أطلق مهرجان الصويرة، نهاية الأسبوع، صرخته الثالثة عشر وصدحت أصوات طبوله مرة أخرى احتفاء بمرور عقد وثلاث سنوات من الزمن على انطلاقته المفتوحة سنويا على جدران ونوارس سماء موكادور، وللحدث طقس خاص ابتدعته أعراف من حلوا ومروا من هنا على مر سنين هذا المهرجان، الذي اختلف الكثير من المغاربة، وخاصة منهم محبي فن العبيد، في تقييم خطواته وغاياته، بالرغم من الشعبية التي حققها على مستوى زواره. لم يكن يظن الكثير أن مدينة منعزلة وهادئة ومسالمة حد غرقها في البوهيمية أن تتحول إلى ساحة عامرة بأصوات الخطى المتسارعة لمئات الآلاف من المغاربة والأجانب، الذين يحلون عليها من مختلف الأصناف، حتى تحولت المدينة إلى عرض للأزياء في اللباس الغرائبي وإلى كارنفال حي في الطبائع البشرية التي تصل حد أن يمشي بعضهم حفاة الأقدام ليتحسسوا أكثر أصوات الطبول وهي طالعة من جوف أرض وصخور موكادور. خلال المهرجان، وقفت الكثير من نسوة الصويرة البسيطات والطيبات ينظرن إلى الازدحام غير العادي الذي ملأ مدخل الزاوية الحمدوشية، وكن ينظرن بكثير من الفضول والاحتشام إلى ضيوف المهرجان «الخواص جدا» دون أن يتمكن من إطالة الوقوف بسبب التغطية الأمنية المشددة، هذه هي الصويرة، فازدحام الناس أضحى أكبر هوايات المهرجان. شوارع موكادور كانت مملوءة حتى قبل أن تنطلق فقرات الموسيقى، وجمهور المهرجان يتوحد هنا في إعلاء شراعات التيه، يهمهم كثيرا حرية طقس المهرجان أكثر من موسيقاه وأنغامه، فالسنوات العديدة من عمره كانت كافية ليلبس ثوبا لم يعد يتسع لجسد الصويرة، ولا لأعصاب أهلها، الذين لا يفهمون كيف تلعب المدينة دور الثري الذي يمسك غليونه في فمه خلال أيام المهرجان ويتجول تحت حراسة أمنية، فيما في باقي أيام الله الأخرى تشبه ذلك الذي ينزل «قب الجلابة» على رأسه وينحني. لقد احتضنت الصويرة فكرة مهرجان كناوة وهي لا زالت جنينية، والآن صار لزاما التفكير في فك قيد الازدحام الذي يُفسد متعة الفرجة التي لازال لها روادها، تماما كما هو حال بسطاء المدينة الذين اعتادوا فتح أعينهم على وجوه سرعان ما تنمحي مع انصراف كل دورة، قبل أن تعاود الصويرة وأهلها معانقة حضن الصمت إلى حين. يٌقال هنا إن الناس يفقدون صوت الريح مع مجيء المهرجان، للتدليل على حجم الهرج الموسيقي والتجاري الذي تحدثه المناسبة، فقط شوارع وأزقة المدينة القديمة من توحد خطى من جاؤوا إلى هنا قاطعين المسافات بلا بوصلة، هنا تجدون بسهولة حفاة الأقدام بجوار أبناء الأثرياء والرسميين يتبعهم حرس شخصي خاص بهم، فطبول كناوة وحدت سمع الفقراء والبسطاء مع آذان الأغنياء. إن شعبية مهرجان كناوة المتسعة لم تمنعه من أن يصنع لنفسه ركنا مترفا وسط فقراته، والحال هنا أن «الدعوات الخاصة» هي الوجه المحروس بعناية أمنية وفنية وتنظيمية فائقة، فيما الساحات الكبرى والليالي الكناوية العمومية، المتاحة للعموم، تتحول إلى ملتقيات جسدية تائهة وسط مكبرات الصوت تستمع وتستمتع بالازدحام أكثر من سماعها لتراث مغربي عاش وسط الزهد والبساطة وألبسوه عنوة ربطة العنق وباعوه للمستشهرين.