تقدم «المساء» سلسلة مقالات سبق أن نشرتها أسبوعية «لوكوريي أنترناسيونال» قبل أن تجمعها في عدد خاص بمناسبة منافسات كأس العالم بجنوب إفريقيا. جميع المقالات تتحدث عن الرمز نيلسون مانديلا، لكن كل مقالة لها زاويتها الخاصة. نيسلون مانديلا كان له وزنه الرمزي -وربما المادي أيضا- الذي كان من شأنه أن جعل حظوة تنظيم كأس العالم تعود إلى جنوب إفريقيا. فقد أمضى الرجل 27 سنة في سجون الميز العنصري، تحت نظام الأبارتايد، قبل أن يطلق سراحه ويقود البلاد كرئيس. المقالات التي نقدمها إلى القارئ تسلط الضوء على جوانب مختلفة من حياة الرجل: شخصيته، رمزيته، علاقته بزوجته الأولى، علاقته بالناس من حوله، شهادات الناس الذين عرفوه عن قرب، معاركه التحريرية، إرثه النضالي،... إلخ. هي نهاية سعيدة لحكاية نيلسون مانديلا الغريبة. من راع أصبح سجينا، ثم رئيسا. اللحظة، التي يبدو أنه ولد من أجلها قبل 75 سنة، حلت أخيرا عندما بدأ إلقاء خطابه خلف زجاج واق من الرصاص: «... بحضور هذا الجمع، ووعيا مني بالمسؤولية السامية التي أتحملها كرئيس في خدمة جمهورية جنوب إفريقيا...» ويني مانديلا هي أولى ممثلات علية القوم تظهر في حفل تسلم الرئاسة. بدت متألقة في فستانها الطويل من الحرير الأخضر. كانت اللحظة غنية بالإشارات عندما دُعيت ويني إلى الجلوس في المكان المخصص للأعيان من الدرجة الثانية، قبل أن تظهر فجأة قرب أفراد أسرتها. في ذلك الوقت كان المعلق التلفزيوني يصرخ ويقول إن مكان تلك التي «كانت في الماضي أم الأمة» ليس ذاك ويجب أن تنتقل إلى مكانها المخصص لها ضمن الشخصيات المهمة. لكن، وخلافا لأي توقع، دُعيت السيدة مانديلا إلى مكان لا يبعد عن الكرسي الجلدي الذي سيقتعده الرجل الذي لم يعد زوجها، إلا بتسعة كراسي. ياسر عرفات، أحد الأوائل الذين وصلوا إلى مكان الحفل، يتجه بخطى واثقة نحو الصف الثالث عشر، الذي وضعه فيه البروتوكول على اعتبار أنه ليس زعيم دولة، بينما كان الحراس الشخصيون يراقبون حركات المصورين القريبين من الشخصيات السياسية المكلفين بحراستها. أما دوق إدنبرة فقد تخطى درجات المصعد بخطى مهرولة، جارا وراءه موكبا من ممثلي وزارة الخارجية. لكنه بدا منزعجا قليلا عندما طُلب منه الجلوس في الصف الرابع. وعندما حُشر آل غور، هيلاري كلينتون، رون براون (وزير التجارة)، القس جيس جاكسون وبقية الوفد الأمريكي في صف واحد، اكتشف الحراس الخاصون، باستياء، أن ممثلي أول قوة في العالم ليس لهم ما يكفي من المقاعد للجلوس. «كاسترو، كاسترو»... كانت صيحات ممثلي الحزب الشيوعي في جنوب إفريقيا تتعالى وسط الحاضرين، مستقبلة الضيف الأبرز في هذا اليوم. الزعيم الكبير ما يزال مُبهرا حتى من دون سيكاره وقبعته وبذلته العسكرية. غودويل زويلتيني، ملك الزولو، يسرع الخطو للجلوس في الأمام، إلى اليمين، فيما سعى فيديل كاسترو، الذي وجد نفسه فجأة قريبا من الأمريكيين، إلى الانتقال نحو اليسار. خلال ذلك، يصل الرئيس الأسبق والنائب الثاني الجديد للرئيس، فريديريك دو كليرك، تحت تصفيقات الحضور، الذي يحييه على تعليقه البسيط الذي صرح به فور وصوله: «لقد أنجزنا ما كنا نريد إنجازه». تبعه النائب الأول للرئيس تابو امبيكي قبل أن تعلن تصفيقات ال50 ألف شخص المجتمعين على العشب وصول الراعي القديم. بدا مانديلا في كامل لياقته بينما كان الجنرالات يقودونه على امتداد الدرج ليلتحق برئيس المحكمة العليا. بدا فخورا بابنته، الأميرة زيني دلاميني، عندما مر أمامها. زيني متزوجة من أحد أفراد العائلة الملكية في سوازيلاند وجاءت لتلعب دور السيدة الأولى. تأخر موعد خطاب مانديلا الرسمي بساعة وثماني دقائق. أخيرا، سيتكلم الرئيس الجديد. «(...) أنا، نيلسون روليهلاهلا مانديلا، أقسم هنا بالوفاء لجمهورية جنوب إفريقيا وأعد، بشكل علني وصادق، بأن ألتزم دائما...»، ثم «أفعالنا اليومية كمواطنين جنوب إفريقيين يجب أن تشكل واقعا حقيقيا يعزز إيمان الإنسانية بالعدالة ويقوي ثقتها في نبل الروح الإنسانية ويغذي آمالنا حتى تكون لنا جميعا حياة منسجمة». في نهاية خطابه، وبعفوية، وقف المدعوون المرموقون ال4000 وهم متأثرون وجدانيا بما سمعوه عندما أعلن الرئيس مانديلا: «أبدا لن يعيش هذا البلد، مرة أخرى، تجربة القمع المسلط من هذا الطرف على الآخر أو يعاني مرة أخرى من وضعية الدونية». بعد ذلك، اتجه الجنرالات إلى خلف المشهد حيث أخذوا يتطلعون إلى ما وراء تلال موكلينوك قبل أن يكسر الصمتَ صوتُ الطوافات القتالية وطائرات التدريب والمقاتلات السريعة، التي قدمت لوحاتها الاستعراضية على شرف أول رئيس أسود جديد، والأكبر بالتأكيد.