للإعلام علاقة وطيدة بالسياسة. فالسياسة تعتبر مادة دسمة تخلق دينامية للإعلام، كما أن نجاحه رهين بنسبة كبيرة بنجاح المنظومة السياسية في بلد ما، لكونه يرصد تحركات الفاعلين في هذا الميدان وينقلها إلى الرأي العام، ويوصل رسائلهم السياسية عبر قنواتها التعبيرية. لذا، فمقاربة علمية لهذا الموضوع تأخذ بعين الاعتبار المنظومات الثلاث المكونة للعملية التواصلية: المتكلم (الفاعل السياسي) – المتلقي (الجمهور/المواطن) – الأداة التواصلية (الخطاب أو المجادلات السياسية عبر قنوات الإعلام التقليدية والمعلوماتية). سنأخذ هنا التلفزة نموذجا كأداة للتواصل السياسي، على اعتبار أنها الأكثر استهلاكا من غيرها من أدوات التواصل الجماهيري، وذلك منذ أن أصبح الإنسان كائنا اتصاليا. كيف إذن تتعامل التلفزة المغربية مع المادة السياسية؟ ما هي الفترات التي تكثر فيها البرامج ذات الطابع السياسي؟ كيف يتعامل اليوم السياسي مع الإعلام لكي يوصل رسائله؟ وهل للمتلقي المغربي ثقافة المتابعة العلمية للحياة السياسية في بلاده وفي سائر بلدان العالم؟ التلفزة المغربية كغيرها من القنوات الإعلامية في العالم توجد من بين برامجها حلقات تشتغل وفق نظام المواجهة السياسية التي أصبحت اليوم تمرينا عسيرا، لكن لا بد منه لدعم التوجه الديمقراطي. ومثل هذه البرامج تروم استعراض مختلف أوجه النظر للفاعلين السياسيين على تعدد توجهاتهم ومشاربهم أمام المتلقي لمحاولة إقناعه واستمالته خاصة في الفترات التي يتم فيها التهييء لانتخابات مقبلة. لكن المتلقي المغربي عبَر عبْر عزوفه السياسي أنه على درجة عالية من الوعي السياسي، وأنه ليس من السهل إقناعه رغم تعدد واختلاف آليات الاتصال به والتي استعملتها المؤسسات الحزبية في الانتخابات التشريعية ل7 من سبتمبر 2007، ناهيك عن تلك التي سخرتها الدولة لحث المواطنين على أداء واجبهم، إضافة إلى النداء الملكي. إن ممارسة الفعل السياسي، أصبحت تتطلب الكثير من الاحترافية، وتشترط تكوينات ضرورية، وخاصة في التواصل السياسي، وذلك لاكتساب مهارات، ووضع تصورات، وتشكيل استراتيجيات مستوحاة من أحدث تقنيات التواصل، لكي يكون الخطاب السياسي أكثر نجاعة ونفادا لعقل وقلب المتلقي، وفقا لما تتطلبه الممارسات السياسية الحديثة، التي تروم خدمة مقومات الديمقراطية المتمثلة في إطلاع الرأي العام على التصورات والمواقف والتحاليل السياسية، وكذا تداول المعلومات والأفكار حول مواضيع ذات اهتمامات مشتركة، ومحاولة التعريف بالبرامج ذات التوجه الإصلاحي. لكن يبقى هدف الاتصال السياسي بصفة عامة هو الإقناع بغية الحصول على السلطة. إن تحليل الخطاب السياسي من طرف الباحثين في ميدان التواصل السياسي يعتمد على استخراج هذه الأنساق المرجعية التي تزخر بها المجادلات السياسية، حيث يحاول كل فاعل التعبير عن موقفه والدفاع عن رأيه ومبادئه باللجوء إليها. كما أن رسم مسار سياسي صحيح يلزم المتعاطي للسياسة أن يجتهد أكثر في تطوير أدوات خطابه الاتصالي. فتمرين المواجهة بين الفرقاء السياسيين أمام شاشة التلفزة وعلى مرأى ومسمع الملايين من الجماهير مسؤولية جسيمة، يمكن أن ترفع من شأنك أو أن تحط من قدرك، وبالتالي تعطي للمتلقي الشعور بالإحباط وعدم الثقة في السياسي، خاصة إذا كان المتكلم من هواة لغة الخشب. لتفادي الوقوع في الخطأ الذي تترصده عيون وآذان المتلقي، على السياسي أن يكون على معرفة بكل القضايا بأدق تفاصيلها، وأن يكون متمرسا متحكما في أساليب الربط بين المرجعيات الثابتة للمؤسسة التي يمثلها. أن يخاطب العقل والوجدان، أن يقارع الحجة بالحجة وأن لا يتوانى في توظيف كل المعطيات التي يتوفر عليها لدعم خطابه وموقفه. للتأثير في المتلقي ليست هناك وصفات جاهزة ولا مرجعيات ثابتة، ولكن بصفة عامة لكل متدخل تقنيته الخاصة في الإقناع، حركاته الجسدية الداعمة لخطابه، وأساليبه التي تبقى شخصية والتي يعتمد فيها على رصيده المعرفي وعلى زاده اللغوي وعلى كفاءاته الفكرية وقوة بديهته، وكذا طريقة تصريفه لانفعالاته وتوجيهها إيجابيا، خاصة عندما يكون في نقاش محتدم وجها لوجه أمام منافس له في التوجه أو أمام صحفي مشاكس يحاول أن يستفزه وهو يقوم بدوره الرقابي من تمحيص وتدقيق في الملفات. فالحنكة السياسية، والمرجعية الثقافية، والمصداقية، يلاحظها المتلقي وهو يحاول فك رموز الخطاب ودلالات المصطلحات التي يتداولها السياسي، لمعرفة مدى صدق نيته ومدى التزامه بالمبادئ الجامعة، وليكون أيضا شاهدا على العهود التي يقطعها على نفسه وهو يطمح إلى خدمة الصالح العام. فذاكرة الإعلام كما ذاكرة المتفرج/المتلقي تحتفظ بكل شيء في أرشيفها، وتذكرك يوما بقولك وتعاقداتك. لذا فعلى السياسي أن يعرف أن الإعلام سلاح ذو حدين وأن يحترس في خرجاته الإعلامية لكي لا يكون كلامه سلاحا يوجه ضده. تواصل أم صدام ؟ العلاقة بين الصحافة والسياسة، في العالم العربي والإسلامي، كانت ولا زالت مركبة ومتباينة وصدامية تارة، ويكتنفها الغموض تارة أخرى، حيث تريد السياسة أن تجعل من الصحافة أداة طيّعة في يدها، في الوقت الذي تسعى فيه الصحافة إلى التعبير عن استقلاليتها وتطمح إلى كسر القيود التي يضعها السياسي للتضييق على حريتها. لماذا؟ وما الهدف من هذه المضايقات؟ ولأن السياسي في الأنظمة غير الديمقراطية تغويه السلطة من أجل السلطة، فإنه يسلك استراتيجية التغليط والاستغفال والتضليل من أجل الحصول عليها ومهما كلّفه الثمن. ولأن إنارة الرأي العام فيه إضرار بمصالحه، فإنه يسلك من جهة ثانية استراتيجية إخراس صوت الحق، وبالتالي احتواء الصحافة الفاضحة لسلوكياته. الصحافة تناصر حق المواطن البسيط، تحاسب الحكام، تطالب بسيادة القانون فوق الجميع وباستقلالية المؤسسات. كما تنبش في جميع الملفات حتى تلك التي تعتبرها بعض الأنظمة طابوهات. تتدخل في طبيعة نظام الحكم، وكيفية استعماله واستغلاله السلطة، مصادر الثروات، الميزانيات الخاصة والامتيازات، تداخل أدوار المؤسسات، السطو على الاختصاصات، تقديس الحكام، وإلى غير ذلك معيقات الديمقراطية. إذا كانت مسؤولية الصحافة هي تسليط الضوء الكاشف على زوايا يكتنفها الغموض وفتح ملفات سرية جدا لإظهار ما خفي من الأمور، فكل هذه الأدوار يجرّمها السياسي ويصفها بالمدنسة لأنها تلامس «مقدساته». لذا، فهو يحاول أن يجعلها شريكا في لعبته بشراء أقلامها لتلميع صورته وللخروج إلى دائرة ضوء النجومية. الصحافة العربية لا تزال تخوض معارك من أجل إثبات ذاتها وكينونتها. تجتهد في تجديد آلياتها وتناضل من أجل سن قوانين تضمن لها الاشتغال في جو تسوده الحرية والاستقلالية لممارسة حقها في النقد والمساءلة، وحقها في الاختلاف مع السياسات الرسمية التي تحوطّها بسياج المقدسات والمحرمات لخنق ودفن الحقائق. ربما يقول البعض أن صورة كهذه للصحافة لا توجد في العالم العربي لأنها أقرب إلى القدسية. في مناخ عالمي ألغى الحدود وقصّر المسافات، تعرف اليوم الصحافة العربية تيارات جديدة، وأجيالا جديدة من الكتاب أكثر احترافية وجرأة من ذي قبل. لكن تبقى الديمقراطية الحقيقية هي المتنفس الوحيد الذي بدونه لا تعرف الشعوب عبق الحرية. والديمقراطيات هي التي جعلت الإنسان يحترم نفسه ويحترم الآخر ويزداد ثقة في نفسه، يبدع ويحترم رسالته الصحفية النبيلة. في مناخ كهذا تسود فيه الديمقراطية على الجميع، حتى السياسة تمارس بأخلاقيات ومبادئ ومرجعيات، انطلاقا من فكر نضالي في خدمة الشعب. وتبقى الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية لكل بلد هي الجهاز المحدد لمدى تبلور الديمقراطية فيه. والقنوات التواصلية الأجنبية تعتبر منابر تساهم في تأطير شعوب بلاد أخرى، حيث يجد فيها المتلقي مصدرا لاستكشاف الحقائق من منابعها. إذا كان المتلقي المغربي والعربي، بفضل ثورة الإعلام والاتصال أو ما يصطلح عليه بالقنبلة المعلوماتية، يلتجئ إلى آليات تواصلية وقنوات فضائية أصبحت لسان حال المواطن وسلاحه المدافع عن حقه المستلب، فلأن إعلامه الرسمي تسيطر عليه الدولة وفقا لاستراتيجية الاحتواء السياسي وتحتكر ظهورها فيه وتمتلك معظمه وتسخره لخدمة توجهها وللترويج لسياساتها. في المغرب هناك برامج حوارية تبث في أوقات الذروة وتسجل نسبة قياس عالية في المشاهدة، حيث يلاحظ المتلقي شدة الانتقادات وأحيانا أخرى تصاعد لغة اللوم وتحمل المسؤولية، على اعتبار أن مبدأ هذا النوع من البرامج هو المساءلة في كل الملفات والقضايا التي تستحوذ باهتمام الرأي العام. كل شيء يبدو عاديا إلى حد الآن وكأننا نسير في الاتجاه الصحيح. لكن مهما تعددت طرق ومناهج اشتغال هذه البرامج التي يسيطر فيها المخزن على الصورة والكلمة، فإن المتلقي يلاحظ خدمة البرنامج للتوجه والمواقف الرسمية وقرارات المركز. هكذا إذن تستعمل بعض برامج التواصل السياسي كآلية لتلميع وخدمة بعض المؤسسات على حساب أخرى. وبهذا الشكل تؤدي وظيفة عكسية وتكون أداة خداع وتضليل، تفقد تأثيرها على الناس ويفقد معها الصحفي مصداقية إنارة الرأي العام. فالطموح إلى ولوج مرحلة الحداثة السياسية له علاقة وطيدة مع الانفتاح الإعلامي وتوسيع هامش حرية التعبير وتشجيع أنشطة ومشاريع إعلامية أجنبية في الأرض المحلية وليس إسكاتها وتبقى كل هذه المشاريع الإصلاحية رهينة باستقلالية الفضاء السمعي-البصري من هيمنة الدولة التي مازالت وفية لتقاليد وثقافة المخزن وممارساته البائدة. إن انفتاح سماء الإعلام الاحترافي جعل لنا عيونا وآذانا في جميع بقاع العالم، حيث تشتعل نار فتنة، أو كارثة أو نزاع أو بؤرة صراعات، وينقلها إلينا بالصوت والصورة مراسلون يخاطرون بأرواحهم من أجل الخبر المقدس. نحتاج اليوم إلى تحرير الصحافة المغربية من نفوذ مؤسسات الدولة ورقابتها. نحتاج إلى مقاربات جديدة تواكب تطور البنيات الفكرية وتطور المجتمعات الدولية والمنظومات التواصلية الحداثية. فتعديل قانون الصحافة وفقا للمعايير الدولية والذي لم ينجز في حكومة جطو، أصبح مطلبا استعجاليا. إن تحرير الإعلام هو تحرير الحقائق من المغالطات، هو فتح باب النقاش بكل مسؤولية وجرأة ووعي وديمقراطية، هو الاستماع إلى الرأي والرأي الآخر، والنقد مع التخلص من الرقابة في بلد مليء فيه الحقل السياسي بألغام اسمها المقدسات، وتتخلله خطوط حمراء وممنوعات ترغم المحلل السياسي على الانضباط وتحاصر حقه في التفكير وتجعله يتحفظ ويكبت غيظه وهو يحاول استقراء سلوكات السياسي وصيغ تدبير الأعمال والمنجزات السياسية، ويحللها وهو يضع على فمه لجام الرقابة الذاتية. بل هناك من أصبح يفضل عدم الخوض في المواضيع السياسية وهو يسمع مواطنين بسطاء تم اعتقالهم وصدرت في حقهم أحكام بالسجن، لاقترافهم «جنحة» المس بالمقدسات. إن سياسة تكميم الأفواه لم تمنع، على مرور تاريخ الأفكار والحضارات، الإنسان من التفكير سرا أو جهرا وأن يقول كلمته وينصرف. حتى وإن ضاق الأفق وتم تحريم ما يجب ذكره، وتم تهجين رسالة الإعلام وجعله أداة لطمس الوقائع ووضع الأصبع على أشياء جانبية وتقديم الحقائق في توصيفات أخرى، كتحميل المسؤولية لطرف واحد وجعله كبش فداء والتستر على باقي الأطراف المتواطئة. إن التراجع الذي تعرفه حرية التعبير في المغرب والأحداث التي وقعت ضد الصحفيين والحقوقيين، من تهديدات واعتداءات واعتقالات وتغريمات، تبعث على القلق وتنبئ بوضع غير آمن. ونحن نطمح أن تتطور آليات منظومتنا الاتصالية والتواصلية السياسية، نضم صوتنا إلى صوت صحافة مناضلة تحاول تجديد مقارباتها وتستحضر مبادئ حديثة وتساهم في ترسيخ ثقافة المساءلة والمحاسبة والمراقبة القبلية والبعدية للفاعل السياسي. وتعطي النموذج لأقلام تقدر المسؤولية التاريخية والرسالة السياسية وتدعم بسلطتها الرابعة السير نحو الانتقال الديمقراطي. لا يكفي أن تقتني قنواتنا الإعلامية «التوأم» أحدث المعدات التقنية للتعبير بلغة الصورة أنها تتطور، لأن الشكل يجب أن يوازيه تطور في المضمون أيضا. فالمتلقي، مهما تفاوتت مستوياته الثقافية، لا ينطلي عليه خطاب به تجاعيد العصور الغابرة ولكنه مغلف بمساحيق التجديد. باحثة في التواصل السياسي