شكل المغرب عبر التاريخ فضاء جذب للكثير من الوافدين عليه، فهناك من اتخذه محطة انطلاق نحو فضاءات أخرى، وهناك من فضل الإقامة فيه. وتحتفظ ذاكرة أزقة ومقاهي وفنادق أشهر المدن المغربية، مثل طنجة، ومراكش، وفاس، والصويرة، بسجلات كاملة عن العديدة من الشخصيات الأجنبية المعروفة يعتبر جاك رومان جورج بريل، الذي ولد في الثامن من أبريل 1929 في شاربيك في عائلة من بورجوازية بروكسيل، مغنيا وشاعرا ومؤلفا ورجل استعراض، إلى جانب أنه يجسد حالة فنية، ثقافية وعاطفية. كل ذلك يفسر حضوره بهذه القوة في الوجدان الجماعي، فهو الرجل القبيح الذي يملك قدرا خارقا من الجاذبية، والفلمنكي، الذي اختار اللغة الفرنسية، والعاشق الذي أسرف في الشراب والدخان والنساء والسفر. من بين البلدان القريبة إلى وجدانه، المغرب، إذ يتذكر المغاربة، خصوصا سكان مدينة الدارالبيضاء، السهرة التي أحياها بالمسرح البلدي في سنة 1965. كان عمر جاك بريل لا يتجاوز 27 سنة، عندما زار المغرب لأول مرة سنة 1956، يقول الشاعر محمد الواكيرا، في إحدى شهاداته المضمنة في كتاب حول جاك بريل، الذي أعدته السفارة البلجيكية في المغرب، "حل جاك بريل بادئ الأمر بالدارالبيضاء، سنة 1956، وأحيى المغني البلجيكي في جولته الأولى حفلا موسيقيا بحلبة مصارعة الثيران "ليزارين"، بشارع آنفا بالدارالبيضاء". ونظرا للحب الكبير، الذي كان يكنه جاك بريل للمغرب، قدم عروضا كثيرة على المنصات المغربية بين سنتي 1956 و1964، قبل جولته المشهودة في نونبر 1966. كما يقال إنه لحن أغنيته الناجحة la valse a mille temps وهو على الطريق الرابطة بين طنجةوالدار البيضاء. أحيى بريل العديد من الحفلات الموسيقية في الدارالبيضاء، والرباط، خصوصا، بسينما مسرح أكدال، التي اختفت بعد ذلك، كما تؤكد أمينة الفاسي الفهري، وهي أستاذة الأدب الفرنسي وباحثة مختصة في إنتاجات المغني جاك بريل، وهو شغف أصابها عقب هذا الحفل. زيارات بريل الأولى إلى المغرب كانت خاطفة، رغم أنه قوبل باستقبال حاشد من قبل عشاقه الذين تعرفوا عليه، من قبل، عبر أسطواناته التي كانت تصل إلى المغرب، أو الاستماع إلى أغانيه التي كانت تبثها الإذاعة المغربية، ضمن برنامج كان يعده الإعلامي علي حسن، بينما حظي بعضهم بفرصة مشاهدته عيانا خلال حفلاته ببلجيكا وفرنسا. توالت جولات بريل بالمغرب كلمح البصر سنوات 1959، ثم سنة 1964، وهي السنة التي أحيى فيها بريل حفلات غنائية بعدة مدن مغربية. من مبادئ جاك بريل الفنية، أنه لا يهتم كثيرا بالمال، إلى درجة أن سهرة المسرح البلدي، التي أحياها لم يتجاور أجره فيها مبلغ 10000 درهم، وإن كان هذا المبلغ في الستينيات من القرن الماضي، يعد مبلغا كبيرا. لكن بريل الفنان البلجيكي، الذي خص المهاجرين المغاربة، بأغان تجسد معاناتهم مع الهجرة والميز، لا يعطي أهمية قصوى للجانب المادي، فثمة جانب فني يأخذه في الاعتبار، ويأخذه في مجمل انشغالاته، وهو الجانب الإنساني. إنه فنان كريم، تجلى كرمه، حينما رأى مجموعة من الطلبة المغاربة لا يتوفرون على نقود لشراء التذاكر، فكان منه إلا أن اشترى لهم تذاكر الدخول لمتابعة السهرة. كان المغرب يشكل لجاك بريل بلدا منفتحا وكان يزوره من حين إلى آخر، ويقضي في المدينة القديمة بالدارالبيضاء نهاية الأسبوع. أحب المطبخ المغربي كثيرا، ومن بين الأطباق التي كان يفضلها يأتي الطاجين في المقدمة والسمك، وكان من زبناء مطعم الميناء بالدارالبيضاء. كما كان يتردد على مقهى "السفانكس"، بالمحمدية، وفيها أبدع بعض أغانيه المشهورة. في علاقته بالمهرجانات، والملتقيات الفنية، حضر جاك بريل في سنة 1973 ضيفا على فعاليات مهرجان الفنون الشعبية بمراكش. وبعد انتهاء الحفل، خرج في جولة لاستطلاع حواري وأزقة مراكش، خصوصا المدينة القديمة، كما زار مدينة كلميم، التي أبدى إعجابه بها، وعبر عن رغبته في العيش بمكان لا تظهر فيه علامات التحضر. في خريف 1974 فيما كان بريل يقوم برحلة عبر الأطلسي في سفينة، شخص الأطباء لديه إصابة بالسرطان قاومها أربع سنوات قبل أن تقضي عليه. ووري الثرى في 14 أكتوبر 1978 في مدفن اتوونا في المركيز على مقربة من ضريح الرسام بول غوغان. كان بريل مولعا بالسفن والطائرات، كما عمل في السينما كممثل، إذ برع في فيلم "لاميردور" (المزعج) للمخرج ادوار مولينارو مع النجم الإيطالي لينو فنتورا عام 1973 وكمخرج لفيلمين هما "فرانتز" و"لو فار وست". ظل بريل يحظى بشعبية كبيرة مع أنه توقف عن إحياء حفلات موسيقية، منذ السادس عشر من ماي 1967، وكان جمهوره يتشوق إلى أخباره، لا سيما بعد السرية التي أحاط بها المغني انتقاله للعيش في جزر المركيز. وبعد غياب عن الساحة الموسيقية استمر11عاما، سجل بريل في خريف 1977 آخر أسطوانة له اختار لها عنوان "لي ماركيز" فصدرت في 17 نونبر، وسجلت رقما قياسيا من حيث الطلبات المسبقة عليها التي بلغت مليون طلب. وبيع منها 300 ألف نسخة في الساعة التي تلت عرضها للبيع.