بعد النجاح (المحدود) الذي حققه فك الارتباط عن غزة، حان الوقت الآن لفك ارتباط من نوع آخر يحرر إسرائيل من قيود التأثير المُفسد لأثرياء اليهود في السياسة. إن أحد الاستنتاجات، التي خلص إليها التحقيق الصحفي المدقق والمثير للإعجاب الذي أعده الصحفي جيدي فايتز حول الملياردير النمساوي اليهودي مارتن شلاف وأنشطته في إسرائيل، والذي نشر في صحيفة «هآرتس» عشية عطلة رأس السنة اليهودية، هو أن أغنى أعضاء الجالية اليهودية في العالم الذين يديرون رحى الأمور في إسرائيل يتسببون، أحيانا كثيرة، في أضرار أكبر مما قد يجلبونه من منفعة. المليادير شلاف ليس أول أخطبوط اقتصادي يهودي -ولن يكون الأخير- تمتد أذرعه المتعددة والطويلة داخل دواليب إسرائيل السياسية، فإسرائيل كانت منذ تأسيسها ملعبا للأقطاب اليهودية المتنفذة، التي يفضل معظمها عدم الاستقرار فيها وإدارة الأمور من بعيد عن طريق أمواله. صحيح أن قيام إسرائيل لم يكن ممكنا إلا من خلال أسباب عديدة، من بينها الأموال اليهودية التي كانت تتدفق منذ أيام روتشيلد، غير أن دولة قوية مثل إسرائيل يجب أن تتعلم متى يمكنها الإفلات من قبضة هذه الأموال. فشخصيات من مثيلات شلاف ورون لودر وادغار برونفمان وشيلدون إديلسون وإيرفينغ موسكوفيتش وميشولام ريكليس وآري جنجر وغيرهم، باتت تمتلك تأثيرا أكثر من اللازم في دواليب السياسة الإسرائيلية. بعض هؤلاء يدير مجريات الأمور في إسرائيل لزيادة ثرواته الخاصة، مستفيدا من الامتيازات التي تغدقها عليه إسرائيل، والبعض الآخر يستثمر في إسرائيل بدوافع صهيونية محضة. ولكن عددا غير قليل منهم يفعل ذلك ليُسليَ نفسه بلعبة النفوذ السياسي في دولة تسمح له بالإفلات من العقاب. في أي بلد غربي آخر، يكون المواطنون الأجانب قادرين على تحريك دواليب السياسة إلى حد كبير من هذا القبيل؟ لا يوجد أي بلد آخر في هذه البلدان تكون فيه أبواب الزعماء السياسيين مشرعة في وجوه هؤلاء الرعايا الأجانب فقط بسبب ثرواتهم. مثل هذا المشهد يحدث فقط في بلدان العالم الثالث، التي تزعم إسرائيل أنها ليست منها. ولكن هذه العملية القذرة -التي تزاوج بين المال والسياسة- تحتاج دوما إلى عنصرين. فاليهود الأثرياء الذين يسعون إلى التحكم في مجريات الأمور غالبا ما يرافقهم سياسيون إسرائيليون يوافقون، بحماس مطلق، على هذا النوع من التودد. ووراء كل سياسي إسرائيلي ناجح هناك ملياردير يهودي، وخصوصا بعد اعتماد نظام الانتخابات التمهيدية. وكل مليادير متنفذ يجر وراءه سياسيا أليفا قام باستئناسه. وقد بات موقف بعض السياسيين الإسرائيليين المذعن لرجال المال هؤلاء أمرا مخزيا، فقد جندت مكاتبهم للتأكد من الإطراء على الرجل الغني، كما أن تيميم هؤلاء السياسيين وجوههم نحو كبار رجال الأعمال وانغماسهم في عطاياهم أصبح أمرا لا يطاق. إن تأثير هؤلاء الأفراد الأثرياء على السياسة هو تأثير فاسد ومفسد، حتى وإن لم يكن هذا التأثير يحمل أي شبهة جنائية. إن التحقيق الصحفي الذي قام به فايتز يلقي الكثير من الضوء على إسرائيل وحياة النخبة فيها، بالإضافة إلى حالة الملياردير شلاف، بطل مقالته. ففي المقال، يمكن معرفة كيف تم استدراج النظام الإسرائيلي إلى إقامة كازينو في أريحا، فجأة أصبح في إمكان إسرائيل التعاون مع الفلسطينيين، فقط لملء جيوب هذا الملياردير وبعض أتباعه في إسرائيل. رجل المال أديلسون يصدر إحدى الصحف، وموسكوفيتش يبني المستوطنات، ولودر يتفاوض باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي، وريكليس ساعد على شراء مزرعة، وجنجر ساعد على تمويل محاكمة تشهير، وجميعهم أنصار اليمين. اليسار لديه أيضا بعض الأباطرة على الرغم من أن أعدادهم قليلة وتأثيرهم أقل بكثير. عندما يمول موسكوفيتش المستوطنات التي تصدر الحمضيات التي تدفع ثمنها إسرائيل -وليس هو- فيجب تنحيته من التأثير في هذه المسألة. وكما أن مصلحة إسرائيل، المتمثلة في اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة المولع بالقتال والمتزمت، باتت أمرا مشكوكا فيه -إلى حد أنه، ولفترة طويلة، بدا أنه سيكون من الأفضل لإسرائيل أن يختفي هذا اللوبي تماما- فإنه يجب علينا أن التساؤل الآن حول الأموال اليهودية التي تتدفق على إسرائيل من أولئك الذين يختارون عدم العيش فيها.. هل تستفيد إسرائيل فعلا من هذه الأموال، أم إن الأمر لا يتعدى بناء وكر للفساد؟ لقد أثبت تقرير «هآرتس» حول شلاف حجم الفساد الذي ينتج عندما يلتقي طريق ملياردير يهودي مع طريق سياسي إسرائيلي. لذلك فقد حان الوقت للبدء في فك الارتباط الوثيق بين المال والسياسة. بالطبع، ينبغي أن يبقى الباب مشرعا على مصراعيه أمام المستثمرين والمساهمين الأجانب، ولكن يجب على إسرائيل أن تقول لأشقائها اليهود من حقكم محاولة ممارسة النفوذ في إسرائيل، ولكن لا يمكنكم شراء السياسيين. لدينا اتصالات محلية كافية بين المال والحكومة في إسرائيل، ولا نحتاج إلى وجود علاقة بين الأموال (اليهودية) والحكومة (الإسرائيلية) كذلك. على اليهود الأثرياء أن يحاولوا إدارة رحى المجريات السياسية في بلدانهم، وأن يرفعوا أيديهم عن سياسيينا، وعلى السياسيين الإسرائيليين أيضا أن يقولوا وداعا لإغراءات الفساد التي يعرضها عليهم الأثرياء، فالوقت قد حان لفك الارتباط. ترجمة بشار الخطيب عن ال«هآرتس»