يهتمّ الأستاذ إبراهيم السولامي في دراسته « الاغتراب في الشعر العربي الحديث، منشورات زاوية 2008» ببحث بعض الأوجه النظرية والنصية لظاهرة الاغتراب في الشعر العربي الحديث،مستعينا بخلفية فكرية وفلسفية للإحاطة بتصوّر الاغتراب، بما أن أصوله عريقة في الثقافة الإنسانية بحيث يمكن العودة بها إلى كتابات أفلوطين ونظريته عن الفيض،أو عند بعض أدباء ومفكّري عصر النهضة مثل روسو، وغوته،وشيللر... وينظر إبراهيم السولامي إلى الاغتراب في الشعر العربي بوصفه قيمة وجودية ووعيا، ويحلّل من خلاله بعض مكوّنات النص الشعري سواء تعلّق الأمر باللغة أو بالصورة الشعرية، أو تعلّق بالأساليب البيانية. بهذا الاختيار لا يقترن الاغتراب في هذه الدراسة بمفاهيم الانعكاس والتماثل التي تقترب من سوسيولوجيا الأدب، وإن كان هذا التحليل واردا بشكل ضمني حينا،وصريح أحيانا أخرى، بل إنني وجدتُه في جلّ فصول هذه الدراسة يوسّع دائرة المقاربة بمحاولة إيجاد علاقة بين الدلالة والمجتمع. وهذا يعني أن إبراهيم السولامي يعتبر الاغتراب والإحساس به مدخلا لفهم ملامح تحوّلات مفهوم الأدب العربي ( والشعر منه بخاصة) من زاوية قيمته الحداثية؛ الحداثة التي توازي القلق الوجودي. هكذا، انتبه السولامي بذكاء وبفطنة المجرّب، إلى أن ثمة وعيا استطيقيا وإيديولوجيا كامنا وراء الاغتراب في العلاقة مع الذات والآخر والمجتمع ( عربيا كان أو غربيا ). كيف تطوّر مفهوم الاغتراب في علاقته بمفاهيم محاقلة كالغربة والضياع والاستلاب، وخلال عصور أدبية متلاحقة، وحسب ثقافات متفاعلة؟ وما هي علاقة الاغتراب بوصفه موضوعا شعريا بالشكل الأدبي عموما،وباللغة الشعرية على وجه الخصوص؟ تضطلع دراسة السولامي بمهمّة الإجابة على هاذين السؤالين، ويغدو بحثه منظما،وفصوله مبنية على محاور مختارة بعناية: اغتراب المهجر-اغتراب البشرة-اغتراب المدينة-اغتراب الحضارة-الاغتراب الرومانسي-اغتراب البشرة-الاغتراب الوجودي-اغتراب الموت. ووعيا منه بأهمية الموضوع بالمحاور إياها ينطلق إبراهيم السولامي من احتراز نظري ومنهجي في غاية العمق والغنى، بما أن الاغتراب ( معجميا) ينفتح على عدة حقول دلالية ترادف ( كما أسلفت ) الغربة والضياع والاستلاب ، وتخصّ مجال الدراسات الفلسفية والاجتماعية والأدبية والسياسية. إن الاغتراب الذي يخصه السولامي بالتحليل يهمّ الاغتراب في النصوص الشعرية سواء أكانت اغترابا قادت إليه الهجرة، أم قاد إليه التفاوت الحضاري بين المدينة والبادية،أو كان اغتراب وجود أو موت يستبطن أصحابه ذواتهم القلقة بحثا عن حقيقة أو معنى يطمئنون إليه ويرتضونه (ص9). حين أعيد تأمل محاور هذه الدراسة أجدها رحلة في ديوان الشعر العربي الحديث، ليس لأن إبراهيم السولامي يختار بعناية استشهاداته والنصوص التمثيلية،بل لأنه في هذه الدراسة يكتب تاريخا أدبيا للاغتراب، ويعتني باستخلاص أبرز صوره الدلالية، وكذا النواظم الفنية المتصلة بها بعيدا عن أية نظرة إسقاطية أو تبسيطية. مثال ذلك، تحليله لاغتراب المهجر الذي تولّد عن « لقاء حضاري بين الشعراء العرب الوافدين من المشرق والعالم الجديد،ردود فعل ضاربة في الأعماق، دفعت أوّلا إلى التجمّع ورصّ الصفّ فأنشئت (الرابطة القلمية) بأمريكا الشمالية وتزعمها جبران خليل جبران ... وأنشئت(العصبة الأندلسية) بالبرازيل في 1932 واستمرت إلى الستينيات (ص23)». من هنا، كان اغتراب المهجر اغترابا حضاريا وتحددت صورته في موضوعين كبيرين هما: الحنين إلى الوطن،والدعوة إلى الغاب. من الشعر الاغترابي إلى الاصطدام الحضاري،كان الإحساس الحادّ بالرغبة في الرجوع إلى الوطن،مثلما كان الغاب عالما بديلا للعالم المادي؛كان رمزا لكلّ ضروب الجمال المفتقدة في الدنيا من نور وعشب وخضرة وهدوء وعدل وتسامح ومحبة وإيثار وصفاء نفس (ص37). من هذا المنظور، يحلل إبراهيم السولامي الاغتراب وصوره،مثلما يُعيّن الدلالة وتواشجاتها مع الأزمنة والفضاءات لا بهدف اعتبار الاغتراب فكرة جامدة،بل بالنظر إليه بوصفه فكرة مخترقة لتجارب أصحابها ومشاعرهم. ورغم ذلك،لم يمنع هذا التصوّر السولامي من تسجيل هذا الاستنتاج:» إن من العسير أن نعثر على فلسفة متكاملة،لأنها بعيدة عن أن تكون كذلك؛ولأن الشعر وهو قائم على الشعور لا يسمح بهذا التصوّر،وأيضا لأن ثقافة المهجريين لم تسمح بغير الاضطراب والقلق في مواجهة حقائق الوجود، وهو قلق خصب بحث بإخلاص عن سكينة يركن إليها فلم يجدها في العالم الأمريكي البعيد عن وطن المبدعين أرضا وروحا (ص43)». أليس من المفارقة أن يكون هناك شعراء عرب اغتربوا داخل المدن الأمريكية، وشعراء عرب اغتربوا لمجرّد نزوحهم من قراهم إلى مدنهم ؟ أضحت الفضاءات مصدر وحشة وشجن،بل إن أزمة الوطن أضحت لديهم أزمة العالم برُمّته (ص87). لمْ يكن هذا الإحساس عابرا أو طارئا، بل تحكّم فيما يدعوه السولامي ب»الاغتراب الرومانسي» ويُجمله في الطبيعة / والحبّ / والمجهول . لقد جعل اغتراب الرومانسيين ( الشابي، علي محمود طه،والعقاد ...) من الطبيعة فضاء رحبا وعالما احتضنهم بعدما غزتهم مشاعر القلق والحيرة، واستهواهم الحُبّ بفيض مشاعر تجاه إنسان أثير ظلّ مصدر إلهام وشجن؛ وكان المجهول عالما لا نهائيا لأسرار الحياة والموت والمصير الغامض (ص110). يوسّع إبراهيم السولامي تصوّره لمفهوم الاغتراب في الشعر العربي في فصول متلاحقة تهمّ « اغتراب البشرة» وما يتعلّق بها من تمزّق وحزن يكتنزهما تصوّر «الزنجية» ؛ و»الاغتراب الوجودي» أخذا بالاعتبار الوجودية بوصفها فلسفة لصيقة بالهمّ اليومي للإنسان الذي يمكن أن يلتمس طريقا مؤقتا للخلاص في الفن (ص197)؛وأخيرا «اغتراب الموت» وما يصاحبه من وحشة روحية وحيرة وقلق دائمين. من هنا أهمية صورة الموت ? مثلا ? في شعر أمل دنقل وبدر شاكر السياب . اغتراب الموت، شعر مأساوي ينفثه الشاعر حين يحس بدنوّ الأجل كذلك (ص221). أختم هذا التعليق بثلاث ملاحظات: 1. عالم الاغتراب موحش،حزين وجارح. 2. ساهم الاغتراب في تميّز أزمنة شعرية عربية أضحت مراحل انعطاف حاسمة في تاريخ الشعر العربي الحديث. 3. حقق الاغتراب للشعر العربي الحديث مكانة معتبرة واعتبارية بوصفه دليلا على التمدّن وسموّ الروح .