الحلقة 35 : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected] يقال إنك كنت متسلطا في أسلوب إدارتك للتحرير، وكنت تتدخل حتى في الأمور الشخصية المرتبطة بشكل اللباس الذي يفترض أن يرتديه المحررون، بل وصل بك الأمر إلى فرض ارتداء ربطة العنق عليهم؟ -نا لم أكن متسلطا وإنما كنت صارما، وتمة فرق بين التسلط والصرامة. وفعلا، هناك كثيرون وجهوا لي هذا الانتقاد، وبعضهم أصدقاء أقدرهم. لكن دعني أدافع عن نفسي، وبعد ذلك يصدر الحكم، سواء كانت الإدانة بتهمة «التسلط» أو «البراءة» منها. لدي اعتقاد بأن الأناقة الفكرية مرتبطة بالأناقة الشخصية. بعض زملاء المهنة يعتقدون أن الصحافي ليس موظفا حتى يرتدي بذلة وربطة عنق، وأن الصحافيين يفترض أن يرتدوا سراويل الجنيز والأحذية الرياضية والقمصان كيف ما اتفق، لأن عملهم ميداني. شخصيا أنجزت أعمالا ميدانية، وغطيت حروبا أعتقد أن قلة قليلة في العالم، ولا أقول في المغرب أو العالم العربي، من الصحافيين أتيحت لهم الفرصة لتغطيتها. حروب تمتد من أريتريا والصومال إلى ليبريا وسيراليون، وأزمات بطول وعرض القارة الإفريقية، وغطيت أحداثا كان يمكن أن تكون تغطيتها بربطة عنق أمرا سخيفا. على سبيل المثال اختطاف الطائرة الكويتية «الجابرية» في أبريل 1988، حيث بقيت مرابطا ليل نهار قرابة عشرة أيام أنام على الحشائش، في ساحة ملاصقة لمطار «هواري بومدين» في الجزائر العاصمة، وحققت «الشرق الأوسط» نتيجة تغطية ذلك الحدث أعلى رقم مبيعات في تاريخها منذ صدورها في يوليوز عام 1978 وفي جميع الأسواق التي توزع فيها، وهو رقم لم تتجاوزه حتى اليوم، ونلت جائزة وشهادة بذلك موجودة فوق مكتبي في أكدال لمن يريد أن يستوثق. لكن بالمقابل، لا يمكن أن تطلب مني أن ألتقي رئيس دولة أو وزيرا أو مسؤولا وأنا أرتدي سروال جينز، وتقول لي إن الصحافي من حقه أن يرتدي ما يشاء لأنه صحافي. بالفعل طلبت من المحررين عندما يكونون في مهام رسمية أو في قاعة التحرير أن يرتدوا ربطة عنق وألا يحضروا بسروال جينز. وبالنسبة للصحافيات طلبت منهن عدم لبس «الجلابة». كنت أقول لهم إن النادل في مقهى شعبي ب«ثلاثاء بوكدرة» أو «جمعة سحيم» أو «إمنتانوت» أو «الزغنغن» يرتدي قميصا أبيض وفراشة (بابيون) ولا يمكن لصحافي ألا يهتم بهندامه. وماذا كان رد فعل الصحافيين على طلبك؟ - بعضهم امتثل لذلك، في حين لم يتقبل آخرون الفكرة، وعارضوها بلا هوادة. وكان من أكثر الرافضين رشيد نيني وعبد الله الدامون. وأتذكر أني قلت لرشيد نيني بعد أن تعبت من إبداء ملاحظات حول مسألة ربطة العنق: «يا سي رشيد إذا لم ترغب في ارتدائها، علقها فوق مكتبك». وراقه هذا الاقتراح،. وأتذكر أنه أحضر فعلا ربطة عنق وجاء بدبوس وعلقها فوق مكتبه. لعله أراد أن يسخر من الفكرة بطريقته المعهودة. حين وصلت الأمور إلى هذا المنحى السوريالي، لم أعد ألح في الطلب. وهكذا ظلت ربطة العنق في مكانها، لكن الذي حدث هو أن رشيد هو الذي سيقرر ألا يبقى في مكانه لأنه غادر الصحيفة. لا أتذكر متى تم ذلك، ربما يتذكر هو، لكنه كان المحرر الوحيد الذي قرر أن يغادر، ليس بسبب ربطة العنق بطبيعة الحال، لكنه أراد أن يطلق الصحافة المكتوبة وأن يعمل في المجال التلفزيوني، حيث عمل مع «القناة الثانية» كصحافي في مديرية الأخبار قبل أن يصبح صاحب برنامج أشبه ما يكون بالبرامج الوثائقية، تحت عنوان «نوستالجيا». وما الذي قلته لرشيد نيني بعد أن قرر مغادرة «الصباح»؟ - أنا كنت ضد أن يغادر، ولهذا طلبت منه البقاء، لأنه أصبح وقتها من «نجوم» الصحيفة، وهنا لا أجامل، ولست مضطرا لذلك، إذ أصبحت زاويته «دردشة» من الزوايا المقروءة جدا، وأسلوبه الساخر في كتابة القصص الملونة كان ملفتا. وماذا قال لك بشأن انتقاله إلى العمل مع القناة الثانية؟ - أنت تعمل مع رشيد نيني، وأكيد أنك تعرف طبعه. هو شخص كتوم وخجول وصامت، هكذا دائما عرفته، لكنه عندما يكتب يكون عنيفا ومهولا وله أسلوب لاذع وقارص. حتى بعد أن التقيته عقب سنوات من القطيعة، وجدته كما هو لم تتغير طباعه: الخجل وقلة الكلام. قال لي في ذلك الوقت، أي عندما قرر أن يغادر «الصباح»، إنه يريد أن يقتحم مجال العمل التلفزيوني، مشيرا إلى أنه تلقى عرضا جيدا، لكن صلته بالصحافة المكتوبة ستبقى، وبالتالي مع الصحيفة. ألححت عليه مواصلة الكتابة في«الصباح»، وقلت له وهو يتذكر ذلك جيدا: «أنت صحافي مجالك الحيوي هو الصحافة المكتوبة». وتشاء الظروف أن يعود إلى هذه الصحافة بعد سنوات، ويكون له مشروع ناجح، ومؤسسة لها حاليا عدة إصدارات. كنت أول من أخبر دلمي برحيل رشيد نيني من «الصباح»؟ - نعم، ودعني أقول لك معلومة. عندما أبلغت عبد المنعم دلمي بمغادرته، طلب مني أن ألح عليه بالاستمرار في الكتابة، وأتذكر أنه قال لي بالحرف:«كابي من المعجبين به، وينوه به دائما، وأنا كذلك». و«كابي» اسم تحبب كان يستعمله دلمي للإشارة إلى خالد بليزيد. متى تعرفت على رشيد نيني؟ - أول من لفت انتباهي إلى كتاباته كان أستاذي محمد العربي المساري. قال لي: «هناك كاتب وشاعر شاب أرجو أن تحرص على قراءة ما يكتب في الصفحة الأخيرة من العلم»، ورحت بالفعل أقرأ تلك الكتابات التي كانت تنضح بالسخرية السوداء. لا شك أنه موهوب في هذا الجانب، وقال لي المساري إن «العلم» تنوي توظيفه، لأنه كان يعمل وقتها متعاونا. ومتى تعرفت عليه شخصيا؟ - بقي اسمه في ذهني إلى أن أصدر أسبوعية باسم «أوال»، أي الكلام. كانت صحيفة حافلة بالسخرية، وجاء يطبعها في مكتب للرقن والإخراج على الكومبيوتر، كانت تديره زوجتي. ظل يطبع تلك الصحيفة على نفقته، ومن الواضح أنه لم يكن يتوفر على إمكانيات مالية، لذلك تدخلت من أجل أن تطبع الصحيفة بسعر معقول. اعتقد أنها كانت مجرد مغامرة مهنية. وكتب افتتاحية ساخرة إلى أقصى حدود السخرية، حول معنى أن يصدر صحافي صحيفة على حسابه. لاحظت بالفعل أنه ساخر جدا وخجول ومقل في كلامه. لا تعرف بالضبط ما هي انفعالاته ومشاعره وفيما يفكر. بعد تلك التجربة القصيرة مع «أوال» اختفى، حتى سمعت أنه هاجر إلى إسبانيا. وعلى أي حال، هو كتب عن تلك التجربة في كتابه «يوميات مهاجر سري». كم طبع من «أوال»؟ - أعتقد في حدود ثلاثة أو أربعة أعداد. ربما يكون هو الأجدر بالجواب الدقيق. هل كان يسدد قيمة تلك الأعداد بانتظام؟ - نعم كان يفعل. من الواضح أن الصحيفة كانت بلا إمكانيات أو دعم، لكنه بدا حريصا على مصداقيته. وهل انقطعت أخباره عنك بعد سفره إلى إسبانيا؟ - لم أعد أسمع بأخباره إلى أن تحدث معي الصديق حسن نجمي، وكان آنذاك رئيساً لاتحاد كتاب المغرب، وأنا آنذاك رئيس تحرير»المنعطف». ربما كانت بينهما مراسلات، هكذا خمنت. على أي حال، هما الأقدر على الحديث حول الأمر. قال لي نجمي إن رشيد نيني يرغب في وضع حد لمغامرة مرهقة، وهو على أي حال كتب عنها بالتفصيل في كتابه، ومن حسن الحظ أن الإعداد لمشروع «الصباح» كان قد انطلق، فاقترحت عليه أن ينضم للمجموعة وأن يعمل رئيسا للقسم الثقافي. هل تتذكر كتاباته، أي العمود الذي كان يكتبه؟ - قبل أن يبدأ كتابة عموده «شوف تشوف» في «الصباح» كان قد طُلب مني النزول من العربة، وأعتقد أنه جلب عددا كبيرا من القراء للصحيفة. هذه هي الحقيقة، ولا أدري ما هي أسباب خلافه مع مسؤولي «الصباح». ربما هو الأجدر بالحديث عن ذلك، لكن كانت قد حدثت بيننا قطيعة وتباعد، ولم نلتق قط إلا في 22 أبريل الماضي، لكن لابد أن أشير إلى أمر له حمولته العاطفية، عندما اقترح علي نشر هذا الكتاب، أي «صحافة تأكل أبناءها»، وبالطريقة التي ينشر بها حاليا في «المساء». قلت له، وهو أكيد يتذكر الواقعة، «إني سأستشير مع أبنائي حول الموضوع». وفعلا فاتحت كل من رؤى وامرئ القيس في الأمر. بالنسبة لامرئ القيس، ربطته علاقة لطيفة مع رشيد عندما كان صغيرا يزورني في «الصباح» بين الفينة والأخرى، وما تزال له بعض الذكريات عن تلك الفترة. أتذكر أن «قيس»، كما نناديه، التقى رشيد في أكدال بعد سنوات، وكان سعيدا بلقائه. وجاء وأخبرني بذلك وكنا (أنا ورشيد) وقتها في حالة تباعد تام، فقلت له: «أحسنت فعلا. لا يجب أن تدخل في خصومة مع أي شخص». وأوضحت له أن الصغار يجب أن يبتعدوا عن مشاكل الكبار، وعندما أبلغت امرأ القيس بالمشروع على أساس أن يبقى طي الكتمان كان متحمسا جدا، والأمر نفسه بالنسبة لرؤى، وعندما قررت زيارة مقر «المساء» في الشهر الماضي، طلب مني امرؤ القيس أن يرافقني إلى هناك، واقترحنا أيضا على عثمان أخيه الأصغر أن يذهب معنا، وفي الطريق أبلغتهما بجميع تفاصيل الموضوع المرتبطة بهذا الكتاب، بما في ذلك الأمور المالية، وطلبت منهما عدم تداول تلك المعلومات. وهذا هو أسلوبي، أن يعرف أبنائي جميع تفاصيل حياتي، لأن من حقهم ذلك. ما هي المهام التي قام بها رشيد نيني في «الصباح»؟ - كان رئيس القسم الثقافي، كما أسلفت، ولاحظت أن له علاقات واسعة مع المثقفين. صحيح كانت هناك مجموعة يبدو أنه كان قريبا منها، وآخرون توجد معهم مسافة، هذا أمر طبيعي، إذ كنت أعرف بأنه شاعر وقرأت له بعض أشعاره، لكن أظن أنه الآن مقل، وربما لم تعد طاحونة العمل اليومي تترك له مجالا لكتابة الشعر. في تلك الفترة، كان شابا خجولا، دائرة صداقاته محدودة. كان منضبطا جدا، يأتي في الوقت ويذهب في الوقت ويستعمل القطار، ومن النادر أن يدخل في لغو القطارات، ولاحظت أنه كان يقرأ كثيرا. كنت ألاحظ اهتمامه بما يجري في إسبانيا ويتحدث دائماً مع عبد الله الدامون حول ما يجري هناك، وكما قلت: كان كتوما قليل الحديث وجديا في عمله. أنا هنا أتحدث عن رشيد نيني الذي كنت أعرفه قبل عقد من الزمان، وليس الآن. كانت ملامحه جدية، لكنه يكتب بطريقة ساخرة جدا، ولا أنسى أنه كتب ذات مرة عن سينما أصبحت مهجورة في حي «بوركون» في الدارالبيضاء، وقدم صورة في منتهى السخرية حول المغاربة الذين كانوا يدخلون تلك السينما، في فترة الحماية. كان رواد السينما من الناس البسطاء، رؤوسهم مليئة بالقمل أو هكذا كان يعتقد الفرنسيون، لذلك كانوا يغلقون القاعات السينمائية كل خميس لرشها بمبيد، كما يرش الجراد قبل أن يدخلوها طيلة باقي أيام الأسبوع. هذه القصة كتبها رشيد نيني بشكل كاركاتيري، ويومها أدركت بأننا أمام كاتب ساخر جدا، وقلت له ذلك. خلال اجتماعات التحرير كان يميل إلى الصمت، وعندما لا يعجبه أمر يبدو الضيق واضحا على ملامحه، وإذا أعجب بشيء ما يبتسم. كان منتجا جدا ولديه إنتاجية مرتفعة. لقد اعتدت في بعض الأحيان أن أصطحب أحد المحررين إلى مطعم سمك في الدارالبيضاء، بصراحة لم أعد أتذكر موقعه. ومرة دعوته لنتناول الغداء سويا كما فعلت مع الآخرين. بيد أني لاحظت الشيء نفسه: شخص متحفظ لا يميل إلى الحديث كثيرا. لم يقل شيئا. كان كلاما عاديا جدا. في تلك الجلسة عرفت لأول مرة أنه من ابن سليمان وأنه من أصول أمازيغية وأنه درس في المحمدية، لكني أيقنت أنه شخص لا يميل للحياة المفتوحة، بل يفضل نمط الحياة المنغلقة. ألم يعترض عليك المحررون مرة على أسلوبك في إدارة التحرير؟ - ليس بهذه الصيغة، لكن أتذكر أني تلقيت مرة منهم عريضة وقع عليها جميع المحررين، ومازلت أحتفظ بها في وثائقي. كانت بتاريخ 9 يونيو 2000، وكانوا يحتجون فيها على عبارة تفوه بها سمير السيفر، المدير الإداري والمالي، على أمر يتعلق بالنظافة في قاعة التقنيين، وقال، كما كتب المحررون في عريضتهم بالدارجة: «واش هادو بنادم ولا حيوانات». وهدد المحررون باللجوء إلى الرئيس المدير العام للشركة إذا لم أبادر باتخاذ إجراء. وأتذكر أن رشيد نيني كان من الذين تزعموا هذه العريضة. وبالطبع لم يكن ممكنا أن أتخذ شيئا ضد السيفر لسبب بسيط هو أنه مدير إدارة ولا سلطة لي عليه، وبكل موضوعية كان شخصا لطيفا، وربما تفوه بتلك العبارة في لحظة غضب لا أقل ولا أكثر. تحدثت معه بكل ود حول الموضوع. كما تحدثت مع عبد المنعم دلمي، وقلت لهما إني سأعالج الأمر. وبالفعل استدعيت التقنيين فرادى واعتذرت لهم، وطلبت منهم عدم تصعيد الأمور. كما تحدثت مع المحررين فرادى، وقلت لهم إني لا أقبل أن يتعرضوا لأي إهانة من أي أحد، لكن كما يقال «المسامح كريم». وانتهى الأمر عند ذلك الحد. سبق لنادية صلاح أن كتبت تقول إنه لولا «الصباح» لما أصبحت تلك المجموعة صحافيين؟ - سمعت ذلك، لكن هذا القول بصراحة لا معنى له. هذا ضرب من الحديث يشبه ما كان يسميه ابن حزم بالتشغيب، أي اللعب بالألفاظ لتبرير الباطل أو نشر الترهات. صحيح أنه عندما جاءت تلك الكوكبة كان بعض أفرادها في بداياتهم المهنية، لكن كان لديهم تكوين ثقافي وعلمي جيد جدا، ثم إن الشركة لم تدخلهم أي معهد للتكوين أو للتدريب حتى يتعلموا منه المهنة، وما حدث أنهم انخرطوا مباشرة في العمل. كان دوري هو التوجيه ورسم الخطوط العامة، لكن في النهاية هم الذين، حققوا، وحاوروا، واستطلعوا، واستفسروا، وترجموا، وصاغوا، وكتبوا... تلك المجموعة الرائعة هي التي خلقت «الصباح»، وتركت لأصحابها عائدات مالية طائلة. هذه هي الحقيقة. لقد كان عليهم على الأقل، ولو من باب التكريم المعنوي، نشر أسمائهم عندما كانوا يعدون في كل سنة ملحقا حول ذكرى صدور الصحيفة، بل كنت أتوقع استدعاءهم للحفلات التي تنظم في تلك المناسبة. لكن كل ذلك لم يحدث. عشر سنوات ولم تستطع الصحيفة تغيير «ماكيط» الصفحة الأولى! تركوه على حاله كما تركته، ولا أعتقد أن لديهم القدرة على أن يفعلوا ذلك، وبعد ذلك يقولون إن «الصباح» هي التي علمتهم الصحافة. أعتقد أن هذا يدخل في باب الجحود. راج على نطاق واسع أنك كنت ضد زيادات أجور بعض الصحفيين في «الصباح». ما هي وقائع هذه القصة؟ - دعنا نكون واضحين في هذه المسألة. النظام الذي تعمل وفقه الشركة كان يقتضي توقيع عقود مع المحررين لمدة ثلاثة أشهر، تمدد إلى ستة أشهر في بعض الحالات، وفي حالة ما ارتأت الشركة ذلك، وأعتقد أن الوحيد الذي مدد عقده لمدة ستة أشهر كان هو أحمد جلالي، وبكل صراحة لا أتذكر الحيثيات، لكن المؤكد أن ذلك لا يقلل من كفاءته المهنية. بالنسبة لباقي المحررين، قيل لي إنه بعد سنة، وكما جرت العادة، تملأ استمارات «التقييم السنوية» بالنسبة للتحرير، من طرف رئيس التحرير، وللأقسام الأخرى من قبل مدير القسم. وهناك أيضا نظام الحوافز والمكآفات. وأتذكر أنني تسلمت تلك الاستمارات قبل فترة قصيرة من إقالتي، وكتبت فيها ملاحظاتي، ولا أعرف ماذا حدث بعد ذلك. ثم لا أفهم لماذا أقف ضد زيادة رواتب المحررين، وأنا أعتقد، وهذا رأيي حتى اليوم، أن أجور الصحافيين في الصحف المغربية هزيلة جدا، فماذا بربك يفعل محرر حاليا براتب في حدود ستة آلاف درهم مثلا، و يريد أن يكتري شقة ويشتري سيارة بالأقساط؟ ماذا يتبقى له؟ وكيف يحافظ على نزاهته المهنية بهذا القدر المالي الهزيل؟. دائما كنت أقول إن العمل هو الذي يحدد الراتب وليس الراتب هو الذي يحدد العمل. لذلك كنت ألح على زيادة الأجور، لكن إدارة الشركة كانت تقول إنه يجب أن نحقق التوازن المالي في البداية، وعلى الرغم من ذلك كنت أرد بالقول إن الصحفيين غير مطلوب منهم تحقيق توازن مالي، فهم يؤدون عملهم، وإذا كان هذا العمل يستحق فيجب أن يقال لهم ذلك وأن تتجسد الأقوال في أفعال، أي زيادة الأجور، والأمر الوحيد الذي أقر به ألا تكون الزيادة متساوية، أي أن تتفاوت الزيادات طبقا لأداء كل محرر، أي أن تكون هناك زيادة تشمل الجميع، لكن تتفاوت من محرر إلى آخر. ثم دعني أقول لك شيئا منطقيا: لماذا أعارض زيادة الأجور؟ هل كنت شريكا معهم في الشركة؟ أنا كنت أيضا أجيرا، ولم يحدث أن حصلت على سنتيم واحد زيادة حتى طلب مني أن أغادر، وسأبين لك ما هو المبلغ الذي سدد لي وقتها، كما أن كل رحلاتي إلى خارج المغرب كانت بدعوات، أي أنني كنت أقيم على حساب الجهات التي وجهت لي الدعوات. ربما تكون هذه الأقاويل راجت بين المحررين بسبب الظنون فقط، لأنهم لم تكن لديهم معرفة حول ما كان يجري بيني وبين إدارة الشركة من نقاشات. والخلاصة، التي أؤكدها لك أنني أينما ذهبت طالبت بزيادة رواتب الصحافيين وتحسين وضعيتهم، ولم يحدث على الإطلاق أن اعترضت على زيادة راتب محرر، كما لم يحدث أن فصلت محررا على الإطلاق. منذ 27 سنة وأنا في موقع المسؤولية عدة مرات لم يحدث أن فصلت محررا، وهناك ربما من كان يستحق أكثر من الفصل، أي أولئك المرتشين والفاسدين والمتآمرين. كانت القاعدة التي أعمل وفقها إلى الآن أنه يجب أن نأخذ من الناس أفضل ما لديهم، أما سلبياتهم فأمرها متروك لرب العالمين، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. وبالنسبة لي شخصيا أتحدى أي جهة كانت، سواء كانت «الشرق الأوسط»، التي ما زلت أتشرف بالعمل معها، أو جميع الصحف داخل وخارج المغرب، أن ناقشت أحدا حول الراتب الذي أتقاضاه. أنا أتناقش فقط، وأؤكد فقط، حول كتبي، وهذا حق لا أتنازل عنه.