظهور أفكار وبدائل أكثر واقعية وقادرة على ترجمة أحلام الشعوب على أرض الواقع. إنه غير كاف أن تقول -رغم أنه حقيقي-: إنه بدون التجارة لن يكون لدى الفقير أي أمل للهروب من فقره؛ فهؤلاء الذين يملكون السلطة والتجارة يجب أن يظهروا أن الاقتصاد يمكن أن يجلب فوائد اجتماعية كثيرة، ولكن في الوقت نفسه على المجتمع المدني في الجنوب أن يظهر قدرته على التغيير بدلا من البقاء منعزلا في مناقشاته المستمرة واتهاماته للآخرين فيجب أن يتصافح المجتمع المدني في العالم المتقدم مع مثيله في العالم النامي لتشكيل تحالفات مشتركة وإيجاد حلول بناءة.