الذين لم يفهموا عدم تردد إسرائيل في قصف قافلة سفن الحرية التي تحمل المساعدات الإنسانية لسكان غزة المحاصرين وقتل تسعة عشر مدنيا مسالما وجرح آخرين في قلب المياه الدولية، معذورون. فربما يكونون قد نسوا ذلك الاتفاق الثنائي الذي وقعته «كونداليزا رايس»، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مع «تسيبي ليفني»، وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، مباشرة بعد العدوان على غزة عام 2009، والقاضي بمنح إسرائيل صلاحيات في التدخل العسكري تفوق الصلاحيات الممنوحة لكل دول العالم، بحيث يمتد قطر تدخلها العسكري من تل أبيب إلى مضيق جبل طارق. إن الولد المدلل إبراهيم الفاسي الفهري، صاحب معهد «أماديوس»، الذي استضاف «تسيبي ليفني» بحجة أنها تنتمي إلى المعارضة الإسرائيلية وليس إلى الحكومة، مدعو إلى تأمل ما حدث أكثر من غيره، حتى يصحح أفكاره ومعلوماته حول هذه المجرمة التي استضافها في طنجة. فإذا كان هؤلاء الشهداء التسعة عشر، الذين سقطوا غدرا تحت نيران الجيش الإسرائيلي، قد ماتوا غدرا، فإن مبرر اغتيالهم بالنسبة إلى إسرائيل هو هذا الاتفاق الثنائي الذي وقعته «تسيبي ليفني» و«كونداليزا رايس»، والذي يسمح لإسرائيل بالتدخل في المياه الدولية من تل أبيب إلى حدود المياه الشمالية للمغرب. وإذا كان الولد المدلل مدعوا إلى تصحيح معلوماته حول ضيفته، خصوصا وأنه يهدد باستضافة المزيد من الإسرائيليين مستقبلا، فإن والده وزير الخارجية ملزم باتخاذ موقف حازم وواضح من الجريمة النكراء التي وقعت أمام أعين العالم بأسره، خصوصا وأن القافلة البحرية يوجد ضمن المشاركين فيها مواطنون مغاربة، أحدهم نائب برلماني. أما بالنسبة إلى الحضور الإعلامي المغربي، ف«المساء» تفتخر بوجود مراسلتها في أنقرة بتركيا على متن إحدى هذه السفن. ونحن ننتظر، على أحر من الجمر، آخر الأخبار حول مصيرها ومصير بقية الركاب الذين تحاصرهم مدفعية الجيش الإسرائيلي. يمكن أن يرى البعض في ما قامت به إسرائيل تعبيرا عن الغطرسة والتفوق العسكري واحتقار العالم بأسره، لكنني شخصيا أرى أن قصف واحد من أقوى الجيوش العالمية لسفن محملة بالمواد الغذائية والأدوية يقودها مواطنون مسالمون من مختلف بلدان العالم، فيه تعبير واضح عن مدى الضعف والهوان والتفكك الذي تعيشه إسرائيل من الداخل. إسرائيل اليوم أضعف من أي وقت مضى، وهي اليوم تبرر قصفها لسفن المدنيين المسالمين بكون هذه السفن تحمل على متنها عناصر إرهابية. وحتى إذا افترضنا أن هذه السفن تحمل على متنها عناصر إرهابية، أليس من الأليق اعتقالهم وتقديمهم إلى المحاكمة، عوض قصفهم بتلك الطريقة الجبانة وقتلهم بدم بارد. حتى الحيتان والدلافين والفقمة تحظى اليوم بحماية دولية في أعالي البحار، فكيف لا يحظى بهذه الحماية الآدميون يا ترى؟ إذا كانت إسرائيل تمنع الضيوف من الاقتراب منها لأنهم إرهابيون، فبماذا ستبرر، مثلا، منعها قبل أسبوعين الفيلسوف والعالم اللساني اليهودي «ناعوم تشومسكي» من دخول أراضيها، أو بالأحرى أراضي الفلسطينيين التي سلبتهم إياها، وإلقاء محاضرة في إحدى الجامعات الإسرائيلية؟ هل «ناعوم تشومسكي» إرهابي أيضا؟ تخيلوا أن إسرائيل تمنع عالما أمريكيا يهوديا من دخول جامعاتها لإلقاء محاضرة، في الوقت الذي تستضيف فيه أساتذة جامعيين مغاربة لإعطائهم دروسا حول «المحرقة». إن ما قامت به إسرائيل اليوم في عرض البحر ضد سفن مسالمة، يفضح الجانب الجبان والغادر في شخصيتها المهزوزة. ولعل واحدة من حسنات هذه المجزرة الرهيبة هي أنها جاءت لكي تضاعف عزلة إسرائيل الدولية. فإلى حدود الآن استدعت إسبانيا وتركيا واليونان سفراءها احتجاجا على العربدة الإسرائيلية، وطالب الاتحاد الأوربي بفتح تحقيق رسمي حول ما وقع، وأصدرت الأممالمتحدة بيانا يندد بالجريمة. وفي فرنسا، هناك اليوم نقاش حاد حول ضرورة الفكاك من القبضة الإعلامية الإسرائيلية، وهي القبضة التي شعر المثقفون الموالون للكيان الصهيوني ببدء ارتخائها بعد صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي «ريجيس دوبري» الذي يحمل عنوان «إلى صديق إسرائيلي»، ينتقد فيه حالة الحمق والهذيان السياسي التي دخلت فيها إسرائيل، مما يهدد وجودها ويهدد معه الأمن العالمي. وكعادتهم، تجند مثقفو اللوبي الصهيوني لمهاجمة الفيلسوف «ريجيس دوبري» ووصفه بأقذع النعوت. وبما أن التهمة المفضلة لهؤلاء الصهاينة المتنكرين في ثياب المثقفين الحداثيين والتقدميين هي معاداة السامية، فقد تحول «ريجيس دوبري» فجأة على صفحات «لوموند» إلى معادٍ للسامية. وهذا طبيعي مادام الإعلام الفرنسي مخترقا عن آخره من طرف اللوبي الصهيوني المساند لهذيان إسرائيل وعربدتها النازية. وبالأمس فقط، ساعات قليلة قبل بدأ إسرائيل قصفها لقوارب الحياة، كانت قناة «إم6» الفرنسية تبث حلقة من برنامج «تحقيق خاص» Enquête exclusive حول لبنان. وقد حرص معدو البرنامج على تقديم المسيحيين اللبنانيين كمواطنين ناجحين يسيرون مقاولات وشركات لماركات الأزياء والعطور العالمية، ويعيشون في الأحياء الراقية والنظيفة، فيما حرصوا على تقديم المسلمين اللبنانيين إما كإرهابيين يشجعون أبناءهم على العمليات الانتحارية، وإما كفقراء ولاجئين يعيشون في الأحياء الهامشية. ولعل اللبناني الوحيد الذي قدمه البرنامج كنموذج للشاب المسلم الناجح، هو حالة شاب لبناني لديه شركة لصناعة جعة محلية يفكر في تصديرها نحو العالم. أما النموذج الناجح والمثالي للشاب المسيحي، فهو ابن «أمين جميل» الذي ورث الزعامة عن والده الرئيس المغتال والذي يعيش محاطا بحراسه على مدار الساعة. عندما ينتهي البرنامج تخرج بخلاصة واحدة، وهي أن اللبنانيين المسيحيين يسعون إلى بناء لبنان، فيما المسلمون يتسببون في خرابه. وينسى معدو البرنامج حقيقة كبيرة وهي أن السبب الحقيقي في خراب لبنان ليس المقاومة وإنما دولة محتلة اسمها إسرائيل تفادى معدو البرنامج الحديث عن مسؤوليتها في المآسي التي عاشها لبنان طوال تاريخه. إن هذه الآلة الإعلامية الفرنسية، الموالية للحكومة الإسرائيلية المتطرفة، لا تكف عن الاشتغال ليل نهار لتغليط الرأي العام الفرنسي وجزء كبير من الرأي العام المغاربي الذي يتابع برامج هذه القنوات الفرنسية، وهي نفس الآلة الإعلامية التي تقوم بها القنوات الأمريكية الموالية للصهيونية بمساعدة واضحة من هوليود والصناعة السينمائية. ولعل الجملة التي تقدمت بها مخرجة فيلم Les démineurs والتي حازت على جوائز «أوسكار» لم تكن تنتظرها، والتي تقول إن قصة الفيلم تدور حول جنود أمريكيين يوجدون على «أرض نزاع». طبعا، المخرجة تريد أن تحول الجنود الأمريكيين إلى سياح وجدوا أنفسهم فجأة في أرض نزاع. والحال أن الحقيقة التي تحاول الدعاية الهوليودية إخفاءها هي أن هؤلاء الجنود الأمريكيين غزاة، وأن العراق أرض محتلة وليست أرض نزاع. لهذا نفهم سر احتفاء تظاهرة سينمائية عالمية كحفل الأوسكار بهذا الفيلم. كما نفهم سر تجاهل لجان تحكيم المهرجانات السينمائية لفيلم مخرجين أمريكيين من أصل يهودي اسمهما «الأخوان كوهن» يحمل عنوان A Serious Man «رجل جاد». فالفيلم يحكي قصة «لاري غوبنيك»، أستاذ يعيش حياته بهدوء، إلى حدود اليوم الذي ستقرر فيه زوجته الانفصال عنه من أجل الارتباط برجل دين يهودي. يحكي الفيلم بطريقة نقدية التشدد الديني اليهودي بأمريكا، ومحاولة بطله التخلص من ثقل المعتقدات الموروثة التي تتعايش جنبا إلى جنب مع النفاق والفساد والغش. ولعل اللقطة القوية في الفيلم هي عندما يعتقد البطل أن كل مشاكله حلت، فزوجته قررت أن تعود إليه، وابنه تخرج من المدرسة الدينية وحفظ التلمود عن ظهر قلب، وكل مشاكله وجدت طريقها إلى الحل. في هذه اللحظة بالضبط تأتيه مكالمة من طبيبه الخاص يطلب فيها منه المجيء إلى عيادته لإخباره بإصابته بالسرطان، وبأن أيامه أصبحت معدودة. هنا ينتهي الفيلم بمنظر عام لمدرسة يهودية دينية تنتظر إفراغ تلاميذها بسبب إعصار قادم تلوح غيومه المخيفة في السماء مهددة بنسف المدرسة والمدينة والبلاد بأسرها. إنها طريقة الأخوين «كوهين» في إيصال رسالة إلى المجتمع الإسرائيلي مفادها أن المرض التي تعاني منه إسرائيل يأكلها من الداخل، مثل السرطان تماما. وفي الوقت الذي تعتقد فيه أن تماسكها وقوتها العسكرية على أحسن حال، فإن المرض القاتل ينهش أحشاءها، وإن نهايتها ستكون مثل تلك اللقطة الأخيرة التي ختما بها فيلمهما الذكي، أي إعصار مدمر تهيئه لنفسها سيأتي على الأخضر واليابس. لحسن الحظ أن هناك صحوة عالمية اليوم تكسر الخوف والرعب الذي أرسته الدعاية الصهيونية الأوربية والأمريكية بقوة الترهيب والوعيد والتشهير. وهذه الصحوة العالمية التي يقودها علماء ومثقفون وفلاسفة وسينمائيون أوربيون وأمريكيون، بينهم يهود ومسيحيون وعلمانيون وملحدون، يجب أن يتأملها أشباه المثقفين المغاربة وبعض غلاة الأمازيغية الذين يتهافتون على زيارة تل أبيب ويتغزلون في متانة الروابط التي تجمع بينهم وبين الإسرائيليين. إن ما قامت به إسرائيل ليس دليل قوة وإنما هو دليل ضعف، وضربتها هي ضربة الخائف وليست ضربة المطمئن.