شكل المغرب عبر التاريخ فضاء جذب للكثير من الوافدين عليه، فهناك من اتخذه محطة انطلاق نحو فضاءات أخرى، وهناك من فضل الإقامة فيه. وتحتفظ ذاكرة أزقة ومقاهي وفنادق أشهر المدن المغربية، مثل طنجة، ومراكش، وفاس، والصويرة، بسجلات كاملة عن العديدة من الشخصيات الأجنبية المعروفة "جاء إلى طرفاية ببشرة بيضاء، قبل أن تسودها السمرة المميزة لأغلب رجالات الصحراء.. وأصبح ملتحيا يرتدي رداء فضفاضا أزرق اللون.. بل أمسى مدمنا على شرب الشاي ولبن الإبل.. وعود طويل من شجر الأتيل لا يفارق فمه. وخلال أسابيع معدودة، تمكن من تعلم اللهجة الحسانية"، هكذا وصف الكاتب المغربي إبراهيم الحيسن في "سيرة مدينة مثقلة بركام التاريخ وبرائحة الأجانب"، الطيار والأديب الفرنسي الشهير أنطوان دي سانت إكزيبيري، الذي ارتبط بالمغرب وصحرائه، التي ألهمته أشهر أعماله، "الأمير الصغير"، و"أرض البشر"، و"الطيران الليلي"، و"رياح ورمال ونجوم" وغيرها. بعد مرور أزيد من نصف قرن على وفاته سنة 1944 في حادث طائرة، بادرت "جمعية أصدقاء أنطوان دي سانت إكزيبيري " بالمغرب، بالاحتفاء بهذا الكاتب والطيار الفرنسي المولود بليون في 29 يونيو 1900. ففي الرباط، حيث حصل الكاتب على رخصة الطيران، وفي الدارالبيضاء، حيث فندق إكسيليسيور، الذي اعتاد النزول فيه، وفي طرفاية، حيث ولدت النماذج الخيالية الأولى لروايته الشهيرة "الأمير الصغير"، التي طبعت بملايين النسخ بمختلف لغات العالم، تقام الاحتفالات بذكرى هذا الكاتب الفرنسي الذائع الصيت. على مدار السنة، يفد الكثير من المعجبين بأدب الكاتب من أوروبا وأمريكا، إلى طرفاية وتحديدا في البيت، الذي سكنه، حين كان يعمل هناك في مطار المدينة، وتحول إلى متحف خاص به، للاطلاع على المكان الذي عاش فيه فترة مهمة من حياته. يضم الكثير من المعروضات منها تمثال الكاتب وخارطة للخطوط الجوية لنقل البريد، التي كان يحلق سانت إكزيبيري بها، وكذلك صورة كبيرة له ببذلة الطيارين، وأولى الرسومات التي خطها لشخصية الأمير الصغير، ونماذج الطائرات التي صنعها. ولا توجد في غرف البيت سوى طاولة صغيرة صنعت من لوحة وضعت على برميلين كان المؤلف يستخدمها لدى كتابة الصفحات الأولى من روايته "الأمير الصغير" بطرفاية. يقول إبراهيم الحيسن في "سيرة مدينة مثقلة بركام التاريخ وبرائحة الأجانب"، "طرفاية من منظور آخر.. هي هذا النصب التذكاري، الذي يؤرخ لمقر كان الطيار والأديب الراحل أنطوان دي سانت إكزيبيري يتخذه بطرفاية محطة أساسية في تاريخ البريد الجوي، خصوصا خلال عامي 1927 و1928..في قلب هذا الموقع، ينبت هذا التذكار الذي يجسد للرحلات والمغامرات الجوية الكثيرة، التي قام بها إكزيبيري... هكذا أنهى مهمته التاسعة "أميرا صغيرا" فقد خذلته السماء ليستعيده البحر ميتا بعد أن تعطلت طائرته في شعاب الجغرافيا السماوية الوعرة لتقوده إلى الخلود والإقامة الأبدية. ولأصالة مدينة طرفاية وكرمها، فهي مازالت تحتضن الكثير من المعالم التي تؤرخ للوجود الأجنبي بها، ومنها طائرة إكزيبيري.. هناك كان إكزيبيري..وإكزيبيري كان هناك..في طرفاية..هو هكذا في السماء والأرض..أديب متعدد يكتب كل شيء.. وعن كل شيء بلغة وجدانية نادرة، كتب عن الطائرة ورسمها بعشق وحنان وكأنها كائن حي، تماما كما في وصفه للصحاري والنجوم والليل والرياح، وأيضا، في حديثه عن البدو الهائمين في صحرائهم يبحثون عن الماء والرعاة وقطعان الخراف.. وكل شيء.. كل شيء..هو هكذا كان كشاف مغامر.. مسافر أبدا، يتجدد باستمرار في كل رحلة برية أو جوية يخوضها، يقول مصرحا ومعترفا "لم أعد أشكو وابل المطر، فسحر المهنة يفتح لي عالما سأواجه فيه قبل أن تمر ساعتان الشياطين السود، وهامات الجبال تتوجها البروق الزرق، حيث أسير وقد هبط الليل وتحررت أقرأ طريقي في الكواكب" "أرض الرجال". قام أنطوان دي سانت إكزيبيري، برحلته الجوية الأولى وهو في الثانية عشرة، أخفق في الانتساب إلى المدرسة البحرية، وانتزعته الخدمة الوطنية من مدرسة الفنون الجميلة ليلتحق بورشة الصيانة في فوج للطيران. حصل على إجازة في الطيران فبدأ العمل المهني والإنتاج الأدبي. وفرت له الطائرة الفرصة لقراءة العالم الخارجي والتأمل الانفرادي بالوجود الإنساني الزائل، ومكنته، في الوقت نفسه، من إقامة علاقات متينة، في إطار العمل البطولي الذي انخرط فيه مع بدايات الطيران المدني. جاءت أقصوصة "الطيار" (1926) ، باكورة إنتاجه، مع بداية حياته المهنية في مؤسسة طيران خاصة لنقل البريد جوا من تولوز إلى مدينة دَكار في السنغال. أما كتابه "بريد الجنوب" (1929) ، فهو وليد تأملاته في عزلته في كاب جوبي في الصحراء المغربية، حيث عين رئيسا لمهبط للطيران، ونابع من تجربته الخاصة ومن مآسي زملائه الذين سقط كثير منهم في تلك المغامرة. حقق إكزيبيري مجده الأدبي في العام 1939 بنشره أرض البشر، وهي مجموعة من المقالات منحته عليها الأكاديمية الفرنسية الجائزة الكبرى للرواية. بعد هزيمة عام 1940 انتقل سانت إكزيبيري إلى نيويورك، حيث جاهد، كاتبا ومحاضرا، في تأليب الرأي العام واستنهاض القوى انتصارا للوطن الجريح المحتل. أصدر "طيار الحرب" (1942) ، الذي لاقى رواجا كبيرا وصدى هائلا. وجاءت "رسالة إلى رهينة" (1943) لتهز مشاعر الجمهور العريض، أما رواية "الأمير الصغير" (1943) الرمزية، فخلدت أسطورة الكاتب الطيار بمئات الترجمات وملايين النسخ في العالم أجمع. وفي 31 يوليوز 1944 اختفى سانت إكزيبيري بطائرته في طلعته الأخيرة المقررة، ولم يعثر على حطام طائرت إلا في عام 2004 في عرض البحر المتوسط، قبالة مدينة مرسيليا.