ضحايا "البوليساريو" يفضحون أمام مجلس حقوق الإنسان انتهاكات فظيعة في مخيمات تندوف    حموشي يؤشر على تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    القمة العربية غير العادية .. السيد ناصر بوريطة يجري بالقاهرة مباحثات مع المكلف بتسيير أعمال وزارة الخارجية والتعاون الدولي بليبيا    ارتفاع التحويلات النقدية للمغاربة المقيمين بالخارج خلال يناير        المغرب يستهدف خلق 150 ألف فرصة عمل بقطاع السياحة بحلول عام 2030    الذهب يواصل مكاسبه مع إقبال عليه بفضل الرسوم الجمركية الأمريكية    تقرير: كيف يحافظ المغرب على "صفر إرهاب" وسط إقليم مضطرب؟    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    وزارة الثقافة تطلق برنامج دعم المشاريع الثقافية والفنية لسنة 2025    دراسة: البدانة ستطال ستة من كل عشرة بالغين بحلول العام 2050    مصرع شخصين في اصطدام عنيف بين شاحنتين بطريق الخميس أنجرة بضواحي تطوان    15 قتيلا و2897 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    أحوال الطقس ليوم الأربعاء: برد وزخات مطرية في مناطق واسعة من البلاد    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    بلاغ حول انعقاد الدورة العادية لمجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة    كأس العرش 2023-2024 (قرعة).. مواجهات قوية وأخرى متكافئة في دور سدس العشر    الحزب الثوري المؤسساتي المكسيكي يدعو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الانضمام للمؤتمر الدائم للأحزاب السياسية في أمريكا اللاتينية والكاريبي    ترامب يعلق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد أيام من مشادته مع زيلينسكي    القاهرة.. انطلاق أعمال القمة العربية غير العادية بمشاركة المغرب    أسعار اللحوم في المغرب.. انخفاض بنحو 30 درهما والناظور خارج التغطية    وكالة بيت مال القدس تشرع في توزيع المساعدات الغذائية على مؤسسات الرعاية الاجتماعية بالقدس    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على أداء سلبي    أمن فاس يوقف 6 أشخاص متورطون في الخطف والإحتجاز    استئنافية مراكش ترفع عقوبة رئيس تنسيقية زلزال الحوز    الضفة «الجائزة الكبرى» لنتنياهو    التفوق الأمريكي وفرضية التخلي على الأوروبيين .. هل المغرب محقا في تفضيله الحليف الأمريكي؟    بنك المغرب يحذر من أخبار مضللة ويعلن عن اتخاذ إجراءات قانونية    انتخاب المغرب نائبا لرئيس مجلس الوزارء الأفارقة المكلفين بالماء بشمال إفريقيا    "مرحبا يا رمضان" أنشودة دينية لحفيظ الدوزي    مسلسل معاوية التاريخي يترنح بين المنع والانتقاد خلال العرض الرمضاني    ألباريس: العلاقات الجيدة بين المغرب وترامب لن تؤثر على وضعية سبتة ومليلية    الركراكي يوجه دعوة إلى لاعب دينامو زغرب سامي مايي للانضمام إلى منتخب المغرب قبيل مباراتي النيجر وتنزانيا    القناة الثانية (2M) تتصدر نسب المشاهدة في أول أيام رمضان    الصين تكشف عن إجراءات مضادة ردا على الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على منتجاتها    فنربخشه يقرر تفعيل خيار شراء سفيان أمرابط    جمع عام استثنائي لنادي مولودية وجدة في 20 مارس    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    الصين: افتتاح الدورتين، الحدث السياسي الأبرز في السنة    فينيسيوس: "مستقبلي رهن إشارة ريال مدريد.. وأحلم بالكرة الذهبية"    الزلزولي يعود إلى تدريبات ريال بيتيس    الإفراط في تناول السكر والملح يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان    دوري أبطال أوروبا .. برنامج ذهاب ثمن النهاية والقنوات الناقلة    فرنسا تفرض إجراءات غير مسبوقة لتعقب وترحيل المئات من الجزائريين    الفيدرالية المغربية لتسويق التمور تنفي استيراد منتجات من إسرائيل    بطولة إسبانيا.. تأجيل مباراة فياريال وإسبانيول بسبب الأحوال الجوية    سينما.. فيلم "أنا ما زلت هنا" يمنح البرازيل أول جائزة أوسكار    القنوات الوطنية تهيمن على وقت الذروة خلال اليوم الأول من رمضان    3 مغاربة في جائزة الشيخ زايد للكتاب    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    المغرب يستمر في حملة التلقيح ضد الحصبة لرفع نسبة التغطية إلى 90%‬    كرنفال حكومي مستفز    وزارة الصحة تكشف حصيلة وفيات وإصابات بوحمرون بجهة طنجة    حوار مع صديقي الغاضب.. 2/1    فيروس كورونا جديد في الخفافيش يثير القلق العالمي..    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    الفريق الاشتراكي بمجلس المستشارين يستغرب فرض ثلاث وكالات للأسفار بأداء مناسك الحج    المياه الراكدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون الفرنسيون لم ينتجوا إلا اللغو الفارغ
نعوم تشومسكي وفرنسا.. حكاية خصام فكري بدأ قبل 30 سنة
نشر في المساء يوم 13 - 06 - 2010

مؤخرا زار نعوم تشومسكي، عالم اللسانيات الأمريكي المعروف، فرنسا بعد غياب دام قرابة ربع قرن. وكانت الزيارة مناسبة لمعرفة أثر أعماله
بين المثقفين الفرنسيين وجمهور المهتمين، إلا أنها بينت بالملموس أن الفرنسيين لم يعرفوا تشومسكي اللساني كما يعرفه جيرانهم الإيطاليون والألمان مثلا. ثمة سوء فهم بين الرجل والفرنسيين يعود إلى سنوات كثيرة خلت ظل خلالها تشومسكي يعتبر أن إنتاج دريدا ودولوز ولاكان ما هو إلا لغو فكري. «لوموند» خصصت صفحتين لتشومسكي في أحد أعدادها الأخيرة اقتبسنا منهما جزءا يسلط الضوء على أصل الخلاف وعلى بعض من أسس منهجية عمل هذا العالم الذي كان له فضل تأسيس اللسانيات التوليدية.
في سنة 1984، ذهب باحث شاب يسمى بيير بيكا للدراسة في الولايات المتحدة مع نعوم تشومسكي. كان حينها مؤسس اللسانيات «التوليدية» في أوج شهرته. فقد طالت شهرته كل أنحاء العالم، خاصة أنه مناوئ للإمبريالية ومتحرر من أي انتماء. وما هي إلا فترة قصيرة حتى ربط بيير بيكا علاقة متينة مع أستاذه في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا. تقوت علاقته بشومسكي حد أن مسؤولا في المعهد الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا كلفه، سنة 1994 بمهمة تجدير التقليد التشومسكي في فرنسا. يتحدث بيكا عن هذه التجربة قائلا: «وجدت الفكرة مهمة، لكن عندما حدثت تشومسكي عنها رد علي بسرعة: لن تنجح. وقد كان محقا في ذلك».
15 سنة بعد ذلك، بقي تشومسكي هامشيا في الجامعات الفرنسية. ومؤخرا، عندما أراد بيير بيكا تنظيم لقاء مع تشومسكي بباريس، لم يسهل له مسؤولو المعهد الوطني للأبحاث العلمية المهمة. فهل يتعلق الأمر بنوع من مؤامرة صمت ثقافية ضد تشومسكي؟ هل هو قمع أكاديمي ضد تشومسكي؟ لا، الأمر يتعلق بما هو أسوأ من هذا وذاك. إنها لامبالاة فحسب، واستهزاء مبطن.
رغم كل شيء نظم اللقاء يوم 29 ماي الماضي، وحج إليه كثير من المهتمين. لم يكونوا فرنسيين فحسب، بل كانوا إيطاليين وبرازيليين وأمريكيين أيضا. ظل تشومسكي، 81 سنة، يتكلم طيلة ساعة من الزمن. لم يتوقف ارتجاله لدرس في اللسانيات التوليدية، وكان في كل مرة يقوم من مكانه ويخط على السبورة جملة ثم يفككها. وبين الحين والآخر، كان يقحم جملة على سبيل الدعابة.
في نهاية اللقاء، خلت الأسئلة – أو كادت- من أي سؤال للفرنسيين. وهنا دليل آخر على أن تشومسكي ليس له تأثير كبير في فرنسا رغم أن علمه يُدرس في بقية بلدان أوربا، ورغم أن الفرنسيين لعبوا دورا مهما في إشعاع لسانياته التوليدية. «خلال الستينيات والسبعينيات، يقول بيكا، عرفنا الجميع في أوربا بتشومسكي. تعرف عليه الإيطاليون والهولنديون والنرويجيون. لكن الحركة توقفت عندنا. وقد تساءلنا دائما عن السبب. لكن مهما كان السبب، فالفعل موجود: في فرنسا، أصبح النحو التوليدي «غيتو» صغيرا. جل كتب نعوم غير موجودة في فرنسا. الكتب الوحيدة التي تُنشر له في فرنسا هي الكتب السياسية، وهي أضعف من بقية كتبه.»
لكن، إذا كان بعض المخلصين لتشومسكي يتأسفون لتواري إنتاجه المعرفي خلف نصوصه وأعماله النضالية، فإن آخرين مسرورون لكون الأفكار السياسية لهذا المثقف الأمريكي صارت، اليوم، منتشرة باللغة الفرنسية سواء تعلق الأمر بأعماله حول خيانة المثقفين، أو بصناعة الإذعان أو بالهيمنة الأمريكية. صحيح أن أعماله تعاني من نوع من التشتت لأن تشومسكي لم يؤلف الكتاب الذي يعطي رؤية منسجمة لفكره السياسي. إلا أننا نتوفر على عدد من المؤلفات التي تجمع مقالاته وحواراته. ومنذ نهاية التسعينيات بدأت النصوص السياسية لتشومسكي تجتاح المكتبات الفرنسية. بدأت بنشرها، أولا، دور نشر صغيرة قبل أن تنضم إليها دور كبيرة. ونتيجة لذلك باع تشومسكي حوالي 20 ألف نسخة من أعماله في فرنسا. رقم جيد، إلا أنه ضعيف مقارنة مع بلدان أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا، حيث يبقى حضور تشومسكي أهم بكثير مما هو عليه في فرنسا. فما السر، إذن، في هذا الاستثناء الفرنسي؟ سيرج حليمي يفسر ذلك بقوله في لقاء نظمته «لوموند ديبلوماتيك» بأنه إذا كان تشومسكي لم يحضر إلى فرنسا منذ قرابة 30 سنة، فلأن «مجموعة من الحراس» أو «شرطة فكر حقيقية» فعلت ما بوسعها لمنع الاطلاع على نصوصه. من جهته أكد الفيلسوف جاك بوفيريس في مقدمة لكتاب «Raison et Liberté «بعنوان «تشومسكي أمام معارضيه»، أن الأخير يعتبر واحدا من المثقفين القلائل الذين تعرضوا –ومازالوا- للنقد والقذف، فكريا وأخلاقيا، بشكل حاد في فرنسا.
أصل الخلاف
أصل سوء التفاهم بين فرنسا وتشومسكي يعود كذلك إلى بعض الأحداث الإضافية. هنالك أولا «قضية فوريسون» التي مازالت ترخي بظلالها على نظرة المثقفين الفرنسيين إلى تشومسكي في فرنسا. سنة 1980، نُشر نص لتشومسكي على شكل تقديم لكتاب أصدره روبير فوريسون بدأ فيه المثقف الأمريكي بالقول إن القصد من وراء كتابة هذا النص هو الدفاع عن حرية التعبير. لكنه ذهب أبعد من ذلك فأثار رأيه جدالا كبيرا وضعه وجها لوجه أمام شخصية كبيرة من اليسار الفرنسي لها حضور مهم في الوعي الفرنسي. يتعلق الأمر بالمؤرخ والمناضل المناهض للاستعمار بيير فيدال ناكي (2006-1930). فقد رد الأخير على تشومسكي في كتابه «مغتالو الذاكرة» بقوله: «من حقك أن تقول: عدوي اللدود له الحق في الحرية (...)، لكن ليس من حقك أن تعيد رسم مزور بألوان الحقيقة». عن الموضوع نفسه علق فرانسو جيز، الرئيس المدير العام لمنشورات «لاديكوفيرت» وصديق وناشر فيدال ناكي، بالقول:»تأثر بيير (فيدال) كثيرا بتفسيرات تشومسكي التي لا تستند إلى أساس. لو لم يرتكب تشومسكي هذا الخطأ السياسي الجسيم، لكان سيكون مسموعا في فرنسا بشكل أفضل».
بعد هذا الحادث، صار على أصدقاء تشومسكي أن يتعاملوا مع هذا الوضع الموروث المسموم، الذي يبقى غنيا بالدلالات لمن يريد أن يفهم طبيعة العلاقة بين تشومسكي وفرنسا، لأن ما تطرحه هذه القضية بعيدا عن المواجهة بين تشومسكي وفيدال ناكي هو أن هذا الأخير لا يعير المثقفين الفرنسيين كثير احترام. فكل ما كتبه ديريدا ودولوز وفوكو ولاكان، أو كل ما يسميه الأمريكيون «French theory» (النظرية الفرنسية)لا يعدو أن يكون في نظر تشومسكي لغوا لا قيمة له. وإذا كان تعامل مع مؤرخ كبير للعصور القديمة، من طينة فيدال ناكي، باستهتار فإنه وصف أيضا المحلل النفسي جاك لاكان ب«المريض العقلي».
فرنسا تقاوم تشومسكي إذن. بلد ديكارت يجهل هذا العقلاني إلى حد كبير، وطن الأنوار يتنصل من مناضل الانعتاق هذا، الذي يعرف هذه الحقيقة، لذلك لم يزر فرنسا منذ ربع قرن مضى. لكن لمحاولة فهم هذا الاستثناء، لا يكفي الحديث عن وجود مافيا فكرية تمنع حضوره، بل ينبغي فهم السبب الذي يجعل خطاب تشومسكي السياسي أقل تأثيرا في باريس مقارنة مع روما أو برلين أو بورطو أليغر حيث يشكل اللساني الأمريكي، مع لولا (الرئيس البرازيلي) وتشافيز، أحد الوجوه البارزة في المنتدى الاجتماعي (...).
لكن حين يتحدث تشومسكي عن الدعم الأمريكي لدكتاتوريات أمريكا الجنوبية أو لطالبان، أو حين ينتقد الحرب في العراق أو الحصار المفروض على كوبا يشعر السامع بأن ما يقوله هو كلام مكرور. أما بالنسبة للرجال والنساء اليساريين، الذين تغذوا على فكر بيير بورديو ودانييل بنسعيد، بالنسبة للذين يحبون، اليوم ألان باديو، سلافيو زيزيك، أنطونيو نيغري أو جاك رانسيير، بالنسبة لجميع الذين يقرؤون «لوموند ديبلوماتيك»، فإن خطاب تشومسكي لا يحمل الشيء الكثير، باستثناء، ربما، مجال النقد الإعلامي حيث يبقى رائدا مرجعيا عند نشطاء الجمعيات المناوئة للعولمة.
إذا كان تشومسكي العالم معزولا في فرنسا، إذن، فلأن نظريته اللسانية تقابل باللامبالاة، وإذا كان خطابه السياسي له تأثير محدود في فرنسا مقارنة مع بلدان أخرى، فلأن المشهد السياسي الفرنسي يشهد حركية كبيرة ربما لا مجال فيها لأفكار تشومسكي.
ثمة سببا آخر لسوء الفهم بين فرنسا وتشومسكي ويتمثل في العلاقة التي يفترض أن تكون بين اللسانيات والسياسة التشومسكية. (...) الزيارة التي قام بها اللساني الأمريكي إلى فرنسا وُضعت من قبل المنظمين في إطار خدمة القناعة الإيديولوجية. إلا أن تشومسكي، نفسه، سبق له أن كرر أنه لا توجد أي علاقة بين الأمرين، أي بين اللسانيات والإيديولوجيا. بعد اللقاء، اصطحب بيير بيكا تشومسكي إلى مطعم صغير لتناول العشاء. «طرحت السؤال على نعوم: هل هنالك علاقة بين لسانياتك وسياستك، بين ما تسميه «مشكل أفلاطون» و«مشكل أورويل»، فأجابني ب«لا». قلت له إن ثمة لبس في فرنسا حول هذا الموضوع ولابد من توضيحه. فرد علي بأنه سيوضح هذا الأمر يوم الإثنين في محاضرته الأخيرة ب«كوليج دو فرانس».
فعلا، تناول تشومسكي القضية في محاضرته الأخيرة. تحدث طويلا وكرر المداعبات وأبدى قدرة كبيرة على الاستماع لجمهوره، غير أنه لم يرفع اللبس بين العلم والسياسة، ومر بدون حسن تخلص من اللسانيات إلى أحداث الشرق الأوسط.
عندما كان يستعد تشومسكي لمغادرة باريس، كان مازال لم يفعل شيئا من أجل رفع اللبس. «عندما رافقته إلى المطار، يحكي بيير بيكا، طرحت السؤال عليه مرة أخرى. فأجابني: «نعم، هنالك ربما مشكل خاص بفرنسا. لكنني لا أعرف». ودون أن يوضح اللغز، غادر فرنسا كمواطن عالمي يحب أن يقول دائما إنه يناضل من أجل مستقبل يمكن لأحفاده أن يستمروا في العمل على ضمان البقاء للسانيات.


لسانيات تشومسكي: فكرٌ ثوري متجدد
منذ عهد نيوتن، صارت جميع العلوم تبحث عن بطلها المؤسس. أما اللسانيات، فقد اعتقدت، عدة مرات، أنها وجدت مؤسسها. مع بداية القرن التاسع عشر، اعتُبر الألماني فرانز بوب هو المؤسس بعدما افتتح النحو المقارن. وفي بداية القرن العشرين، اعتُبر السويسري فيرديناند دو سوسير أب «البنيوية» هو المؤسس، قبل أن يُسند فعل التأسيس، في الأخير، إلى نعوم تشومسكي، الذي يفترض أن يكون أدخل الشعب العالم إلى الأرض الموعودة. ثمة سؤال مهم يجب طرحه هنا: هل يمكن أن نكون، نحن البشر أيضا، موضوع معرفة صارمة كما هي المعرفة التي تتعلق بالنباتات أو الخلايا مثلا؟
ثورة «النحو التوليدي»
يعود لتشومسكي سبقُ إحداث ثورة يرتبط بها اسم «النحو التوليدي»، والذي يعود أول تقديم له إلى العام 1957 مع كتاب «بنيات تركيبية». حتى ذلك التاريخ، كان اللسانيون يعتقدون أن مهمتهم تتمثل في تفسير السلوكات اللسانية الخاصة بمجموعة سكانية معينة. إلا أن تشومسكي نحا جانبا قليلا وقال إن مهمة اللساني هي تفسير قدرة كل فرد على إنتاج عدد لا منته من الجمل. لغتي لا تتكون، إذن، مما يقوله الناس في المجتمع حيث أنا ولدت، بل هي في رأسي. إنها تتكون من ميكانيزمات تجعلني قادرا على قول وفهم عدد لا متناه من الأشياء التي لن توجد أبدا. يعتبر تشومسكي أن هذا الإنتاج يشبه الطريقة التي يمكن أن نستخلص بها في النظريات الرياضية خلاصات انطلاقا من عدد محدود من الفرضيات. إدراككم لجملة ما باعتبارها صحيحة من الناحية النحوية مبني على نظام منطقي صغير، وهذا هو ما تسعى اللسانيات إلى إعادة تشكيله.
هكذا تصبح اللسانيات فرعا من علم النفس، لكن من علم نفس يعتبر الذهن نوعا من الحاسوب الذي يقوم بحسابات انطلاقا من كتابات شبيهة بكتابات المعلومياتيين ويقلب الفرضيات الذهنية إلى غاية الحصول، مثلا، على النص الذين تقرؤونه. بهذا الشكل أطلق تشومسكي «الثورة المعرفية»، التي يشترك في الاشتغال عليها أخصائيو المعلوميات، ومصممو البرامج المعلومياتية وأخصائيو العلوم الإنسانية وعلماء البيولوجيا والتي ندرك آثارها اليوم في كل مجالات المعرفة والتقنيات، بل حتى في حياتنا اليومية. يتعلق الأمر، بشكل عام، بمقاربة الإنسان، قبل كل شيء، مثل حيوان قادر على المعرفة وليس كحيوان سياسي أو اجتماعي، عقلاني أو رمزي أو ديني. وبما أن الإنسان لابد من أن ينجب ويلد، فسيكون هنالك أنثربولوجيون معرفيون، واقتصاديون معرفيون، وعلاجات نفسية معرفية، إلخ، كما أنه سيثير قضايا فلسفية من قبيل: هل العقل محبوس في العلبة الرأسية؟. قوة تشومسكي هي مقاربة مثل هذه الأسئلة من خلال مواجهتها بضرورة توفر الخصوبة العلمية. فهو لا يرى العلم إلا من خلال «برامج البحث»، أي الصياغة النظرية، ثم نقوم باختبارات على أمل أن تصمد النظرية، وأن تأتينا بمفاجأة وتغني نموذج الانطلاق، وتجدد رؤيتنا للأشياء. وإذا اقتضى الأمر، نغير النظرية كليا، وهذا هو ما وقع ل «اللسانيات التوليدية»(...)
الكلام كملكة عالمية
بداية من الثمانينيات، شهد النحو التوليدي تحولا حاسما. فلم تعد للسانيات مهمة وصف «اللغات»، بل وصف الكلام كملكة عالمية، فطرية. الكلام لم يعد هو القدرة على تعلم لغات كما النظم الشكلية الأخرى. ليس هنالك من لغات. هنالك، فقط، ملكة الكلام التي هي جهاز يمكن الإنسان من ربط العلاقة بين التجارب التي يقوم بها على جهازه الصوتي والأصوات التي تنتجها أجهزة الآخرين، من جهة والأفكار المتنوعة التي يكونها الإنسان على الأشياء، من جهة أخرى. قبل أن يتعلم الإنسان النطق، إذن، كان الكائن البشري يملك القدرة على إنتاج واستقبال الأصوات والقدرة على بناء تمثلات ذهنية لاعتقاداته. الكلام ظهر كواجهة بين هاتين الكفاءتين.
لا يتعلق الأمر فقط بالقول إن الكلام يمكن من التواصل، بل بالتأكيد على أن الكلام ينتج عن محاولة داخلية متعلقة بكل فرد للجمع بين هذين الجهازين الصغيرين اللذين يوجدان قبلا في دماغنا. فضلا عن أن هذه القدرة لا تأتي من المجموعة السكانية التي نسكن مع أفرادها، بل هي فطرية. تشومسكي يعتبرها نوعا من الألياف الكهربائية حيث يضع الطفل كابسات بحسب المعلومات التي يتلقاها. مهمة عالم اللسانيات هي أن يصوغ نظرية من هذه الوظيفة الذهنية أو الدماغية من خلال المقارنة بين مختلف اللغات لأجل فهم الميكانيزم الذي أدى إلى هذه الظاهرة التطورية، التي نسميها «الإنسان».
نظام بحث خاص
اعتمد تشومسكي نظام بحث أنتج مجموعة كبيرة من النتائج. لكنه لم يتوقف هنا، بل إنه انخرط منذ أواسط التسعينيات في برنامج طموح يهدف إلى البرهنة على أن ملكة الكلام، كما يمكن إعادة تشكيلها من خلال المقارنة بين اللغات، هي الحل «الأمثل»، البسيط، لمشكل العلاقة بين الإدراك والفكر. ولا عجب في ذلك طالما أن العلوم كلها تطرح فرضيات من هذا النوع. ويمكن الاستدلال هنا بمثال جمود الحركة في الفيزياء. صحيح أن اللسانيات لم تبلغ بعد هذا الحد، لكن تشومسكي يقول بتحديد برنامج يليق بأي لسانيات تريد أن تكون علمية. هنا أيضا، تثار جدالات حول هذا المنعطف المنهجي والتي ينضم إليها ليس فقط اللسانيون، بل الفلاسفة وعلماء البيولوجيا وعلماء النفس والمعلومياتيون أيضا. إذا كانت علوم الإنسان لم تعثر، مع تشومسكي، على أبيها الروحي كما كان نيوتن أبا للعلوم في زمانه، فليس من شك في أن أعمال تشومسكي فصلت بين فترتين: فترة ما قبل تشومسكي وأخرى بعده، وأنه لا يمكن لأي شخص معني بقضية معرفة كل ما يعنينا أن يتجاهل ما قدمه هذا العالم اللساني للسانيات. تشومسكي جعل اللسانيات في متناول الجمهور الواسع، وهو ما يستحق الانتباه إليه كما تدخلاته السياسية.
باتريس مانيغليي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.