شارك فنانون مغاربة في ليلة جاك بريل التي أقيمت في الدارالبيضاء الأسبوع الماضي وابتدأت السهرة بأداء المغني «مامون» لبعض أشهر أغاني الراحل، ويعتبر «مامون» من بين المحافظين على إحياء بريل في المغرب، كما يجسد إعجاب المغاربة بهذا الفنان، وقد قام الصحافي عمر سليم بغناء إحدى أغاني الراحل مع مامون على خشبة المسرح وكما شارك قنصل بلجيكا بالمغرب في فرقة العزف. بعد ذلك قامت المطربة والشاعرة «سمية عبد العزيز» بإتحاف الجمهور بثلاث روائع لبريل، قبل أن يتقدم الفنان «جوهان فرمينين» القادم من بروكسيل، بدوره إلى المنصة، وهو يشاطر بريل نفس الطبيعة الجامحة المتمردة. وأخيرا، ومن ضمن قائمة الفنانين الذين أحيوا حفل التكريم نجد «فرانسيس غويا»، عازف القيثارة الأسطوري «لديميس روسوس».مازال جاك بريل، الفنان الخالد، يؤثر عميقا في نفوس عشاق ومحبي الموسيقى في العالم بأسره ببصماته الراسخة التي خلفها في الموسوعة الغنائية الفرنسية. أول أمس احتفل المغاربة بمرور ثلاثين عاما على رحيل جاك بريل، في سهرة تكريمية للفنان تحت عنوان «بريل المغرب»، وقد قام «علي حسن»، مذيع الإذاعة والتلفزة المغربية، بتقديمها والتعريف بجاك بريل في المغرب في مقدمة الحفل، الذي حضره فنانون مغاربة وبلجيكيون يجمعهم شغف وإعجاب كبيرين بالفنان بتقديم أشهر أغانيه. والذي نظم من طرف كل من ولاية جهة الدارالبيضاء الكبرى ومدينة الدارالبيضاء والقنصلية العامة لبلجيكابالدارالبيضاء، بتعاون مع وزارة الشؤون الخارجية لبلجيكا ووفد والوني ببروكسيل، وذلك في قاعة مكتب الصرف بالدارالبيضاء. وقد اعتبر حفل التكريم استعادة لمسيرة غنية وفريدة، بقي تأثيرها كاملا على جيل الشباب. ولد جاك بريل سنة 1929 وتوفي في 1978، ويعتبر فضلا عن كونه مغنيا شاعرا ومؤلفا ورجل استعراض، كما أنه يجسد حالة فنية، ثقافية وعاطفية. كل ذلك يفسر حضوره بهذه القوة في الوجدان الجماعي، فهو الرجل القبيح الذي يملك قدرا خارقا من الجاذبية، والفلمنكي الذي اختار اللغة الفرنسية، والعاشق الذي أسرف في الشراب والدخان والنساء... اعتزل الغناء في ذروة تألقه (1966-1968)، كي ينصرف لتحقيق أحلامه الخاصة، ثم عاد إلى الخشبة ممثلا، وقف أمام الكاميرا ووراءها. فكثيرون ربما يجهلون أن بريل ممثل ومخرج سينمائي أيضا، وهو هاوي السفن الشراعية والطائرات، إذ كان يذهب في رحلات بحرية تستغرق أسابيع طويلة، كما تعلم الطيران. ونظرا للحب الكبير الذي كان يكنه جاك بريل للمغرب، فقد قدم عروضا كثيرة على المنصات المغربية بين سنتي 1956 و1964، قبل جولته المشهودة في نوفمبر 1966. كما يقال إن الفنان لحن أغنيته الناجحة « la valse a mille « temps وهو على الطريق الملتوية الرابطة بين طنجة والدارالبيضاء. السنوات الأولى لم تكن سهلة بالنسبة إلى بريل، إذ في البداية لم يقبل به أحد. فنانون معروفون، مثل إيف مونتان، رفضوا أغنياته، ولم يتحمس له الجمهور الذي كان يضحك من إطلالته «الريفية». ومرة كتب أحد النقاد المرموقين: «هذا الشاب يكتب أغنيات جميلة، ليته فقط يمتنع عن أدائها». لكن منذ منتصف الخمسينيات تتالت الأسطوانات، وبين ليلة وضحاها صار جاك بريل الأسطورة التي نعرف. أغنيات بسيطة وقوية، تحكي عن الحب والعشاق القدامى والزمن الهارب، تنظر برقة إلى العجائز، تحيي الزعيم الاشتراكي القتيل «جان جوريز»، تسخر من البورجوازية، من المناهج التربوية، كما تسخر من الذات ومن العالم، بكثير من الصدق والعفوية والجدية. كان يلهب الصالات بأدائه الخاص، بطريقته في التعبير الجسدي والانفعال واللفظ والإيماءات، وتوظيف الصوت في خدمة الموقف. لايزال الجمهور المغربي منبهرا إلى غاية اليوم بالموهبة الخارقة للفنان الكبير جاك. قد اندرج الحفل التكريمي لجاك بريل في سياق تعزيز التبادلات الثقافية بين بلجيكا والمغرب، حيث طالما توطدت علاقات الأخوة والصداقة الرابطة بينهما، ولأن جاك بريل أبان عن حبه للمغرب، فإنه يعتبر أمثل رمز لهذه الرابطة الوثيقة التي يعززها وجود جالية مغربية هامة في الديار البلجيكية. عام 1975 كان المرض الخبيث قد تفشى في رئتيه، قبل أن ينتشر في جسده، حين قرر الانتقال للعيش في إحدى جزر المركيز، برفقة مادي الممثلة والراقصة التي تعرف عليها أيام تصوير فيلم «كلود لولوش». تلك المرحلة الأخيرة كرس لها أسطوانته تحت عنوان «لماركيز» (1977)، والتي سجلها في باريس بعد انقطاع عشر سنوات، وباعت «قبل صدورها» مليون نسخة. يوم الإطلاق كان بريل في الطائرة عائدا إلى جزيرته، حيث دفن بعد أقل من عام في مقبرة «أتونا»، في جوار الرسام «بول غوغان»... كان ذلك في مثل هذا اليوم، قبل ثلاثين عاما.