من بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... اختار المسرحي المغربي المسكيني الصغير أن ينبش في ذكريات الحي المحمدي، عبر الحديث عن الطقوس والأشكال التعبيرية التي كانت تميز هذا الحي الشعبي، حيث قال في بوحه ل«المساء»: «أعتقد أن فن الحلقة كان أهم مؤثر في تشكُّل ثقافة الحي المحمدي، كما أنه يمثِّل شكلا من أشكال المسرح.. كان أهل الحلقة أناسا سوقوا لفن القصة والحكاية. إلى جانب ذلك، شكلت الحلقة أحد أهم المؤثرات التي اعتُمِد عليها في مناهضة الاستعمار في «كريان سانطرال»، الذي زاره الملك الراحل محمد الخامس، لِما كان له من دور في الدفاع عن القضية الوطنية».. ورصد المسكيني في بحثه «الثقافة الشعبية وفضاء الحلقة الدرامي أو مسرح الحلقة في الحي المحمدي (كاريان سنطرال)» أشكال الثقافة الشعبية التي كانت سائدة في الحي، وقسمها إلى أربعة أقسام: مجموعة تجمع بين التمثيل والموسيقى والرقص وتضم «اعيبدات الرما»، نعينيعة، خليفة، الحنساوي، بوجمعة الفروج.. ومجموعة ثانية تكتفي بالتمثيل وتشخيص هموم الناس وتضم اللوطة أو بعو، زريويل، لمسيح، القرع، القيرع، بقشيش، رواد السيرة الهلالية، بوغطاط، أما الفئة الثالثة فهي مجموعة تجمع بين البهلوانية والغناء، من بينها «أولاد سيدي حماد أوموسى»، «هداوة»، «جيلالة»، فرقة الشيخات والشيوخ، مروضي الثعابين، فرق صحراوية، قْرّادة.. وفئة رابعة تضم مجموعة من الوعاظ والإخباريين»... ويرى المسكيني أن الحي شهد ظهور العديد من الفِرَق التي تقدم عروضها، اعتمادا على حركات الجسد والصوت وآلات بسيطة، إذ تعتمد فرقة «أولا احماد أوموسى» على زي موحَّد وعلى ناي وأسطوانة حديدية للنقر عليها.. وتعتمد فرقة «هداوة على «الدعدوع» وتستعين فرقة «جيلالة» على «البْندير» والقصبة، بينما تعتمد فرق الشيخات والشيوخ على «الطعريجة»، «الكمنجة»، «الكنبري» و«القراقب».. وتتكون أدوات القْرّاد على القرد، «البْندير» والناي.. أما في ما يخص الوعاظ والإخباريين ف«قربال» يقوم بالتصفيق بالأيدي والفقهاء الإخباريون يعتمدون على العصا. ولم يستغرب المسيكني ظهور الفرقة الغيوانية التي امتازت بحرارة البدوي المسكون ب«الحال» في الحي المحمدي، وهو ما وجد صدى بين الناس... فظهرت فِرق «تكادة»، «اللوز»، «لْجْواد»، «لمشاهب»، «الرفاك» وغيرها.. ولم يستبعد المسكيني أن يكون الشكل «الهداوي» قد أثر على الحي، باستعارة بوجميع لآلة «الدعدوع». وأقرَّ المبدع المسرحي بغياب الأجواق العصرية التي عُرِفت في الرباط وبعض المناطق من الدارالبيضاء، وأشار إلى أن محمد الضمراوي مهَّد لظهور المجموعات الغنائية، إذ إنه أول من اشتغل على آلة «البندير»، وهو في رأي المسكيني أمهر الفنانين، وكان كذلك أول من سجل قطعة غنائية في الحي بعنوان «ديرْ الهمّ في الشبكة، شي يْطيحْ وشي يْبقى».. واشتغل الضمراوي مع الطيب الصديقي، قبل أن يتجه إلى باريس، حيث توفي هناك. واعتبر المسكيني الصغير أن هذا المحيط الحيوي في الحي المحمدي شجع على الهجرة والانجذاب إليها وبدأ الزحف الحضري على المناطق المجاورة ل«بلاد ولد هرس» و«بورنازيل»، وللفراغات التي تتواجد بالقرب من «بلوكات» جديدة، ك«بلوك الكدية»، «بلوك السعادة»، «بلوك كاستور»... وتوزع الحي إلى مجموعة من «الكاريانات»، من بينها «كاريان جنكير»، قرب «القشلة»، «كاريان الحايط»، «كاريان هداوة»، «كاريان الرحبة»، «كاريان العرش» و«كاريان البشير»، الذي اشتق اسمه من اسم أحد أشهر قاطنيه «البشير»... وأكد المسكني الصغير أنه «بتأسيس فروع الكشفية في الحي المحمدي، بدأت بوادر الحركية المسرحية تبرز في هذا الحي، إذ ظهرت دار الشباب في الحي المحمدي، وهي في رأيي أقدم دار شباب بمواصفات الأنشطة الثقافية، ومنها تخرج جميع النشيطين والفاعلين والمهتمين من رواد الدراما، ومنها تخرج أعضاء مجموعتي «ناس الغيوان» و«تكادة»، ورواد أغلب الجمعيات الثقافية، من بينها جمعيتا «النهضة الأدبية» و«جمعية رواد القلم»، وهي أول جمعية تصدر ديوانا شعريا في المغرب، وهو ديوان «أشعار الناس الطيبين».. وكانت تضم ادريس الملياني، أحمد الشيظمي والمسكيني الصغير.. وبعد هذه المحطة، بدأ الفعل المسرحي ينتشر مع الاحتفال بعيد العرش، وعرضت مسرحيات ذات بعد وطني، إلى جانب مسرحيات مجتمعية من بينها مسرحية «الحاج مسبقْ راسو» و«دورة في الجنة».. وقد شاركت في تأسيس جمعية «شمس الأصيل»، بالتزامن مع نشاط جمعيات أخرى، من بينها جمعيتا «الهلال الذهبي» و«الأهرام»، إلى جانب جمعية «أشبال البيضاء»، التي تعد من أقدم الجمعيات في المدينة، فضلا عن جمعية «رواد الخشبة» وفرقة «الإشعاع»، لمصطفى بوفطيم... وكانت هذه الجمعيات تقدم أعمالها في إطار المسرح الهاوي في «سينما السعادة» و«سينما الكواكب» في درب السلطان.. وقد شاركتُ في السبعينيات في الدورة الخامسة لمهرجان الهواة بمسرحية «البحث عن شهرزاد»، لأشبال البيضاء، لجمرقان وأخرجها ابراهيم نشيخ، الذي يعيش في أمريكا، وشاركتْ في المسرحية أخت السيناريست يوسف فاضل. كما عُرِضت هذه المسرحية في الرباط، واشتغلت مع فرقة «أنوار سوس» في أكادير، إذ اشتغلت معها في مسرحية «الجندي والمثال» ومسرحيتَي «رحلة السيد عيشور» و«الباب 4».. وعرضت مسرحيتِي «القوس والميزان» في الشمال، دون نسيان الإشارة إلى عرض مسرحيات «رجل اسمه الحلاج»، «الشجرة» و«السيد جمجوم خارج المغرب». مسار طويل للزجال والكاتب المسرحي الكبير المسكيني الصغير لم يكن بمنأى عن المضايقات السياسية.. مضايقات يقول عنها ابن الحي المحمدي: «تلقيت دراستي الابتدائية في «مدرسة النصر» في الحي المحمدي وفي مدرسة «الفتح المبين»، قبل أن ألتحق بثانوية «لارميطاج» و«الرشاد» في درب السلطان، ثم اتجهت للدراسة في المعهد الإسلامي في تارودانت، بعدها جاءت تجربة الدراسة في بغداد.. وفي سنة 1968، ألقي علي القبض، رفقة محمد باهي والمحامي أوطال ومحمد بصير ووجهت لنا تهمة خطيرة هي محاولة اغتيال شخصية مهمة لم تكن سوى الجنرال أوفقير.. وقضينا ثلاث سنوات خلف الأسوار، قبل أن يُفرَج عنا، دون محاكمة، في غياب أدلة دامغة.. وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة أساسية هي أن الحي المحمدي عرف حركة إعلامية، إذ تأسست «مجلة الأمل» لباهي ومجلة «النجوم» للجداوي، في هذا الحي الذي كان رافدا مهما من روافد الثقافة المغربية»...