لعل مفهوم الاغتراب يشكل إحدى المرجعيات النظرية الكبرى التي ظلت إلى وقتنا الحاضر أهم مرتكزات الفكر الماركسي والاشتراكي عموما، فالاغتراب بوصفه حالة نفسية تتضمن مشاعر معينة، بعضها إيجابي من قبيل الإحساس بالتفرد والتميز، ومعظمها سلبي من قبيل الإحساس بالغربة والعزلة والحصار من قوى بعضها ظاهر وبعضها مجهول، والانسحاب من الواقع وتبني أطر مرجعية سلوكية مفارقة ومتباينة مع ميول تقوقعية انتحارية... يشكل عائقا حقيقيا أمام الأفراد والجماعات على حد سواء للاندماج أو الشعور بالقدرة على المساهمة الفاعلة في المجتمع. والاغتراب في المفهوم الماركسي حالة يصبح فيها البشر دمى للنظم الاجتماعية التي صنعوها بأيديهم، ويقصد بذلك فئة العمال تحديدا الذين عجزوا عن الحصول على حقوقهم والتصرف في إنتاجهم بسبب حرمانهم من النشاط الإنتاجي الذي هو في الأصل إنتاجهم وإبداعهم، وبالتالي كلما زادت مساهمتهم في الرأسمال إلا وفقدوا قيمتهم في المجتمع وقل دورهم فيه. أما الاغتراب السياسي بالنسبة إلى المواطن، فهو عندما تتجبر الدولة التي تستمد قوتها بالأساس من الأفراد لتستعملها ضدهم، وبالتالي يصبح هذا المواطن، الذي هو مصدر رفاهية الدولة وقوتها، مقهورا ومهمشا ومقصيا ومنبوذا... كما أن الاغتراب يصبح له معنى أشمل عندما يرتبط بالفعل السياسي لدى التنظيمات السياسية (الأحزاب، النقابات..) حينما تشعر هذه التنظيمات بأن ثقافتها السياسية ذاتها لم تعد من ممتلكاتها، وأن الأسس النظرية والفكرية للممارسة السياسية لم تعد تلهمها في شيء لفهم التحولات الجارية وقواعد اللعب الجديدة في الحقل السياسي، فتنكمش على ذاتها وتنسحب من الواقع تدريجيا حتى تفقد تلك الصلة التي تربطها به، وذلك باعتماد مفاهيم وشعارات وبرامج... بعيدة كل البعد عن المقاربة اللازمة لفهم المشهد الاجتماعي. هل بالفعل أحزاب اليسار المغربي تعيش مرحلة اغتراب سياسي بهذا المعنى والشكل الذي حاولنا تقديمه في ما سبق؟ وهل ينطبق تحليلنا هذا على مجتمع يعرف درجة عالية من التعقيد، خاصة في علاقته بالفعل السياسي عموما؟ هذه التساؤلات سأحاول الإجابة عنها من خلال إبداء بعض الملاحظات الفارقة التي استقيتها من خلال حضوري عددا من الندوات واللقاءات والمناظرات لبعض فصائل اليسار ومشاركتي في بعض النقاشات الساخنة أحيانا، محاولة مني لتبليغ وجهة نظري في عدد من القضايا: الملاحظة الأولى: يعرف اليسار اليوم بجميع مكوناته تقريبا حيرة كبرى على مستوى الوصف أو التسمية المناسبة، بمعنى أنه لم يعد قادرا على قبول فكرة أن ينعت ب«اليسار»، هكذا مادامت أغلب مكونات هذا المشهد اليساري تعترف بأن هذا المفهوم يحتاج أكثر إلى التدقيق، كأن تطلق على نفسها «يسار اليسار» للتميز عن «يمين اليسار» أو «وسط اليسار»... وهذه أولى بوادر الاغتراب، عندما يصعب على هذا المكون إيجاد مكانه الطبيعي ويعيش نوعا من التيه والحيرة معا على مستوى الموقع أولا، وقد يمتد ذلك ليشمل المرجعية أيضا. إنه من الاعتيادي بالنسبة إلى العديد من مكونات اليسار العالمي أن تراجع طروحاتها وأساليب اشتغالها وعملها السياسي في مرحلة معينة، وهذا قد يكون عاملا مهما في إعادة بناء هذه الأحزاب، ودافعا لها لتطوير علاقتها بالمجتمع والدولة ونحو فهم متجدد للدينامية الاجتماعية... مما قد ينأى بها عن الاغتراب الدائم الذي قد يطبع علاقتها بالمجتمع الذي تنتمي إليه. الملاحظة الثانية والمبنية على الملاحظة الأولى، هي أن اليسار المغربي لم يعد قادرا على إنتاج معرفة جديدة للواقع الاجتماعي، فإنتاج معرفة اجتماعية يتطلب عددا من الشروط العلمية، منها على الخصوص بلورة وصياغة إشكاليات حقيقية وواضحة، وأيضا قدرة الأدوات والوسائل المستعملة على التحليل المجتمعي، والحال أنه لا الإشكاليات متبلورة وواضحة ولا الأدوات والوسائل باتت صالحة لذلك؛ إذ إن أغلب تساؤلات اليسار اليوم لا تزال حبيسة ماضيه وتصوراته السابقة للمشهد السياسي، بل إن اليسار رهن عدد من القضايا والإشكالات المجتمعية بشكل من أشكال التغيير السياسي (السلطة)، فبالرغم من أهمية ذلك فإنه لا يمكن من الناحية العلمية أن نرهن كل المشكلات الاجتماعية وكل القضايا العالقة بالدستور أو الملك أو مشكل فصل السلط... فلا بد من مقاربات علمية لكافة الظواهر الاجتماعية وإيجاد علاقات سببية وروابط واضحة بين المتغيرات السياسية والمتغيرات الاجتماعية، وإعمال أدوات تحليل مناسبة قادرة على إظهار هذه العلاقات وتبيان الأسباب والنتائج أيضا، والابتعاد ما أمكن عن المرافعات السياسية التي أضحت الملجأ الآمن والملاذ لمحللي اليسار. إن الشكل الأكثر تراجيدية للاغتراب السياسي هو ألا يستوعب الخطاب السياسي حجم الإشكالات الاجتماعية، وأن يظل بعيدا عن القضايا والمعاناة التي يتخبط فيها المواطن يوميا، وألا يستطيع هذا الخطاب إقناع هذا المواطن بالعلاقة الموجودة بينه (كخطاب) وبين ما يعانيه هذا الأخير. الملاحظة الثالثة هي عدم قدرة اليسار على التكيف مع متطلبات التغيير الجديدة في المجتمع، وبالتالي عدم القدرة على إعمال الآليات المناسبة لإحداث هذا التغيير الإيجابي، ولا شك أن الانتخابات الأخيرة أظهرت بالملموس أن أغلب مناضلي اليسار كانوا غير قادرين على تغيير قناعات المواطن المغربي ونظرته ل إلى عدد من الأمور البسيطة، كما أن الخطاب المستعمل في الحملات والمهرجانات يظل بعيدا كل البعد عن هموم المواطن المغربي وانشغالاته، بعيدا أيضا عن إدراك متطلبات التغيير لدى هذا المواطن، مما يعزز أكثر تقوقعية الخطاب والبحث عن شكل من أشكال التميز والتفرد الذي يسقطه في نوع من التيه والاغتراب ويزيد من حجم المسافة الفاصلة بينه وبين الإمكانيات المتاحة للتغيير المنشود. على اليسار اليوم أن يعيد طرح التساؤلات البديهية: ما هو المدخل الحقيقي للتغيير؟ وما هي الوسائل الممكنة لذلك؟ هل صدق الخطاب وحده كاف لإحداث ذلك، أم إنه يجب إعادة النظر في جملة من القضايا المرتبطة بأساليب الاشتغال وإحداث ثورة حقيقية أيضا على مستوى المفاهيم؟ لا شك أن علاقة المواطن العادي بالعمل السياسي هي علاقة يشوبها الكثير من الحذر والشك من قبل هذا الأخير، بل في الغالب يتخذ موقفا عدائيا وغير ودي تجاه مجمل ما تحمله فكرة السياسة، سواء كان ذلك من مؤسسات الدولة أو من المجتمع السياسي، وذلك ما يفسر في اعتقادنا صعوبة التغيير الإيجابي لدى هذا المواطن، الذي قد لا تؤثر فيه لا الحملات التحسيسية ولا الشعارات ولا جلسات البرلمان أو قرارات الحكومة... فهو يتابع ما يقع بلا اهتمام أو في أحسن الأحوال باشمئزاز، في المقابل تبدو تنظيمات اليسار غير قادرة على الوصول إلى هذا المواطن للفت انتباهه والاستحواذ على اهتمامه وتعاطفه... الملاحظة الرابعة: اليسار بحاجة ماسة اليوم إلى مراجعة التنظيم وأسلوب العمل، بما يسمح له بإعادة ترتيب البيت الداخلي والفعل المباشر في المجتمع والالتحام بقضاياه، فهل أسلوب الندوات الفكرية المغلقة بحضور باهت تزيد من ضعفها التغطية الإعلامية الذكية التي قد تقارن بينها وبين ندوات ولقاءات لدى هيئات وتنظيمات أخرى، هذه الندوات واللقاءات التي أصبحت تماثل في شكلها ومضمونها النوادي المغلقة الخاصة، مما يطرح السؤال العريض: أين اليسار من حلم تأطير الجماهير وتحريك الشارع؟ لا شك أن اليسار ترك مجالا خصبا للإسلاميين للاشتغال دون مزاحمة عندما عجز عن الاشتغال الطبيعي في أوساط الأحياء والتجمعات السكنية، وقلل من شأن التنظيمات المحلية على مستوى الأحياء، فهو اعتبر على الدوام أن المشكلة الأساس تكمن مع الدولة ورجالاتها، وأنه بمجرد تحقيق المطالب الكبرى سيتحقق كل شيء في المسارات الصغرى، أي أن هناك قضايا مركزية يجب إيلاؤها الأهمية القصوى، أما القضايا الثانوية يمكن تأجيلها إلى وقت لاحق... مما جعل اليسار يفقد البوابة الرئيسية للاشتغال ولتأطير المواطنين والالتحام بهم وبقضاياهم اليومية وبمشاكلهم المتناسلة... وبالتالي عرف الإسلاميون كيف يوطدون العلاقة اليومية والحضور الدائم داخل هذه الأوساط، ولعل نتائج الانتخابات الأخيرة تعكس بشكل جلي هذه الحقيقة. في المقابل يبدو أن الرهان على العمل الصحفي أو الاكتفاء ببعض الكتابات الصحفية والمقالات الصادرة هنا وهناك من قبل بعض المناضلين غير كاف بالفعل لخلق تلك الفجوات المطلوبة وبالتالي تحريك نوع من النقاش الضروري في صفوف المجتمع، هذا مع العلم أن معدلات القراءة حتى لدى ما يسمى بالمثقفين تظل جد باهتة، إن لم نقل إنها في تراجع مستمر... وكخلاصة للملاحظات آنفة الذكر هل يمكن القول إن اليسار اليوم قد فقد جاذبيته لدى فئات الشعب لأنه عجز عن تقديم الجديد، وعجز بالتالي عن مراجعة طروحاته وأشكال تنظيمه بما يتوافق واستراتيجية النضال اليومي الملتحم بقضايا وهموم الفئات الشعبية، وبالتالي أصبح مغتربا عن واقع المجتمع الذي ينتمي إليه؟