بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... تحدث الممثل محمد مفتاح في بوحه الجميل عن العلاقة الخاصة التي جمعته بمجموعة «ناس الغيوان» وبوجميع ونبَش في بعض من أسرار مسرح الصديقي وتطرَّق لأسباب تخليه عن الغيوان، قبل أن تعرف حياته الفنية مسارا آخر. عن هذه المحطة يقول محمد مفتاح: «كما أسلفت، فقد قررت مغادرة مجموعة «ناس الغيوان»، إلا أنني حاولت أن أحافظ على علاقتي بأعضائها، ولكنْ وقعت بعض الأحداث التي لم أستطع أن أنساها.. بعد انفصالي عن الغيوان، أذكر أن مصطفى الزناكي، مؤسس فرقة «المسرح الطلائعي» اتصل بي. كان يُحضِّر لعرض مسرحية «حقنا في الأرض» ودعاني لأداء دور «صالح» فيها. وقد كان مُبرمَجا أن نعرض المسرحية قبل سهرة «ناس الغيوان»، وهو العرض الذي دعمه المكتب الوطني للكهرباء. وأتذكر أن المسرح كان يعُجُّ بالنساء والأطفال الذين أخذوا يتحدثون في ما بينهم، وبحكم ما ينص عليه الاتفاق مع المستشهر، لم يكن ممكنا أن نوقف المسرحية، ولكنْ وأثناء العرض، دخل أعضاء مجموعة «ناس الغيوان» وبدؤوا يُحَيُّون الناس.. ومن الأشياء التي لا أنساها أن عمر السيد صعد إلى الخشبة، فلما رآني ألبس لباسا موحَّدا بلون «الكاكي»، قال: «تْباركْ الله على محمد الكاكي» مما خلق بلبلة في قاعة العرض، فدخل بعد ذلك إلى كواليس المسرح. في تلك اللحظة، قلت لمصطفى: «يجب أن نوقف المسرحية في الحين»، وهذا ما وقع بالفعل، وبسبب مثل هذه الأحداث، قلت في السابق إن المسرح قُتل بمجيء الظاهرة الغيوانية»... ويواصل محمد مفتاح حكيه عن تاريخه الفني بالقول: «بعد تجربة ناس الغيوان، ساهمت في سنة 1972 في تأسيس فرقة «تكادة»، إذ اكترى لنا محمد البختي منزلا في الصخور السوداء، وأثثناه بأثاث متواضع للغاية، ليتمرن داخله أعضاء المجموعة، التي كانت تضم أحمد الروداني، عمر الداخوش، بوشعيب فتاش ومحمد باطما، الذي استقطبه البختي في ما بعدُ إلى مجموعة «لمشاهب»، كما ضمت «تكادة» عبد الجليل بلكبير، أب الفنانة الشابة جوديا وفرحات، وأتذكر أن القادري كان مدير «نوتيليس» قرب المسبح البلدي واشترى مني عرضا ب3000 درهم. وفي تلك الفترة، كان محمد البختي محافظا عاما للمجموعة، كما كان محمد مجد محافظا ل«جيل جيلالة»، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنني اقترحتُ محمد مجد على الفنان حميد الزوغي الذي «عيّنَه» محافظا عاما ل«جيل جيلالة»، وحينما نتحدث عن «المحافظة العامة»، فإن الأمر لا يعدو أن يكون «تْسخانْ البْنادرْ»!... وبعد ذلك، ظهرت مشاكل بين بعض أعضاء المجموعة ومحمد البختي. وأتذكر، بكثير من السخرية المرتبطة بطرافة الموقف، أننا اتجهنا إلى المنزل الكائن في الصخور السوداء، ألفيناه خاليا، إذ عمد محمد البختي إلى أخذ «الفراش» كله، وحينما طرقنا الباب، أطل علينا البختي من النافذة ورمانا ب«المْحابق» في الليل، فاضطررنا إلى اكتراء منزل آخر في الصخور السوداء، بعد انفصالنا عن البختي»... وعن خصوصية العمل مع مجموعة «تكادة»، يقول محمد مفتاح: «تجربة «تكادة» مهمة في المجال الفني المغربي، إذ قام فن «تكادة» على «التّْبوريدة»، كما يقوم هذا الفن على «الحُوزي» وعلى تشخيص هذا الفن، إذ قمنا ب»المنشج» و«الرحا» و«المشط» و«القْرشالْ».. وأتذكر أن أول عرض فني مهم في مسار مجموعة «تكادة» أقيم في المعرض الدولي في الدارالبيضاء، الذي كان يديره محمد العلوي، الذي منحنا عرضا، وقد قمت بإخراج العمل. وأذكُر أن العرض لاقى نجاحا وإقبالا جماهيريا مهما، وقد أشركتُ في العمل ممثلين من بينهم الراحل محمد عتيق والممثل أبو القناطر. وبعد هذا العرض، تلقينا عرضا من الزناكي، رئيس فرقة «المسرح الطلائعي»، الذي قال إنه أراد المشاركة في المسرح الوطني، وطلب أن نجسد العمل إلى جانب مجموعته و«يْشدْ لينا باركلي»، وأخذنا كنموذج مسرحية «سوقْ الرخا»، وقد ضمت الفرقة محمد عتيق، محمد كنان، عبد القادر لطفي، أحمد الداخوش، عمر الداخوش، محمد باطما وحليمة.. وبدأنا نتمرن على العمل المسرحي، وكان أخو الزناكي مكلفا بالديكور وجهَّز، بشكل جيد. وفي آخر يوم قبل العرض، كنا في قاعة الرقص في المسرح البلدي، وكان الطيب حاضرا حينذاك، ولما شاهد بعض المَشاهد، قال: «هذا هو المسرح الحقيقي».. وحصلنا على جائزة أحسن عمل وأحسن نص وأحسن إخراج.. وما زلت أتذكر مشهدا مؤثرا يتحدث فيه الجوع عن نفسه، هو مشهد مسرحي لم أستطع نسيانه.. وبعد ذلك (تقريبا في سنة 1973) استطعت أن أحصل على عقد للعرض في الجزائر، وقد سافرنا إلى هناك مدة شهر مع شركة «سوناطور»، وسافرت معنا مجموعة للشيخات، ووجدنا هناك الحاجة الحمداوية، كما وجدنا عبد الوهاب الدكالي.. وأتذكر أننا حظينا باستقبال حار وإقامة مريحة في «فيلا ديبلبيكس» وعرضنا في مناطقَ سياحية، من بينها موريتي وسيدي فرج وتيبازا وزيرا لدا.. في المجمل، كانت محطة «تكادة» تجربة فنية مهمة، قبل أن أدخل في تجارب فنية مهَّدت لاشتغالي في الفيلم العربي الضخم «الرسالة»... يتبع