دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون الفرنسيون لم ينتجوا إلا اللغو الفارغ
نعوم تشومسكي وفرنسا.. حكاية خصام فكري بدأ قبل 30 سنة
نشر في المساء يوم 13 - 06 - 2010

مؤخرا زار نعوم تشومسكي، عالم اللسانيات الأمريكي المعروف، فرنسا بعد غياب دام قرابة ربع قرن. وكانت الزيارة مناسبة لمعرفة أثر أعماله
بين المثقفين الفرنسيين وجمهور المهتمين، إلا أنها بينت بالملموس أن الفرنسيين لم يعرفوا تشومسكي اللساني كما يعرفه جيرانهم الإيطاليون والألمان مثلا. ثمة سوء فهم بين الرجل والفرنسيين يعود إلى سنوات كثيرة خلت ظل خلالها تشومسكي يعتبر أن إنتاج دريدا ودولوز ولاكان ما هو إلا لغو فكري. «لوموند» خصصت صفحتين لتشومسكي في أحد أعدادها الأخيرة اقتبسنا منهما جزءا يسلط الضوء على أصل الخلاف وعلى بعض من أسس منهجية عمل هذا العالم الذي كان له فضل تأسيس اللسانيات التوليدية.
في سنة 1984، ذهب باحث شاب يسمى بيير بيكا للدراسة في الولايات المتحدة مع نعوم تشومسكي. كان حينها مؤسس اللسانيات «التوليدية» في أوج شهرته. فقد طالت شهرته كل أنحاء العالم، خاصة أنه مناوئ للإمبريالية ومتحرر من أي انتماء. وما هي إلا فترة قصيرة حتى ربط بيير بيكا علاقة متينة مع أستاذه في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا. تقوت علاقته بشومسكي حد أن مسؤولا في المعهد الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا كلفه، سنة 1994 بمهمة تجدير التقليد التشومسكي في فرنسا. يتحدث بيكا عن هذه التجربة قائلا: «وجدت الفكرة مهمة، لكن عندما حدثت تشومسكي عنها رد علي بسرعة: لن تنجح. وقد كان محقا في ذلك».
15 سنة بعد ذلك، بقي تشومسكي هامشيا في الجامعات الفرنسية. ومؤخرا، عندما أراد بيير بيكا تنظيم لقاء مع تشومسكي بباريس، لم يسهل له مسؤولو المعهد الوطني للأبحاث العلمية المهمة. فهل يتعلق الأمر بنوع من مؤامرة صمت ثقافية ضد تشومسكي؟ هل هو قمع أكاديمي ضد تشومسكي؟ لا، الأمر يتعلق بما هو أسوأ من هذا وذاك. إنها لامبالاة فحسب، واستهزاء مبطن.
رغم كل شيء نظم اللقاء يوم 29 ماي الماضي، وحج إليه كثير من المهتمين. لم يكونوا فرنسيين فحسب، بل كانوا إيطاليين وبرازيليين وأمريكيين أيضا. ظل تشومسكي، 81 سنة، يتكلم طيلة ساعة من الزمن. لم يتوقف ارتجاله لدرس في اللسانيات التوليدية، وكان في كل مرة يقوم من مكانه ويخط على السبورة جملة ثم يفككها. وبين الحين والآخر، كان يقحم جملة على سبيل الدعابة.
في نهاية اللقاء، خلت الأسئلة – أو كادت- من أي سؤال للفرنسيين. وهنا دليل آخر على أن تشومسكي ليس له تأثير كبير في فرنسا رغم أن علمه يُدرس في بقية بلدان أوربا، ورغم أن الفرنسيين لعبوا دورا مهما في إشعاع لسانياته التوليدية. «خلال الستينيات والسبعينيات، يقول بيكا، عرفنا الجميع في أوربا بتشومسكي. تعرف عليه الإيطاليون والهولنديون والنرويجيون. لكن الحركة توقفت عندنا. وقد تساءلنا دائما عن السبب. لكن مهما كان السبب، فالفعل موجود: في فرنسا، أصبح النحو التوليدي «غيتو» صغيرا. جل كتب نعوم غير موجودة في فرنسا. الكتب الوحيدة التي تُنشر له في فرنسا هي الكتب السياسية، وهي أضعف من بقية كتبه.»
لكن، إذا كان بعض المخلصين لتشومسكي يتأسفون لتواري إنتاجه المعرفي خلف نصوصه وأعماله النضالية، فإن آخرين مسرورون لكون الأفكار السياسية لهذا المثقف الأمريكي صارت، اليوم، منتشرة باللغة الفرنسية سواء تعلق الأمر بأعماله حول خيانة المثقفين، أو بصناعة الإذعان أو بالهيمنة الأمريكية. صحيح أن أعماله تعاني من نوع من التشتت لأن تشومسكي لم يؤلف الكتاب الذي يعطي رؤية منسجمة لفكره السياسي. إلا أننا نتوفر على عدد من المؤلفات التي تجمع مقالاته وحواراته. ومنذ نهاية التسعينيات بدأت النصوص السياسية لتشومسكي تجتاح المكتبات الفرنسية. بدأت بنشرها، أولا، دور نشر صغيرة قبل أن تنضم إليها دور كبيرة. ونتيجة لذلك باع تشومسكي حوالي 20 ألف نسخة من أعماله في فرنسا. رقم جيد، إلا أنه ضعيف مقارنة مع بلدان أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا، حيث يبقى حضور تشومسكي أهم بكثير مما هو عليه في فرنسا. فما السر، إذن، في هذا الاستثناء الفرنسي؟ سيرج حليمي يفسر ذلك بقوله في لقاء نظمته «لوموند ديبلوماتيك» بأنه إذا كان تشومسكي لم يحضر إلى فرنسا منذ قرابة 30 سنة، فلأن «مجموعة من الحراس» أو «شرطة فكر حقيقية» فعلت ما بوسعها لمنع الاطلاع على نصوصه. من جهته أكد الفيلسوف جاك بوفيريس في مقدمة لكتاب «Raison et Liberté «بعنوان «تشومسكي أمام معارضيه»، أن الأخير يعتبر واحدا من المثقفين القلائل الذين تعرضوا –ومازالوا- للنقد والقذف، فكريا وأخلاقيا، بشكل حاد في فرنسا.
أصل الخلاف
أصل سوء التفاهم بين فرنسا وتشومسكي يعود كذلك إلى بعض الأحداث الإضافية. هنالك أولا «قضية فوريسون» التي مازالت ترخي بظلالها على نظرة المثقفين الفرنسيين إلى تشومسكي في فرنسا. سنة 1980، نُشر نص لتشومسكي على شكل تقديم لكتاب أصدره روبير فوريسون بدأ فيه المثقف الأمريكي بالقول إن القصد من وراء كتابة هذا النص هو الدفاع عن حرية التعبير. لكنه ذهب أبعد من ذلك فأثار رأيه جدالا كبيرا وضعه وجها لوجه أمام شخصية كبيرة من اليسار الفرنسي لها حضور مهم في الوعي الفرنسي. يتعلق الأمر بالمؤرخ والمناضل المناهض للاستعمار بيير فيدال ناكي (2006-1930). فقد رد الأخير على تشومسكي في كتابه «مغتالو الذاكرة» بقوله: «من حقك أن تقول: عدوي اللدود له الحق في الحرية (...)، لكن ليس من حقك أن تعيد رسم مزور بألوان الحقيقة». عن الموضوع نفسه علق فرانسو جيز، الرئيس المدير العام لمنشورات «لاديكوفيرت» وصديق وناشر فيدال ناكي، بالقول:»تأثر بيير (فيدال) كثيرا بتفسيرات تشومسكي التي لا تستند إلى أساس. لو لم يرتكب تشومسكي هذا الخطأ السياسي الجسيم، لكان سيكون مسموعا في فرنسا بشكل أفضل».
بعد هذا الحادث، صار على أصدقاء تشومسكي أن يتعاملوا مع هذا الوضع الموروث المسموم، الذي يبقى غنيا بالدلالات لمن يريد أن يفهم طبيعة العلاقة بين تشومسكي وفرنسا، لأن ما تطرحه هذه القضية بعيدا عن المواجهة بين تشومسكي وفيدال ناكي هو أن هذا الأخير لا يعير المثقفين الفرنسيين كثير احترام. فكل ما كتبه ديريدا ودولوز وفوكو ولاكان، أو كل ما يسميه الأمريكيون «French theory» (النظرية الفرنسية)لا يعدو أن يكون في نظر تشومسكي لغوا لا قيمة له. وإذا كان تعامل مع مؤرخ كبير للعصور القديمة، من طينة فيدال ناكي، باستهتار فإنه وصف أيضا المحلل النفسي جاك لاكان ب«المريض العقلي».
فرنسا تقاوم تشومسكي إذن. بلد ديكارت يجهل هذا العقلاني إلى حد كبير، وطن الأنوار يتنصل من مناضل الانعتاق هذا، الذي يعرف هذه الحقيقة، لذلك لم يزر فرنسا منذ ربع قرن مضى. لكن لمحاولة فهم هذا الاستثناء، لا يكفي الحديث عن وجود مافيا فكرية تمنع حضوره، بل ينبغي فهم السبب الذي يجعل خطاب تشومسكي السياسي أقل تأثيرا في باريس مقارنة مع روما أو برلين أو بورطو أليغر حيث يشكل اللساني الأمريكي، مع لولا (الرئيس البرازيلي) وتشافيز، أحد الوجوه البارزة في المنتدى الاجتماعي (...).
لكن حين يتحدث تشومسكي عن الدعم الأمريكي لدكتاتوريات أمريكا الجنوبية أو لطالبان، أو حين ينتقد الحرب في العراق أو الحصار المفروض على كوبا يشعر السامع بأن ما يقوله هو كلام مكرور. أما بالنسبة للرجال والنساء اليساريين، الذين تغذوا على فكر بيير بورديو ودانييل بنسعيد، بالنسبة للذين يحبون، اليوم ألان باديو، سلافيو زيزيك، أنطونيو نيغري أو جاك رانسيير، بالنسبة لجميع الذين يقرؤون «لوموند ديبلوماتيك»، فإن خطاب تشومسكي لا يحمل الشيء الكثير، باستثناء، ربما، مجال النقد الإعلامي حيث يبقى رائدا مرجعيا عند نشطاء الجمعيات المناوئة للعولمة.
إذا كان تشومسكي العالم معزولا في فرنسا، إذن، فلأن نظريته اللسانية تقابل باللامبالاة، وإذا كان خطابه السياسي له تأثير محدود في فرنسا مقارنة مع بلدان أخرى، فلأن المشهد السياسي الفرنسي يشهد حركية كبيرة ربما لا مجال فيها لأفكار تشومسكي.
ثمة سببا آخر لسوء الفهم بين فرنسا وتشومسكي ويتمثل في العلاقة التي يفترض أن تكون بين اللسانيات والسياسة التشومسكية. (...) الزيارة التي قام بها اللساني الأمريكي إلى فرنسا وُضعت من قبل المنظمين في إطار خدمة القناعة الإيديولوجية. إلا أن تشومسكي، نفسه، سبق له أن كرر أنه لا توجد أي علاقة بين الأمرين، أي بين اللسانيات والإيديولوجيا. بعد اللقاء، اصطحب بيير بيكا تشومسكي إلى مطعم صغير لتناول العشاء. «طرحت السؤال على نعوم: هل هنالك علاقة بين لسانياتك وسياستك، بين ما تسميه «مشكل أفلاطون» و«مشكل أورويل»، فأجابني ب«لا». قلت له إن ثمة لبس في فرنسا حول هذا الموضوع ولابد من توضيحه. فرد علي بأنه سيوضح هذا الأمر يوم الإثنين في محاضرته الأخيرة ب«كوليج دو فرانس».
فعلا، تناول تشومسكي القضية في محاضرته الأخيرة. تحدث طويلا وكرر المداعبات وأبدى قدرة كبيرة على الاستماع لجمهوره، غير أنه لم يرفع اللبس بين العلم والسياسة، ومر بدون حسن تخلص من اللسانيات إلى أحداث الشرق الأوسط.
عندما كان يستعد تشومسكي لمغادرة باريس، كان مازال لم يفعل شيئا من أجل رفع اللبس. «عندما رافقته إلى المطار، يحكي بيير بيكا، طرحت السؤال عليه مرة أخرى. فأجابني: «نعم، هنالك ربما مشكل خاص بفرنسا. لكنني لا أعرف». ودون أن يوضح اللغز، غادر فرنسا كمواطن عالمي يحب أن يقول دائما إنه يناضل من أجل مستقبل يمكن لأحفاده أن يستمروا في العمل على ضمان البقاء للسانيات.


لسانيات تشومسكي: فكرٌ ثوري متجدد
منذ عهد نيوتن، صارت جميع العلوم تبحث عن بطلها المؤسس. أما اللسانيات، فقد اعتقدت، عدة مرات، أنها وجدت مؤسسها. مع بداية القرن التاسع عشر، اعتُبر الألماني فرانز بوب هو المؤسس بعدما افتتح النحو المقارن. وفي بداية القرن العشرين، اعتُبر السويسري فيرديناند دو سوسير أب «البنيوية» هو المؤسس، قبل أن يُسند فعل التأسيس، في الأخير، إلى نعوم تشومسكي، الذي يفترض أن يكون أدخل الشعب العالم إلى الأرض الموعودة. ثمة سؤال مهم يجب طرحه هنا: هل يمكن أن نكون، نحن البشر أيضا، موضوع معرفة صارمة كما هي المعرفة التي تتعلق بالنباتات أو الخلايا مثلا؟
ثورة «النحو التوليدي»
يعود لتشومسكي سبقُ إحداث ثورة يرتبط بها اسم «النحو التوليدي»، والذي يعود أول تقديم له إلى العام 1957 مع كتاب «بنيات تركيبية». حتى ذلك التاريخ، كان اللسانيون يعتقدون أن مهمتهم تتمثل في تفسير السلوكات اللسانية الخاصة بمجموعة سكانية معينة. إلا أن تشومسكي نحا جانبا قليلا وقال إن مهمة اللساني هي تفسير قدرة كل فرد على إنتاج عدد لا منته من الجمل. لغتي لا تتكون، إذن، مما يقوله الناس في المجتمع حيث أنا ولدت، بل هي في رأسي. إنها تتكون من ميكانيزمات تجعلني قادرا على قول وفهم عدد لا متناه من الأشياء التي لن توجد أبدا. يعتبر تشومسكي أن هذا الإنتاج يشبه الطريقة التي يمكن أن نستخلص بها في النظريات الرياضية خلاصات انطلاقا من عدد محدود من الفرضيات. إدراككم لجملة ما باعتبارها صحيحة من الناحية النحوية مبني على نظام منطقي صغير، وهذا هو ما تسعى اللسانيات إلى إعادة تشكيله.
هكذا تصبح اللسانيات فرعا من علم النفس، لكن من علم نفس يعتبر الذهن نوعا من الحاسوب الذي يقوم بحسابات انطلاقا من كتابات شبيهة بكتابات المعلومياتيين ويقلب الفرضيات الذهنية إلى غاية الحصول، مثلا، على النص الذين تقرؤونه. بهذا الشكل أطلق تشومسكي «الثورة المعرفية»، التي يشترك في الاشتغال عليها أخصائيو المعلوميات، ومصممو البرامج المعلومياتية وأخصائيو العلوم الإنسانية وعلماء البيولوجيا والتي ندرك آثارها اليوم في كل مجالات المعرفة والتقنيات، بل حتى في حياتنا اليومية. يتعلق الأمر، بشكل عام، بمقاربة الإنسان، قبل كل شيء، مثل حيوان قادر على المعرفة وليس كحيوان سياسي أو اجتماعي، عقلاني أو رمزي أو ديني. وبما أن الإنسان لابد من أن ينجب ويلد، فسيكون هنالك أنثربولوجيون معرفيون، واقتصاديون معرفيون، وعلاجات نفسية معرفية، إلخ، كما أنه سيثير قضايا فلسفية من قبيل: هل العقل محبوس في العلبة الرأسية؟. قوة تشومسكي هي مقاربة مثل هذه الأسئلة من خلال مواجهتها بضرورة توفر الخصوبة العلمية. فهو لا يرى العلم إلا من خلال «برامج البحث»، أي الصياغة النظرية، ثم نقوم باختبارات على أمل أن تصمد النظرية، وأن تأتينا بمفاجأة وتغني نموذج الانطلاق، وتجدد رؤيتنا للأشياء. وإذا اقتضى الأمر، نغير النظرية كليا، وهذا هو ما وقع ل «اللسانيات التوليدية»(...)
الكلام كملكة عالمية
بداية من الثمانينيات، شهد النحو التوليدي تحولا حاسما. فلم تعد للسانيات مهمة وصف «اللغات»، بل وصف الكلام كملكة عالمية، فطرية. الكلام لم يعد هو القدرة على تعلم لغات كما النظم الشكلية الأخرى. ليس هنالك من لغات. هنالك، فقط، ملكة الكلام التي هي جهاز يمكن الإنسان من ربط العلاقة بين التجارب التي يقوم بها على جهازه الصوتي والأصوات التي تنتجها أجهزة الآخرين، من جهة والأفكار المتنوعة التي يكونها الإنسان على الأشياء، من جهة أخرى. قبل أن يتعلم الإنسان النطق، إذن، كان الكائن البشري يملك القدرة على إنتاج واستقبال الأصوات والقدرة على بناء تمثلات ذهنية لاعتقاداته. الكلام ظهر كواجهة بين هاتين الكفاءتين.
لا يتعلق الأمر فقط بالقول إن الكلام يمكن من التواصل، بل بالتأكيد على أن الكلام ينتج عن محاولة داخلية متعلقة بكل فرد للجمع بين هذين الجهازين الصغيرين اللذين يوجدان قبلا في دماغنا. فضلا عن أن هذه القدرة لا تأتي من المجموعة السكانية التي نسكن مع أفرادها، بل هي فطرية. تشومسكي يعتبرها نوعا من الألياف الكهربائية حيث يضع الطفل كابسات بحسب المعلومات التي يتلقاها. مهمة عالم اللسانيات هي أن يصوغ نظرية من هذه الوظيفة الذهنية أو الدماغية من خلال المقارنة بين مختلف اللغات لأجل فهم الميكانيزم الذي أدى إلى هذه الظاهرة التطورية، التي نسميها «الإنسان».
نظام بحث خاص
اعتمد تشومسكي نظام بحث أنتج مجموعة كبيرة من النتائج. لكنه لم يتوقف هنا، بل إنه انخرط منذ أواسط التسعينيات في برنامج طموح يهدف إلى البرهنة على أن ملكة الكلام، كما يمكن إعادة تشكيلها من خلال المقارنة بين اللغات، هي الحل «الأمثل»، البسيط، لمشكل العلاقة بين الإدراك والفكر. ولا عجب في ذلك طالما أن العلوم كلها تطرح فرضيات من هذا النوع. ويمكن الاستدلال هنا بمثال جمود الحركة في الفيزياء. صحيح أن اللسانيات لم تبلغ بعد هذا الحد، لكن تشومسكي يقول بتحديد برنامج يليق بأي لسانيات تريد أن تكون علمية. هنا أيضا، تثار جدالات حول هذا المنعطف المنهجي والتي ينضم إليها ليس فقط اللسانيون، بل الفلاسفة وعلماء البيولوجيا وعلماء النفس والمعلومياتيون أيضا. إذا كانت علوم الإنسان لم تعثر، مع تشومسكي، على أبيها الروحي كما كان نيوتن أبا للعلوم في زمانه، فليس من شك في أن أعمال تشومسكي فصلت بين فترتين: فترة ما قبل تشومسكي وأخرى بعده، وأنه لا يمكن لأي شخص معني بقضية معرفة كل ما يعنينا أن يتجاهل ما قدمه هذا العالم اللساني للسانيات. تشومسكي جعل اللسانيات في متناول الجمهور الواسع، وهو ما يستحق الانتباه إليه كما تدخلاته السياسية.
باتريس مانيغليي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.